صعود المسيح
للأب متى المسكين
فلنفرح بعيد الصعود الذي به أجلسنا المسيح معه في السماويات، وأعد لنا المكان السعيد، الذي سبق فتكلَّم عنه، الذي هو جلوسنا معه عن يمين العظمة في الأعالي.
لأننا صرنا في المسيح مصالَحين مع الآب إلى الأبد، محفوظين برضا ورحمة القدير، وليس كما كان آدم الأول في مجرد فردوس وشجر وثمر، يفتقده الله من حين لآخر،
ولكن صرنا في فادينا الحبيب – آدم الثاني – مع الله على الدوام، وإن كنا متغرِّبين الآن عن وطننا السمائي، متألمين يسيرًا ليتزكَّى إيماننا ونوجَد أهلًا لهذا النصيب الفاخر، إلا أننا بالإيمان نعيش وكأننا مستوطنون دائمًا بالرجاء الذي سكبه المسيح فينا، وبالحب الذي يحوِّل الألم إلى لذة، وغير الموجود يجعله أمامنا موجودًا بالرؤيا القلبية التي بالنور الخفي ترى النور غير المنظور، متوقعين بالصبر والشكر لحظة اللُّقيا التي نحظى فيها بوجه الحبيب، فلا يعود يُنزع منا إلى الأبد.
لأن مسرَّة المسيح قبل أن ينطلق إلى الآب، التي قدمها بصلاة إنجيل يوحنا الأصحاح 17، أن نكون نحن حيث يكون هو على الدوام لنرى مجده ونوجد فيه، هذا الذي صار لنا بعد صعوده حقيقة حية رآها اسطفانوس الشهيد بعينيه، والتي لما رآها وتحقق منها سهُل عليه أن يخلع خيمته الأرضية بسرعة، ناظرًا بيقين الإيمان والعيان معًا المكان الذي أعده له المسيح والبناء العجيب الذي في السماء غير المصنوع بيدٍ، الأبدي، جسد المسيح الذي يملأ الكل والكل فيه.
نحن الآن نأكل جسده ونشرب دمه وعيوننا مقفولة لا نستطيع أن نرى بهاء هذا الجسد وروعة هذا الدم، لئلا نفزع ونرتعب ونسقط على وجوهنا ولا نضبط قوة أن نفتح أفواهنا لتقبُّل جمر اللاهوت المخيف. ولكن ما بالنا لا نرى أنفسنا متحدين اتحادًا بهذا الجسد وهو في ملء نور اللاهوت، ودم المسيح يسري فينا وهو حامل إلينا روح الألوهة يسكبها في كياننا فنصير ملوكًا وكهنة لله أبيه ونملك معه في ميراث بنوية الآب التي لا تُحدُّ؟
لأجل هذا يدعونا القديس بولس الرسول بإلحاح سرِّي لا يفهمه إلا الواصلون بالروح لسرِّ الوجود الإلهي: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس» (كو 3: 1)، الذي معناه أن القيامة وحدها لا تكفي.
فبعد القيامة هناك أمجاد الوجود في الحضرة الإلهية حيث جلس المسيح – بنا – عن يمين الآب رهن طلب الذين أحبوا المسيح ولم يطيقوا أن يبقوا بدونه أبدًا.
فحيث المسيح يوجد الآن يكون لنا حق الوجود. وطلبنا هذا هو من صميم طلب المسيح نفسه ومسرته التي سبق وأن ألحَّ على الآب أن يمنحها لنا كلما طلبناها، لأنها صارت من حقِّنا بسبب بشريتنا التي اتحد بها بوفاق وحبٍّ وعهد أن لا يخلعها أبدًا ولا يهجرها إطلاقًا ولا ينساها لحظة واحدة أو طرفة عين!
أما أن «نطلب ما فوق حيث المسيح جالس»، فهو أن نطلب الوجود الدائم في حضرة الله، الذي صار لنا حقًّا أبديًا في المسيح، نطلبه الآن كطلب بدموع وإلحاح.
فإذا ما أخذناه لا يعود يُنزع منا لأنه نصيبنا المحفوظ لنا في السموات، الذي لا يتدنس قط بسبب قصورنا بعد، ولا يضمحل أبداً بسبب اضمحلال كياننا الجسداني.
