الصعود الإلهي هو حدث ارتفاع المسيح الى السماء، وهو حدث كنسي بمعنى أنه يعبر بنا الى زمن الكنيسة. إنطباع الرحيل فيه لا يسمح للمستنيرين أن يتحسّروا تحسّرًا عقيمًا على الماضي ولا أن يلقوا نظرة سراب إلى المستقبل، فمع كون الصعود مفرقًا حاسمًا ونهاية علاقة خارجية مع يسوع إلا أنه، بنوع خاص، افتتاح علاقة إيمان جديدة كليًّا وإعلان زمن جديد.
والصعود، تاليا، هو عيدُ الكنيسة لأنه، بالنسبة إليها، يحوي أكثر الوعود تمجيدًا، لكونه باكورة صعودها هي الى السماء. فالمسيح الرّب بما أنه رأس الجسد – الكنيسة – (أفسس 1: 20 – 23) وهو قائم بجسده عن يمين العظمة الإلهية (أعمال 7: 55؛ عبرانيين 1: 3 و8: 1) فالكنيسة تعلم علم اليقين أنها تشترك بالمجد ذاته ولو كان عليها أن تجاهد، إلى حين، جهادات الأرض. هذا ما بيّنه القديس يوحنا الذهبي الفم إذ قال: “لقد دخلت إنسانية الجميع نهائيًا في ناسوت المسيح في الصعود السماوي، وقد تحققت أبديتنا من دون رجعة…. وأصبح منذئذ “موطننا في السموات” (فيلبي 3: 20).
حادثة الصعود هذه على عظمتها وقوة معناها لم تشغل في العهد سوى بالجديد ضعة أسطر. الكتابان الأساسيان اللذان يوردان الحدث هما كتابا لوقا: الإنجيل وأعمال الرسل. إيراد هذه الحادثة على يد كاتب واحد في كتابين، وجعلها في وقتين ومكانين مختلفين، له خصوصية لاهوتية سنحاول الوقوف أمام بعض معانيها. في إنجيل لوقا يكشف يسوع القائم من بين الاموات لخاصته ببراهين كثيرة أنه حي، فيحدّثهم ويعلّمهم ويؤاكلهم ومن ثم، يقول النص: “انفصل عنهم ورُفع الى السماء” (24: 51). إلا أن يسوع، قُبيل رحيله، يعمل معهم عملًا خاصّا:”يباركهم”، والتلاميذ يسجدون له.
الصعود الذي يجري، في كتاب أعمال الرسل، في جبل الزيتون (1: 4-11)، هو تتمة السرّ الفصحي ويشكل نقطة ابتداء زمن الكنيسة، ذلك أنه كشْفُ مسبق وتهيئة للحدث العظيم الذي هو “العنصرة”. فالروح آت، والرب باق معنا(ولعله هذا يفسّر فرح التلاميذ في إنجيل لوقا 24: 52)إلا أننا لا يمكننا رؤيته بعد الآن إلا بمظاهر الروح القدس لذلك كان لا بدّ للمسيح أن ينطلق “لأنني إن لم أنطلق لا يأتكم المعزي” (يوحنا 16: 7)، وهذا لا يفضي، كما قال هو نفسه لتلاميذه، بالكنيسة إلى الحزن وإنما الى الفرح. فالصعود الإلهي ليس حدثًا يؤكد على رحيل الرّب – ولو كان هذا ظاهره – وإنما على حضوره معنا إلى الأبد، كما قال لتلاميذه: “هاءنذا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر” (متى 28ك 20) ولكن بروحه القدوس.
استعمل المسيحيون الأوائل لغات متعددة ليصفوا قوة هذا الحدث الخلاصي (لغة القيامة، لغة الارتفاع) وذلك أن عملية الفداء تفترض تتويجا، والصعود – من هذه الناحية- يشير إلى دخول المسيح في ملكه. يقول نرساي المعلّم الملقب بلسان الشرق (399-502) في حديثه عن صعود الرب: “حين نظرت ُ طينَنا انذهلت كثيرا كم عُظّم، فمع أنه تراب نال السلطان ومَلَكَ على الكون”. إلا أن الفارق الزمني الذي نجده في كتابَي لوقا له، بلا ريب، أبعاده اللاهوتية.
