الأحد الجديد
هو الأحد الأوّل، لقد قام السيّد منذ ثمانيّة أيّام وانتهت بهجة القيامة لمن لا يفتّش عن القيامة إلاّ في هذا العيد. لقد عبرنا فصح الرّب ودخلنا في حقيقة صعوبات حياتنا المسيحيّة: أن نؤمن بما لا يمكن لعقل أن يفهمه، أن نصدّق أن الرّب قد قام، وأنّه قام من أجلي أنا. صعوباتنا الإيمانيّة هي صعوبة توما نفسه، أحبّ كثيرًا فخاف أن يكون كلام الرّسل مجرّد اوهام، خاف من الأمل الخادع، خاف ان يعود إلى ألم موت المسيح مرّة أخرى إذا اكتشف ان ما تقوله النسوة والرسل هو مجرّد وهم عابر.
هي قصّتنا نحن، قصّة خوفنا من المجهول، نفضّل عدم التصديق، نفضّل أن نعتبر المسيح غائبًا عن حياتنا لئلاّ نتألّم من فقده مرّة أخرى. هي قصّة اتّكالنا المبالّغ به على عقلنا وقوانا العاقلة وتفتيشنا عن حقيقة الله من خلال المنطق الإنساني والدلائل العلميّة. هي قصّة قلب خفت حبّه تحت وطأة عقل كثر شكّه. هي قصّة مجتمع لم يعد يؤمن الاّ بما هو ملموس، وبما هو في متطاول يده.
لقد حضر الرّب الى العليّة مرّة أخرى، من أجل توما هذه المرّة، فالرّب يرفض ان يخسر واحدًا من القطيع ولو كان القطيع كبيرًا جدًّا، فالرّب جاء من أجل الجميع، وخلاصه لا ينتهي الاّ بخلاص من لا يزال خارجاً، لذلك أسلمنا أن نكمل الخلاص معه، ان نعلن خلاصه للعالم ونبشّر بقيامته في كلّ لحظة من لحظات حياتنا.
وبعد ثمانيّة أيّام: يرتبط هذا التاريخ بالآية 19، “وفي مساء ذلك اليوم، وكان يوم أحد”. هو إذا يوم الأحد التالي إذا أخذنا بعين الإعتبار الطريقة اليهوديّة في عدّ الأيّام، إذ يضمّون اليوم الأوّل والأخير الى قائمة الايّام التي يريدون عدّها. في اليوم الثامن تمّ العديد من الأحداث المهمّة والمرتبطة بقيامة الرّب يسوع: رواية تلميذي عمّاوس، لم يتعرّف عليه التلميذان إلاّ من خلال كسر الخبز الإفخارستي، وهنا وتوما لم يؤمن به إلاّ بعد الدعوة الى لمس جسده، وحدث التجلّي في لوقا يتمّ في اليوم الثامن، لأنّه حدثٌ لا يُمكن للتلاميذ فهمه إلاّ من خلال قيامة الرب من بين الأموات، ومن خلال الإفخارستيا داخل الجماعة الكنسية.
ما علاقة اليوم الثامن بالقيامة وبالإفخارستيا والكنيسة؟ “بالنسبة الى التقليد الرسولي، الذي يجد مصدره في يوم قيامة الرب ، تحتفل الكنيسة بالسرّ الفصحي كل ثمانية أيّام، في اليوم الذي يُدعى بحقّ يوم الرب أو يوم الأحد (Dies Dominica). إن يوم قيامة المسيح هو في الوقت عينه “اليوم الأوّل من الأسبوع”، تذكار اليوم الأول من الخلق، و”اليوم الثامن” الذي بعد “راحة السبت العظيم” إبتدأ المسيح “اليوم الذي صنعه الرب”، اليوم الذي لا يعرف غروباً، وعشاء الرب هو محوره لأن جماعة المؤمنين كلّها تلتقي فيه بالسيد القائم الذي يدعوها الى مائدته” . إن تسمية يوم القيامة، يوم الأحد، باليوم الأول بعد السبت، أي بعد اليوم السابع (متى 28، 1؛ مر 16، 2؛ لو 24، 1) قد كان سببه رؤية يوم القيامة كيوم أوّل وأخير، يربط الخلق وبالفداء.
إنجيل برنابا المنحول يتكلّم أيضًا عن اليوم الثامن كيوم قيامة الرّب من بين الأموات وصعوده الى السماء في إطار إحتفال الجماعة الليتورجي: “نحن أيضًا نحتفل بفرح في اليوم الثامن، حين قام أيضًا يسوع من بين الأموات وصعد الى السماء” (بر 15، 9) إن آباء الكنيسة قد حافظوا على هذه النظرة، فنجد يوستينيانوس يقول: “نجتمع كلّنا معًا في يوم الشمس، لأن هذا هو اليوم الأول بعد السبت اليهودي، إنما أيضًا اليوم الأول الذي بعد أن بدّل فيه الله الظلمة والمادة، خلق الكون، وفي هذا اليوم أيضاً قام من الأموات بسوع المسيح فادينا” . والقدّيس أغوسطينوس يقول: “سيكون اليوم الثامن مثل اليوم الأول، والحياة الأولى (أي الخلق) لن تُلغى، بل تتبدل الى حياة أبدية” .
