الظهورات والعجائب
الناس شغوفون بالظهورات والعجائب أو ما يُشاع أنّه ظهورات وعجائب. ما إن يُذاع أنّ ظهورًا جرى هنا أو عجيبة جرت هناك حتى يزحفوا في هذا الاتّجاه أو ذاك ليستطلعوا، بدافع الفضول، أو ليستبركوا، بدافع التقوى.
وكثيرًا ما لا يكلِّف أحد نفسه عناء السؤال: هل ما قيل إنّه جرى صحيح أم هل هو مجرّد اختلاق؟ كيف نعرف؟ ما مقياس الخطأ والصواب؟ إلى مَن نعود لنتأكّد؟ مَن نسأل؟ رسميًا، الكنيسة، أكثر الأحيان، تتريّث. عمليًا كهنة الرعايا تتفاوت آراؤهم وأحيانًا تتضارب. مقاييسهم ليست واحدة.
في هذه الأثناء ترى الجمهور لا بل الجماهير تندفع بلا وعي كبير، أو ربما بلا وعي كاف. تتحرّك التقويّات العاطفية. رأيتُ! سمعتُ! هذا يزيد الخبر قليلًا. آخر يفهمه على غير مرماه. ثالث ينقله على طريقته الملحميّة. يصل الخبر على غير ما ابتدأ. ينأى عن الواقع. تتحكّم فيه الخبريّات. تتحرّك المشاعر.
المناخ الجماهيري يصير مشحونًا. تدخل وسائل الإعلام على الخط. يبحثون عن المثير! قال فلان وقال عِلتان. الإعلاميون خبراء في فنّ الإيحاء. يسوقون الأخبار في اتجاهات يرومونها عن حسن نيّة وعن سوء نيّة. وللإعلام سلطان.
في تلك الأثناء تتحرّك السلطات المحليّة، الدينيّة والمدنية، إثباتاً للوجود واستغلالًا للظاهرة الجديدة. تنشط وكالات السفر. تتحرّك شركات النقل. تروج تجارة باعة التذكارات. يصطفّ باعة القطايف والعوّامات. يتحرّك موسم التقويات مرة أخرى.
الكل يستفيد! يزدهر سوق الشمع والبخور والبركات. تنتفخ صناديق المال! شهر، شهران، ثلاثة! سنة سنتان ثلاث! يخبو وهج الظهور المزعوم (أو الأصيل!).
تبهت ألوان العجيبة المدّعاة. يعود كلٌّ إلى شأنه. يتحوّل الأمر إلى خبر يُسرد لتزكية المشاعر والإدّعاءات لا لتزكية التوبة إلى الله. ماذا يكونون قد جنوا؟ استفادوا؟ لم يستفيدوا؟ تعلّموا؟ لم يتعلّموا؟ صاروا أقرب؟ صاروا أبعد؟ اعتادوا العجائب؟ أحبّوا المسيح أكثر؟ تاهوا؟ ضلّوا؟
كلّ هذه تساؤلات تطرح! ولكن يبقى السؤال الأساس: أي موقع تحتلّه الظهورات والعجائب في خبرة الكنيسة؟ هذا أصلاً ما كان ينبغي أن يكون عليه السؤال! أي موقف عام يُستمدد من تعليم الآباء القدّيسين؟ كيف كان علينا أن نتصرّف؟
من حيث المبدأ الظهورات والعجائب حدثت ويمكن أن تحدث، ولكن ليس كل ما يحدث ظهورًا أو عجيبة. هذا يفترض به أن يكون بديهية. ربما ليس لدى كل الناس. الوهم له دور والتضليل الشيطاني له دور. الظهورات والعجائب ربما أتت بالقلّة من الناس إلى الإيمان.