والوجود في حضرة الله، بإحساس الاتحاد بالمسيح الذي أكمله فينا ولنا مجاناً، هو سر السعادة التي وفرها المسيح لنا في وسط أحزان العالم وبرغم كل عجز البشرية وقصورها المحزن والمؤلم.
الإحساس بالوجود في حضرة الله بالمسيح كفيل أن يُعطي الإنسان سلاماً قلبياً يفوق العقل بكل اضطراباته وعجزه.
ولكن هذه الحضرة ليست مسرة نلهو فيها، بل هي عينها الصلاة، الصلاة في ملء حرارتها وهدوئها ورزانتها، الصلاة الكاملة التي فيها يهدأ الجسد وترتاح النفس وتبتهج الروح بذكر الثالوث وتمجيد الآب وترديد اسم المخلص ونداء الروح القدس بتواتر ورجاء ودالة مستمدة من الصليب والدم المسفوك.
وإن كان ينبغي أن نئن كثيرًا في أنفسنا من أجل ثقل الجسد، وقد أصبح كالخيمة التي مزقتها الرياح المكروهة ونشتاق في أنفسنا أن نلبس فوقها الذي من السماء، ولكن هذا غير ممكن.
لابد أن نخلعها أولاً حتى نستطيع أن نلبس المسيح ونوجد فيه بلا مانع، لأن الفاسد لا يمكن أن يرث عدم الفساد. لذلك سوف تظل صلواتنا ممزوجة بالدموع، وفرحتنا بالوجود في الحضرة الإلهية يشوبها أنين الحسرة من أجل عدم قدرتنا الآن على لبس السمائي.
ولكن لنا ثقة أنه كما لبسنا الترابي نلبس السمائي أيضاً ولن نوجد أبدًا عراة من نعمة الله، لأن الذي خلقنا هو نفسه أعاد خلقتنا وهيَّأها للتجديد المزمع أن يكون في ملء القداسة وبر الله.
لذلك ينبغي، أيها الأحباء، أن نعترف الآن بفقرنا جداً، مع أن غِنَى الميراث كله الذي للابن قد كُتب وتسجَّل لنا نصيبًا، ولكن ليس لنا هنا غِنىً أبداً حيث عالم الخديعة والغش.
ليس لنا هنا مدينة باقية ولا وطن دائم ولا كرامة ولا صيت ولا اسم ولا راحة حقيقية، بل نطلب العتيد منها الذي ليس فيه غش ولا ظل دوران.
لذلك يقول القديس بولس الرسول مُلحًّا: «اطلبوا ما فوق»!! وهل ممكن لإنسان يطلب ما هنا ويسعى وراء ما هو في أفواه الناس أو في أيدي الناس أو في تراب الأرض،
ثم يستطيع أن يرى ما فوق أو يطلبه؟ فإما أن نسعى إلى أن نكمل ما هنا ليكون لنا فيه فرحنا وسرورنا وراحتنا ومجدنا، وإما أن نرفض ما هنا لنتفرغ لطلب ما فوق لمجد الله.
الذي يسعى وراء كرامة على الأرض، يطلبها في قلبه ويشتهيها في نفسه، لا يمكن أن يتبقَّى له قوة إيمان بما فوق يمكنه أن يشدَّ نفسه إليها ويطلبها.
الذي يطلب ما على الأرض، لا يمكن أن يقوى على طلب ما فوق!
الذي لم يتفرغ بالحق لطلب ما هو فوق، هو محروم من مجد الصعود، وضيَّع على نفسه ثمرة الصليب والقيامة. لأن المسيح احتمل الأحزان والآلام والصليب من أجل السرور الموضوع أمامه، سرور المصالحة العظمى في آخر مراحلها عندما قدَّم البشرية التي فيه للآب مفديَّة مبرَّأة مطهَّرة مغسولة بالدم، وأجلسها معه عن يمين الآب!
فكما تكلَّلت آلام الصليب بالقيامة، هكذا تكلَّلت القيامة بالصعود والجلوس عن يمين الآب. لذلك ففي الصعود سر الاحتمال الأعظم لكل ألم حتى الموت!!
وفي الجلوس في السماويَّات مع المسيح نهاية كل رجاء وكل فرح، بل وغاية كل الخليقة العتيقة والجديدة.