“كان التلاميذ في البيت مرّة أخرى”. هذه الآية تحمل دلالة كنسيّة وأسراريّة افخارستيّة بغاية الأهميّة: البيت يشير دومًا الى الكنيسة، مكان لقاء الكنيسة الأولى. لن نبالغ فنقول أن التلاميذ كانوا مجتمعين لكسر الخبز في ذلك اليوم، فهم لا يزالوا مجموعة من الفارّين من وجه اليهود، يختبؤون خوفاً من الموت أو من العقاب. إنّما لا ننسى أيضًا أن هذا النّص قد انتقل من المرحلة الشفهيّة المتناقَلة الى حالة النّص المكتوب بعد فترة زمنيّة طويلة نسبيّاً، كان الكنيسة في أثنائها قد أوضحت نظرتها للإفخارستيّا وللقاء الكنسي ولمفهوم البيت- الكنيسة. تاريخيّاً، كان التلاميذ مختبؤون، أمّا من ناحية الجماعة التي تقرأ هذا النّص فاليوم الثامن يعني يوم الرّب، يوم اللّقاء وكسر الخبز، وتأتي كلمة “بيت” لتؤكّد على هذا الأمر. إن مسيحيّي جماعة يوحنّا قد قرأوا النّص من هذا المنظار وفهموا أن معرفة الرّب واللّقاء الحقيقيّ به تكون من خلال كسر الخبز ولمس يسوع بيد الإيمان ومعاينته كسيّد وكإله.
وكانَ توما معَهم: لسنا نعرف أين كان توما في لقاء الأسبوع السابق، فلا بدّ أنّه كان مختبئاً يترقّب ما سوف تؤول اليه الأمور في أورشليم. أما اليوم فقد انضمّ الى جماعة الرّسل. من العهد الجديد نعرف أن توما يتميّز بشكّه الدائم ورغبته في الحصول على ضمانات وتأكيدات محسوسة (مر 14، 5)، وبطبعه الحماسيّ غير الخالي من تهكّم (11، 16). إن توما هو صورة الإنسان المفتّش عن الفهم، يبحث عن أجوبة على أسئلته وعن ضمانات. إن التفتيش عن الفهم ليس خطأ، وسوف نرى في تاريخ الكنيسة عظماء مثل أغوسطينوس القائل: “أؤمن لكي أفهم وأفهم لكي أؤمن”، وتوما الأكويني الفيلسوف واللاهوتيّ الغائص في بحور العلوم الشاملة، وأنسلمس القائل بالإيمان الباحث عن الفهم. إنّما الخطأ في التفتيش عن الفهم هو الإنطلاق من نقطة: لا أومن إن لم أفهم. فالقدّيسين إنطلقوا من الإيمان وفتّشوا عن الفهم لكي ينيروا إيمانهم وإيمان الآخرين، وحين وصلوا الى نهاية طريق العقل، إستسلموا بين يديّ الله بعين الإيمان، دون حاجة الى ضمانات.
كلمات يسوع لتوما: إلانّك رأيت تؤمن؟ هو توبيخ قاسٍ للتلميذ الّذي عايش معلّمه وسمعه يقول للرجل الّذي جاء يلتمس شفاء فتاه: “أنتُم قوم لا تُؤمنونَ إلاَّ إذا رأيتُمُ الآياتِ والعَجائِبَ” (يو 4، 48). فالتتلمذ يعني الدخول في علاقة حبّ، والحبّ لا يبحث عن ضمانات، الحبّ يثق ويرجو ويعرف الإنتظار ليفهم حين يحين الأوان.
هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنا. لقد قبل يسوع تحدّي توما حبّاً به، جاء يتمّم مطلبه ليجعله مؤمناً، وفي عمل يسوع هذا استمراريّة لما تمّ على الصليب، فهو جاء يفتّش عن الخروف الضّال، والخروف الضّال هو واحد من تلاميذ الرّاعي المقرّبين، يجتذبه اليه من جديد لكيما من خلال يجتذب الكثيرين الى الأيمان والدخول في صداقة مع السيّد.
طلب توما هو تعبير عن رفضه لشكّ الصليب: لقد رأى التلميذ معلّمه يُصلَب، ومع المعلّم رأى وعود الله كلّها تضمحل. بموت يسوع تبدّدت آمال توما وطموحاته، سقط في لحظة الصلب أملَ إعادة المُلك الى إسرائيل. لقد آمن توما كثيراً لذلك كان رفضه قاسياً: آمن بمعلّم على قياسه، بربّ جاء يحقّق مشاريع توما الخاصّة، أو يتمّم إنتظارات جماعة الغيورين السياسيّة. طلب رؤية آثار الرمح والمسامير، لأن الرمح مزّق لا قلب يسوع فحسب، بل أحلام توما أيضًا، والمسامير خرقت، مع يدّي المخلّص، آمال التلميذ ومشاريعه الزمنيّة.
