الهدوء
+ مرة أتي أنبا ارسانيوس إلى مكان به قصب فتحرك من الريح ، وقال الشيخ للأخوة : ما هذا الزلزال ؟ .
قالوا له : أن هذا قصب يا أبانا .
قال الشيخ :
إن من منا جالسا في سكون وهدوء وسمع صوت عصفور فلن يكون لعقله نياح . فكم بالحري إذا سمعتم هذا الزلزال من
القصب .
+ قال شيخ :
إن أفضل شيء هو السكون . والرجل الحكيم هو الذي يحب السكون والهدوء .
+ وقال آخر :
السكون يجلب النوح ، والنوح يجلب البكاء ، والبكاء تنقي الإنسان من كل خطية .
+ كذلك قيل :
اقتن السكون بمعرفة .
+ وأيضاً قيل :
ينبغي للراهب أن يشتري السكون لنفسه بما عز وهان ، ولو أدى ذلك إلى إصابته بخسارة جسدانية .
+ قالت الأم ثاؤدوره :
حسن للإنسان أن يسكن ، لأن الرجل الحكيم شيمته السكون ، وهذا هو بالحقيقة عون العذاري والرهبان ، ولا سيما للشبان منهم لأني أعلم حقا أنه إذا اقتني الإنسان في نفسه السكون فللوقت يجلب عليه الشيطان مللا ، وثقل رأس ، وصغر نفس ، وضعف جسد ، وانحلال في الركبتين ، وكل الأوصال ، وأذ تنحل قوي النفس والجسد ، فيحتج بأنه عليل لا يقدر أن يتمم صلاته ، حتي إذا فرغ من الصلاة ، زال هذا كله . وذلك لأني أعرف انساناً راهباً كان اذا اعتزم أن يبدأ صلاته تأخذه حمي وقشعريرة
مقرونة بآلام شديدة في رأسه ، حتي أنه كان يتوهم بأنه عليل ، أما هو فكان يقول لنفسه : ” يا شقي لعلك تموت هذه الساعة ، فاغتنم صلاتك قبل موتك ” ، وبهذا القول كان يلزم نفسه ويتمم صلاته ، وبمجرد فراغه من الصلاة تسكن عنه الحميى
والأوجاع وهكذا . فكان بهذا الفكر يقاتل ويغلب ويتمم صلاته حتى خلصه الرب ، وصار له صبره أكليلا إلهياً .
+ قال شيخ :
إن الهدوء هو أول زكاوة النفس ، لأن اللسان حينئذ لا يتكلم بكلام الناس ، والعينان لا تنظران الجمال والحسن المنحرف عن الواجب ، والآذان لا تسمعان الأصوات اللذيذة التي ترخي قوة النفس ، مع كلام الضحك والعب ، والقلب لا يتبدد بالعلل البرانية ولا الحواس تنصب الي العالم ، ولكنه يرفع نفسه ويهتم بالله.
+ سأل أخ الأب روفس : ما هو السكون ؟
فأجابه الشيخ قائلا : هو الجلوس في القلاية بمعرفة ومخافة الله ، والامتناع عن ذكر كل شر ، والمداومة على
حفظ ذلك تلد التواضع وتحفظ الرهبان من العدو .
وعند نياحته اجتمع اليه تلاميذه قائلين : كيف يجب أن نتدبر من بعدك .
فأجابهم الشيخ :
لست أعلم اني قلت لأحد منكم قط إن يصنع شيئا ، قبل أن أصلح الفكر أولا ، ولم أسخط اذا هو لم يصنع حسبما
قلته له ،وهكذا قضينا كل زماننا بهدوء .
فقال له الشيخ :
أن السكوت أفضل . ثم قال له : لو أنك ملأت جرة بحشرات ضارة ، وسددت فوهتها ، ألا تموت جميعها ؟ ولكنك لو تركت فوهتها مفتوحة فأن الحشرات سوف تخرج وتضر من تصادفه ، هكذا الذي يسكن ، فجميع الأفكار الرديئة التي بداخل قلبه تموت .
+ قال يوحنا ذهبي الفم :
السكون نمو عظيم للإنسان ، ونياح لنفسه .
السكون يعطي القلب عزلة دائمة .
السكون يجلب الدعة مع كل إنسان .
السكون يبعد الغضب .
السكون قرين النسك .
السكون يولد المعرفة .
السكون يحرس المحبة .
السكون لا يوجع قلب إنسان ، ولا يشكك احدا .
السكون يعمل عمله بلا تقمقم .
السكون يحفظ شفتيه ولسانه ، فلا يبقي في قلبه شيء من الشر .
السكون هو كمال الفلسفة ، فمن يعيش بالسكون فأنه يستطيع ان يتمسك بجميع الحسنات الأخرى .
الملازم للسكون بمعرفة قد ختم بخاتم المسيح ، والحافظ إياه بلا شك يرث ملكوت السموات .
+ قال مار أفرام :
يا أخي تفكر بأن ربوات الأقوال نهايتها السكون ، فمحب السكون لا يتألم بشيء من أمور الدنيا .
+ قال مار اسحق :
إن الجوهر يصان في الخزانة ونعيم الراهب يصان في السكون والخدوء . أن العذاري لتتأذي بالمجامع والمحافل ، كذلك فكر الراهب تضره المحادثة مع كثيرين ، والنظر اليهم . إن الطائر يسارع إلى وكره بعيدا عن كل مكان ، وذلك ليفرخ ، كذلك الراهب ذو الافراز يبادر إلى قلايته ، ليصنع فيها ثمرة الحياة .