أما لنا نحن الرهبان، فالصعود الذي يمثل أوج النصرة على العالم هو عيدنا الذي نرى فيه أنفسنا تطير فوق هموم الدنيا وأوهامها وغرورها.
فلو تمثَّلتم معي وضع الرّب وهو صاعدٌ والعالم كله واقع تحت قدميه، لأدركتم معنى الآية: «قال الرّب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك» (مز 110: 1).
هكذا كل راهب خرج من العالم خروجاً صادقاً بالروح والحق جاعلاً قلبه وفكره فوق في السماء، هذا يكون قد حقَّق قوة الصعود التي وهبها لنا الله بالمسيح منذ الآن بالسر جزئياً، أي بالفكر والقلب، تمهيداً للتكميل الكلِّي المزمع أن يكون.
الراهب الحقيقي – إذن – هو مَن يعيش عيد الصعود مكتفيًا بما فوق، وبالروح والحق، كل أيامه. لا يخشى شيئاً ما على الأرض:
لا شدَّة ولا ضيق ولا اضطهاد ولا جوع ولا عُري ولا خطر ولا سيف، وهو لا يشتهي شيئاً ما مما على الأرض:
لا كرامة ولا صداقة ولا رئاسة ولا سلطان ولا مديح ولا اسم ولا شكل ولا لقب، لأنه يغتذي سراً بما فوق من طعام الحق وشراب الحب الذي كل مَن يغتذي به ينسى كل ما في هذا الدهر، ينسى أهله وينسى موطنه وينسى حتى نفسه.
كل إنسان في المسيح يترجَّى حياة الدهر الآتي حسب قانون الأمانة العام. أما الراهب، يا إخوة، فهو إنسان يعيش الدهر الآتي لأنه مات عن هذا الدهر الفاني. الصعود ليس فقط عيدنا – نحن الرهبان – بل هو عملنا اليومي تجاه هذا الدهر، وهو حياتنا الوحيدة التي تبقَّت لنا.
من الملابسات ذات المعنى وذات الفعل في إنجيل عيد الصعود، قوله: «وفيما هو يباركهم، انفرد عنهم، وأُصعِدَ إلى السماء» (لو 24: 51). لا يمكن أن ندخل حالة الصعود بالروح، يا إخوة، أو نتذوقها إلا إذا كنا في هذه الحالة عينها، أي «وفيما نحن نبارِك»، لا بد أن نكون على مستوى الصلاة والبركة على كل إنسان، على كل مُضطهِد، على كل مُسيء أو شاتم أو مُعيِّر أو مُخرِج كل كلمة شريرة علينا، لا بد أن يكون قلبنا في حالة صفح كلِّي وسلام صادق وحنو ومودة لكل إنسان، حتى نستطيع أن ننفكَّ من قيود جاذبية الأرض والتراب وننطلق في إحساس الصعود ونتذوقه ونعيشه بالروح والحق.
ثم لابد أيضاً أن نكون في حالة «وانفرد عنهم»، حتى يمكن أن نمارس حالة إصعاد يُتمِّمها فينا المسيح فوق العالم. الانفراد عن الناس يؤهِّل الراهب لحالة تقبُّل قوة داخلية يمارس بها الخروج الدائم والإرادي من العالم.
الإنسان دائماً أبداً يجذب الإنسان أخاه إلى نفسه ليتعظَّم به أو يتقوَّى به أو يُمتَدَح به أو يتسلَّى به، والاثنان في النهاية كل منهما يخسر نفسه بهذا الجذب السلبي. لذلك كل انفراد عن الناس هو قوة، لو أن الانفراد كان مع الله وبالله، وهو حتماً يؤهِّل لحالة الانجذاب إلى الله، أو بمعنى آخر إلى إصعاد روحي بالحق وبالسرِّ.
لذلك قلتُ لكم إن عيد الصعود هو عيدنا نحن الرهبان، بالدرجة الأولى، وهو عملنا وهو حياتنا، لو استطعنا أن نكون دائمًا في حالة بركة صادرة من أعماقنا تجاه جميع الناس، وكنا أيضاً في حالة انفراد إيجابي عن الناس من أجل الله.
Discussion about this post