ففي الإنجيل يتم كل شيء (القيامة وظهورات القائم لتلاميذه والصعود) في اليوم ذاته، لأن تمجيد يسوع يفترض صعودا إلى الآب، وهذا بمنطق القيامة لا يعوزه زمن أبعد من لحظة القيامة ذاتها، فيسوع القائم من بين الاموات لا يمكن لأي مكان أو زمان أن يحدّ من سلطانه. أمّا في كتاب أعمال الرسل فيتمّ الحدث عينه بعد أربعين يوما من القيامة، ومما لا شك فيه ان هذا الرقم التقليدي لا يشير الى زمن الصعود، ذلك أن ما أراده الكاتب هو أن يوازي بين يسوع وكنيسته، فكما استعد يسوع لرسالته أربعين يومًا في البرية(لوقا 4: 2) فهو يهيىء كنيسته أربعين يوما فيكلّمها عن “ملكوت الله” (أعمال الرسل1: 3). صعود السيد الى السماء هو حدث ملازم للقيامة، ولكن مع انتشار تقليد “الأربعين يومًا” (أعمال 1: 3) أصبحت القيامة تعني تجدد العلاقة الأرضية بين المسيح وتلاميذه، ويشكل الصعود حدثًا منفصلًا.
وتحتفل الكنيسة في اليوم الأربعين للفصح المجيد بعيد صعود السيّد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب. والراجح أنّ الكنيسة، حتّى القرن الرابع الميلاديّ، كانت تعيّد هذا العيد مع عيد العنصرة في مناسبة واحدة. وكانت كنيسة أورشليم هي أوّل مَن جعلت من الصعود عيداً مستقلاًّ سرعان ما أصابت عدواه الكنائس كلّها.
لم تفصل الكنيسة الأولى بين أحداث الفصح والصعود والعنصرة، واعتبرت أنّ هذه الأحداث تشكّل حدثًا واحدً وتكمّل بعضها بعضًا. وقد قال القدّيس بطرس الرسول في خطبته الأولى يوم العنصرة: “فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن كلّنا شهود بذلك. وإذ كان قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الموعد بالروح القدس، أفاض هذا الروح الذي تنظرونه وتسمعونه” (أعمال الرسل 2: 32-33). هنا، يجمل الرسول الأحداث الثلاثة بعبارة واحدة، لأنّها بالنسبة إليه لا يمكن فصلها ولا يمكن القيامة أن تكتمل إلاّ بصعود المسيح وجلوسه عن يمين الله وحلول الروح القدس على التلاميذ.
يذكر القدّيس لوقا الإنجيليّ الصعود في موضعين مختلفين: في الفصل الأخير من إنجيله وفي الفصل الأوّل من سفر أعمال الرسل. ففي الإنجيل يذكر لوقا أنّ المسيح ارتفع إلى السماء في اليوم نفسه الذي قام فيه (لوقا 24: 50-53). أمّا في سفر أعمال الرسل فيذكر لوقا نفسه أنّ يسوع تراءى لتلاميذه مدّة أربعين يوماً يكلّمهم بما يختصّ بملكوت الله، و”ارتفع وهم ناظرون وأخذته سحابة عن عيونهم” (أعمال الرسل 1: 9).
يبدو كأنّ في هذين النصّين تناقضًا من حيث إنّ الرّب يسوع صعد في اليوم الأوّل للقيامة إلى السماء، ثمّ القول بأنّه صعد بعد أربعين يومًا. ولكنّ هذا التناقض يزول إذا ما أدركنا أنّ المسيح بقيامته من بين الأموات قد أتمّ كلّ شيء، فيكون حدث قيامته وصعوده حدثًا واحدًا. أمّا الأربعون يوماً فهي المدّة التي كان يسوع يتراءى فيها لتلاميذه لكي يهيّئهم لنوع جديد من حضوره بينهم.
إنّ عدد الأربعين في الكتاب المقدّس هو عدد رمزيّ يدلّ على مدّة طويلة تمهّد لحدث عظيم. فشعب العهد القديم سار أربعين سنة في الصحراء قبل دخول أرض الميعاد، والربّ صام أربعين يوماً قبل البدء ببشارته.