لكن، بالنسبة للكثيرين، ولا إن قام واحد من بين الأموات يؤمنون. الموضوع موضوع ما إذا كانوا مستعدّين لأن يسمعوا كلمة الله أم لا، ما إذا كانوا يحبّون الحقّ أم لا. مَن له مِثْل هذا الاستعداد، هذا تأتيه الكلمة، بعجيبة ومن دون عجيبة. استعداده، متى استقرّت كلمة الله في قلبه، يتحوّل إلى عجيبة.
كل عمل الله عجيبة في كل حال! المهم أن يقترن بقبولنا نحن. “تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع“. “ليكن لي بحسب قولك“. “إلى مَن نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك“. “أؤمن يا ربّ فأعن عدم إيماني“.
وكلّما شعر بعجزه إزاءها عرف أنّه لا نفاذ له منها إلاّ برحمة من فوق. وكلّما شعر أنّه لا نفاذ له من خطيئته إلاّ برحمة العليّ قارب قريبه، وخطايا قريبِه، بواقعية أكبر ورحمة أشدّ.
إذ ذاك ينعصر قلبه عليه لأنّه بعدما أدرك ما فعلته الخطيئة في نفسه هو بات بإمكانه أن يدرك ما تفعله الخطيئة في الآخرين.
الظهورات والعجائب قد تدعم استعدادنا الطيِّب لأن نؤمن عمليًا، في بعض الحالات، لا سيما القصوى: حالات المرض أو الشكّ الكبير أو الضعف الشديد. ثمّ الظهورات والعجائب قد لا تكون، أحيانًا، للجماعة بل للفرد. يرسل الله تعزية لفلان أو لفلان. هذه لا تكون بالضرورة برسم الإعلان ولا برسم الإعلام.
تحويل أصحاب الظهورات والعجائب إلى نجوم تلفزيونيّة يعرّضهم روحيًا، لأقسى الأخطار. قد تبدأ الظاهرة إلهية ثمّ تتحوّل إلى مفسدة إنسانية وتصير مِضغة شيطانية. هذه ليست أمورًا للهو والإرتجال!
يُنقل من رسائل القدّيس برصنوفيوس الغزّاوي أنّ واحدًا شُفي من علّة صعبة أصابته بعدما صلّى القدّيس من أجله. ولم يمضِ عليه وقت قصير حتى عادت العلّة فأصابته على أقسى مما كانت.
فلما بعث إلى القدّيس يستفسر أجابه رجل الله: جرى لك ما جرى لأنّك ثرثار! الربّ يسوع قال للمجنون الذي شفاه (مر 5) أن يذهب إلى بيته وإلى أهله ويخبرهم بكم صنع الرّب به ورحمه. لكنّه في غير مناسبة شفى الأصم الأعقد وأوصاه ومَن معه أن لا يقولوا لأحد (مر 7). الخروج عن قصد الله يعرِّض الناس لأخطار جسيمة.
ثمّ نحن، بعامة، لا نسلك بالعيان بل بالإيمان. لذا علينا ألاّ نتوقّع، وبالأحرى ألاّ نرجو، أن نرى مناظر وعجائب. إذا شاء الرّب أن يُنعم بها علينا فهذا شأنه.
هو يعرف تمامًا متى وكيف يكون ذلك مناسباً حتى لا يتحوّل ما يريده لخيرنا إلى شرّ وعثرة لنا. والقول صحيح أنّ مَن اشتهت نفسه الرؤى والمناظر والعجائب هذا يكون، بسهولة، عرضة للتضليل.
الله، في مثل هذه الحالة، لا يعطينا ما نرغب فيه لأنّه لا يكون نافعًا لنا بل مضرًّا.
هيرودوس أنتيباس رغب في أن يرى يسوع ويعاين آية تُصنع منه. هل أعطاه السيّد ما يريد؟ رغم أنّه سأل الرّب يسوع بكلام كثير، لم يُجبه بشيء. هذا جعله يحتقر الربّ ويستهزئ به (راجع لو 23). الله يعرف ما في القلوب. يعطي أو لا يعطي بناء على ما في الداخل!