قبول يسوع لتحدّي توما كان لإعادة الإبن إلى أحضان أبيه. لم يستجب الرّب لتحدّيات الصالبين الصارخين: “إن كان ابن الله فليخلّص نفسه نازلًا عن الصليب” كما لم يستجب لتجارب الشيطان الثلاثة. فتوما يختلف عن الباقين، لقد طلب الضمانة لأنّه أحبّ كثيرًا، والرّب جاء يعيده لأنّه حضّر لتوما مشروع حياة، مشروع حمل الإنجيل الى أقاصي المسكونة.
إن قيمة إيمانِنا لا تظهر في المحتوى الفكريّ والقدرة على التحليل المنطقيّ لما آمنّا به، إنّما هي تكمن في القدرة على الدخول في علاقة شخصيّة مع يسوع المسيح، الحاضر، القائم في وسط الجماعة، والعامل في حياتنا. أن أومن لا يعني بالضرورة أن أفهم فكر حبيبي وأخضعه لنور المنطق، إن أومن يعني أن أحبّ هذا الشخص الّذي أدخلني الى حياته، أن أثق به وأن أنمو في معرفته. هذا لا يعني أن الإيمان لا علاقة له بالعقل، فالقدرة العقليّة هي أساسيّة في الإنسان، تساعدني على فهم محتوى الإيمان، إنّما حين يفشل العقل في إعطاء أجوبة شافية، عندها استسلم بين يديّ الربّ كابن له، أثق به، أفتّش عنه أن أكون مسيحيّاً لا يعني على الإطلاق أن أكون كائنًا يهمّش عقله وذكائه والمواهب الفكريّة التي أعطاني إيّاها الله، بل أنا مدعو للتعرّف الى خالقي بكلّ أبعاد إنسانيّتي. إنّما الفارق بين الإيمان المفتّش عن الفهم وبين الإيمان الّذي يشترط الفهم ليستمرّ هو أن الأوّل يعرف أن لا إمكانيّة لعقلنا البشريّ أن يدرك سرّ الله بعمقه، إنّما يسعى الى التعرّف اليه أكثر فأكثر، معرفة سوف تستمر مدى الأبد، إنّما حين يدرك المفتّش الحدّ الأقصى لقوّته العقليّة، عندها يرتمي بثقة بين يديّ الله، يؤمن به لأنّه يحبّه ويثق به، ويقدر أن يعرف أسراره بواسطة الحبّ لا بواسطة العقل فقط. أمّا الإيمان الطالب الفهم كشرط لإستمراريّته فهو إيمان وُلد ميتاً، هو إيمان مشروط، ينقصه الحبّ والرّجاء، تنقصه الثقة، هو إيمان مبنيّ على عقليّة تجاريّة، بقدر ما أفهم بقدر ما أؤمن، عندها لا ضرورة للإيمان، لكان الإيمان أضحى يقيناً، ولكان الله أصبح مجرّد ثابتة علميّة لا تحتاج للإيمان.
لقد فتّش توما عن الفهم كما نفتّس نحن كلّنا، إنّما علم أن الرّب يطلب الصداقة والثقة، ويقدر أن يعطي الأجوبة والضمانات. ويا لها من ضمانات نالها توما فآمن: جراح وآثار مسامير. هذا هو سرّ إيماننا كلّه، لا يكفي أن نؤمن بإله تجسّد وهو مالك على الكون بأسره، نحن مدعّوون لنؤمن بإله تألّم من أجلنا، إله صار ضعيفاً، متألّماً، لا يعطينا أيّة ضمانة أننّا لن نتألّم، بل بالعكس، يعدنا بالألم والتضحية والصعوبات على هذه الأرض، لنعيش شخصيّاً مسيرة آلامه وصولاً الى القيامة. الضمانة الوحيدة التّي يقدّمها المسيح لنا هي جراحه، هي آلامه وقيامته، لتصبح لنا برنامج حياة، نقبل إلهاً تألّم بسبب الحب، فنقبل نحن بالتضحية بأنفسنا حبّاً به وبالآخرين.
توما هو مثال للكائن المؤمن الموجود في كلّ واحد منّا:
“توما، أحد الإثني عشر والملقّب بالتوأم، لم يكن معهم حين جاء يسوع (يو 20، 24). لقد كان الغائب الأوحد، علم بما جرى حين عاد إنّما لم يشأ أن يصدّق بما سمع. لقد عاد السيّد مجدّداً وكشف للتلميذ غير المصدّق جنبّه ليضع الإصبع، أضهر له يديه وآثار المسامير، وشفى جراح عدم إيمانه، شفى جرح خيانته. ماذا تجدون إيّها الإخوة في هذا كلّه؟ هل ظننتم أنّ بالصدفة كان هذا التلميذ غائباً، وحين عاد سمع، وحين سمع شكَّ وحين شكَّ لمسَ وحين لمسَ آمنَ؟. لا، لم يتمّ هذا صدفةً، إنّما بتدبير إلهيّ.
Discussion about this post