هكذا لم ينتظر السيّد المسيح أربعين يومًا لكي يصعد إلى السماء، بل صعد منذ اللحظة الأولى للقيامة، وما الأربعون يومًا إلاّ لتهيئة التلاميذ لحضور مختلف للربّ في ما بينهم. أمّا السحابة التي رفعت الربّ يسوع عن عيون تلاميذه فهي رمز لحضور الله.
فالله لا يمكن أن يُرى بأعين الجسد، لذلك يُرمز إليه دومًا في الكتاب المقدّس بالسحابة. ففي التجلّي يروي القدّيس لوقا أنّ سحابة قد ظلّلت الحاضرين، وكان صوت من السحابة يقول: “هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا” (لوقا 9: 34-35). يكون، إذاً، دخول السيّد المسيح في السحابة إشارة إلى دخوله في مجد الله.
أمّا “السماء” التي ارتفع إليها الرّب يسوع فليست الفضاء الخارجيّ الذي يحيط بالأرض، وليست مكانًا يمكن الصعود إليه بالقدرات البشريّة. إنّه عالَم لا تدركه حواسّنا ومخيّلتنا، ولكنّه عالم حقيقيّ ثابت أكثر حقيقة وثباتًا من عالمنا الحالي، وقد دشّنه الربّ عندما قام من بين الأموات. إنّ لفظ “السماء”، هنا في هذا المقام، لفظ معنويّ يشير إلى الله. إذاً، يكون الصعود إلى السماء صعودًا إلى مجد الله. في السياق عينه، عندما نقول إنّ السيّد المسيح “جلس عن يمين الآب” لا نقصد يميناً مكانيّة، إذ لا يمكن حصر اللامحصور في مكان محدّد. ولكنّنا، كما يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، “نعني بيمين الآب مجدَ لاهوته وكرامته اللذين يقيم فيهما ابن الله قبل الدهور، بصفته إلهاً، مساويًا للآب في الجوهر، ثمّ بصفته قد تجسّد، هو يجلس بالجسد (عن يمين الآب)”.
من هنا أهمّيّة الصعود والجلوس عن يمين الله بالنسبة الى خلاص البشر، فالرسول بولس يشدّد على هذه الناحية في رسالته إلى أهل أفسس حين يقول: “حين كنّا أمواتاً بالزلاّت أحيانا مع المسيح، فإنّكم بالنعمة مخلَّصون. وأقامنا معه وأجلسَنا معه في السماويّات في المسيح يسوع” (2: 5-6).
وفي هذا المنحى أيضًا يذهب كاتب الرسالة إلى العبرانيّين حين يعتبر أنّ السيّد المسيح قد دخل إلى قدس الأقداس، أي إلى السماء، من أجل أن يشفع بنا: “لأنّ المسيح لم يدخل إلى أقداس صنعتها الأيدي رموزاً للحقيقيّة بل دخل إلى السماء بعينها ليتراءى الآن أمام وجه الله من أجلنا” (9: 24).
والمسيح، بحسب الرسالة ذاتها، هو سابقٌ لنا قد أعدّ لنا مصيراً أفضل إذا قبلنا الدخول معه إلى حضرة الله الأبديّة، فيقول صاحب الرسالة إلى العبرانيّين: “حتّى نحصل على تعزية قويّة نحن الذين التجأنا إلى التمسّك بالرجاء الموضوع أمامنا الذي هو كمرساة أمينة راسخة تدخل إلى داخل الحجاب حيث دخل يسوع كسابق لنا وقد أقيم حَبرًا إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (6: 18-20). لقد صعد المسيح إلى السماء. رجاؤنا أن نكون معه حيث هو في مجده.
الصعود، بواقعه ومداه، هو صعودنا نحن أيضًا. فالبشرية الجديدة تأتي من السماء حياة وسلوكا وشوقا لا ينقطع الى الموطن الحقيقي.
فإن عيّدنا للصعود، منتظرين الروح الالهي، فلنتذكر أننا مواطنو الملكوت وأننا مدعوون، كل يوم، لأن نعلن هذه المواطنية.
Discussion about this post