خطورة العجائب والظهورات تكمن في أنّه ليس من حقّ أحد أن يحكم، في شأنها، بحسب الظاهر. أولًا إذا كانت من روح الله فالحكم في شأنها يكون في الروح غير المنظور لا في الظاهر.
فقط مَن له روح الله يحكم في الأمر. فإذا كان للشخص المعني روح الله فإنّه لا يبالي، إذ ذاك، بالعجائب والظهورات.
وإذا لم يكن له روح الله فإنّ عليه أن يسأل مَن له الروح لأنّ الروح يحكم في كل شيء ولا يُحكم فيه من أحد. أما إذا لم تكن العجيبة أو الظهور من روح الله فإنّها إما أن تكون من بنات أوهام الناس أو من الشيطان.
كيف من الشيطان؟ من الشيطان لأنّ الشيطان قادر أن يُحدث العجائب والظهورات ولكن، فقط، في الظاهر.
أي قد يبدو الشيطان أنّه يُقيم ميتًا مثلاً. هذا ما يظهر به للناس، لكنّ الميت لا يكون قد قام. الشيطان خبير في الخداع الشبيه بالخداع السينمائي اليوم. من هنا أنّنا لا نحكم في أمر العجائب والرؤى على أساس ما يظهر منها لأنّ هذا مجال للوهم والخداع الشيطاني بامتياز.
ثمّ الشيطان، كما نعلم، إمعانًا في الخداع، قد يظهر بمظهر نوراني، كملاك من نور. قد يظهر بشكل أحد القدّيسين أو والدة الإله أو الرّب يسوع نفسه.
قد يستعمل الآيات الكتابية. ولكن في الشكل فقط، تمثيلًا.
وللشيطان أساليب متطوِّرة في التضليل. قد يبدو كأنّه يتنبّأ، لكنّه لا يعرف المستقبلات. يعرف ما يكون قد حدث. ميزته أنّه سريع الحركة بشكل فائق. بإمكانه أن ينقل إلى هنا خبر ما يكون قد حدث هناك في لحظات. لذا يبدو كأنّه يتنبّأ. فقط يتعاطى السبْق الصحفي والتخمين الذي قد يصحّ وقد لا يصحّ.
الخبراء يعرفون ذلك! اليوم لأنّنا نعرف، بفضل وسائل الاتصال الحديثة، أن بإمكاننا أن نقف على خبر ما يحدث في أي زاوية من زوايا الأرض في خلال ربع ساعة لا سيما بفضل الأقمار الإصطناعية، نعرف أنّ السرعة عمل آلي وليس تنبؤاً بما ليس معروفًا.
كذلك، قد يقول لنا الشيطان الصدق مرّة ومرّتين وثلاث. ليس هذا لأنّه يريد أن يأتي بنا إلى الحقّ بل لأنّه يريدنا أن نصدّقه. ومتى كسب ثقتنا فإنّه، إذ ذاك، يوقعنا في الضلال.
الشيطان كذّاب وأبو الكذّاب ولو صدق أحياناً. الصدق لا يعني الحقّ. صدقه يكون في معرض الكذب والاحتيال.
لكل هذه الأسباب كان آباؤنا حذرين، لا بل شديدي الحذر. بالنسبة إليهم كان خيراً لهم أن يرفضوا حتى الظهورات الحقّانية التي هي من الله، حرصًا على عدم الوقوع في شيء من أحابيل الشيطان، من أن يصدّقوا كل ظهور يأتي عليهم. إلى هذا الحدّ كانوا حريصين.
القدّيس ديادوخوس الفوتيكي كان يعتبر أنّ مَن يمتنع عن قبول حتى الظهورات الإلهية الأصيلة، من باب الحرص، ليس فقط لا يثير غضب الله عليه بل يلقى موقفُه لدى ربّه استحسانًا.
آخرون كانوا، حتى إذا منّ عليهم ربّهم بموهبة صنع العجائب، يمتنعون عن تعاطيها تواضعًا معتبِرين أنفسَهم غير مستحقّين للمواهب الإلهية. لذلك، مثلُ هؤلاء كانت تأتي العجائب على أيديهم عفوًا، عن غير قصد منهم أو لبساطتهم المتناهية. في كل حال كانوا يهربون من الأضواء. عينهم، بإزاء ربّهم، كانت على نواقصهم. لم يكن أحد منهم ليستغلّ كونه ذا دالة عند الله.
شيمتهم كانت، ولا زالت، ما عبّر عنه الرسول المصطفى بولس في شأن الرّب يسوع، في علاقته مع الله الآب: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خِلسة أن يكون معادلاً لله، بل أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم” (في 2: 5 ? 9).
بعض آبائنا قال ويقول بوضوح وصراحة: لكي تأمنوا العاقبة لا تطلبوا الظهورات ولا تصدّقوها، أيًّا تكن. لا تهتمّوا لا بالأحلام ولا بالتنبؤات. الحقّ أنّ هذه أرض محفوفة بالألغام.
ما يوجّه إليه آباؤنا الأنظار هو العجيبة الروحية. إذا كان أحد ضالًا فتاب هذا يكون قد ضاع ثمّ وُجد. إذا كان أحدٌ بلا إحساس، من جهة خطيئته، ثمّ أحسّ بها بعمق وصارت أمامه في كل حين هذا يكون كمَن كان ميتاً فعاش.
إذا كان أحد بخيلًا ثمّ صار سخيًا، مبدِّدًا على المساكين، هذا تكون يده قد شُفيت بعد شلل. إذا سلك أحد في الوقيعة بين الناس ثمّ صار صانع سلام، هذا تكون رِجله قد برئت بعد يباس.
مَن أحبّ الفقير، بعد إعراض، أهم ممَن يقيم الموتى ويشفي المرضى لأنّه كان ضالاً فوُجد وكان ميتًا فعاش. هذا يقوم إلى حياة أبدية لا فقط إلى حياة دهرية.
تبقى نقطة أخيرة، إذا منّ عليك الربّ الإله بتعزية، ظهورًا أو عجيبة أو ما أشبه، فإنّه، في العادة، يعطيك شعورًا بنخس القلب وعدم الاستحقاق وسكونًا في القلب. هذه التزمها ولا تضيِّعها. تسلَّح، في مثل هذه الحالة، بسلاح صلاة يسوع: “أيّها الرّب يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ“. إذا ظهر لك كائن ما لا تصدّقه قبل أن تسأله أن يرسم على نفسه إشارة الصليب أو أن يقول صلاة يسوع أو أن يردِّد: “المجد للآب والابن والروح القدس”.
فإذا كان شيطاناً فإنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً من هذا، بل يهرب ويتبدَّد. في كل حال عد إلى أحد الآباء المختبَرين، وأقول المختبَرين المعروفين، واعرض عليه مسألتك.
اسمع ما يقوله لك والتزمه كاملاً دون نقصان. قد يكون هذا أسقفًا، وقد يكون كاهنًا، وقد يكون راهبًا وقد يكون رجلًا من عامة الناس. لا تتصرّف، على سجيّتك، وكأنّك تعرف. ليس غير الخبير ينجو من فخاخ العدو. اهدأ! لا تعرِّض نفسك للخطر! لا تكن فضوليًا! لا تتسرَّع! واعلم أنّه إن توفّرت فيك النيّة الصالحة سلمتَ بنعمة الله.
وإن كان فيك زغل فإنّك ساقط سلفًا مهما حسبت نفسك ذكيًا وحكيمًا. نقّ نيّتك واسلك بأمانة في الوصايا يومًا فيومًا.
كن مطيعًا لأحكام الكنيسة. لا تستهن بخبرتها. والله، إذ ذاك، يحفظك حفظًا جيّدًا. كن بسلام واسلم
No Result
View All Result
Discussion about this post