السحاب يحجب نور الشمس ، والأقوال الكثيرة تبلبل النفس . الشجرة إن لم تسقط أولا الورق العتيق فلن تأت بأغصان جديدة . كذلك الراهب ، أن لم يرم من قلبه وكر الأمور والأعمال السالفة ، ويبعد عن ملاقاة الكل ، فلن يقدم ليسوع المسيح أثمارا جديدة
+ سأل الأخوة شيخاً: ما معنى قول القديس انطونيوس : من يجلس في البرية قد أراح نفسه من ثلاث حروب ، تلك التي تصدر عن طريق السمع والكلام والنظر ؟
فأجاب الشيخ :
لم يقل الشيخ أنطونيوس هذا لأن جهاد الساكن في الخلوة الروحية في البرية أقل عنفا من جهاد الطائف في العالم والمختلط بالناس ، ولكنه أراد أن يبين كم شديدة ومجهدة هي حرب الشياطين في قلب الإنسان المقيم في الخلوة الروحية عنها في قلوب أولئك الساكنين مع أخوة . من أجل ذلك سعي الأباء الي حياة التأمل في السكون حتي لا تتحد عليهم حروب الكلام والسمع والنظر مع تلك القائمة في قلوبهم فتغلبهم شدتها مثلما حدث مرة حين جاءت إلى الأخوة المقيمين في السكون امرأة فزادت على الحرب الكائنة في قلوبهم حروب النظر والسمع والكلام وكادت تعصف بهم شدتها لولا أن تدركتهم
عناية الله .
ولقد أوضح الطوباوي أوغريس كيف أن حرب حواس الروح مع الرهبان المقيمين في السكون أشد عنفا من حرب حواس بقوله أن الشياطين تحارب الساكنين في السكون عيانا وأما مع المباركين المقيمين في حياة المجمع فأنها تحرك وتثير الأخوة المتهاونين وبذا تكون حرب النظر والسمع والكلام أقل منها مع الساكنين في الوحدة .
+ قال القديس مقاريوس الكبير :
” الوحدة هي حفظ العينين والأذنين واللسان والاشتغال بالقراءة والصلاة “.
” الوحدة هي مرآة تبين للإنسان عيوبه” .
سأل أخ الأب مقاريوس عن الوحدة فأجاب الشيخ : أن كنت حقا تريد السكني في الوحدة فأصبر لها ولا تؤد عملك يوما في الداخل ويوما في الخارج ، ولكن أصبر لها باتضاع والله الصالح يؤازرك . ولا توجد سببا للخروج عن الوحدة حتي ولا ليوم واحد . بل أثبت في مسكنك لتذوق حلاوتها ، ولا تبديء خارج قلايتك تجذب اليك المضاد وتتجدد عليك أتعابك وتحرم من الصبر ، لا تبطىء خارج قلايتك لئلا تجد اتعابك قدامك عند رجوعك فتتعب جدا في حربك ويصعب انتصارك .
يا رجل الله حتى متى تدوم لك هذه الأتعاب . أصبر للمسكنة وعزاء الوحدة يأتيك من قبل الله ، لا تضيع يوما واحدا لك ونعمة الوحدة وحلاوة المسكنة تصيران لك عزاء ويعطيك الله سعادة في مسكنك .
+ قال القديس برصنوفيوس :
” إنسان ساكت يجب عليه ألا يحسب نفسه شيئا ، بل عليه أن يلومها دائما . إذا انزلق الجاهل في كلامه فله عذر من الكل ، لأنه سقيه لا يدري ما يتكلم به ، ولكن إذا انزلق الحكيم فليس له عذر ، لأنه حكيم وبمعرفة يتكلم ، وكذلك إذا أخطأ واحد من العالميين وكان له عذر لنه يخالط الكثيرين في العالم . فأما نحن الذين بنا أننا رهبان أصحاب سكوت ومعلمون ، فأي عذر
لنا ” .
إن كنت تريد السلوك في طريق الله فليكن عندك الذين يضربونك مثل أولئك الذين يكرمونك ، ومهينوك مثل
مادحيك ، والمفترون عليك مثل مباركيك ، ومحزنوك مثل مفرحيك . وأن عرض للخلوة أما من نسيان أو من سهو
فلم يعاملوك بما كان ينبغي أن يعاملوك به من الجميل قل : أني غير مستحق ، ودع عنك تزكية نفسك ، أما أن كنت تقول ؟أنك حسنا قلت وحسنا فهمت فلا حسنا قلت ، ولا حسنا فهمت .
كرامة السكون وأفضليته على جميع الأعمال
+ قال القديس يوحنا القصير :
السكون أفضل من جميع الأعمال لأنه بدوامه تهدأ الأفكار وتموت المشيئة وينقطع تذكر المور الباطلة وحركة الأوجاع القاتلة الجسمانية منها والنفسانية .
فالجسمانية هي :
– ” لذة الفم
– شره البطن
– شهوة الطبع
– تنزه الحواس
– الاسترخاء
– النوم
– الزنى ” .
أما النفسانية فهي :
– “الجهل
– النسيان
– البلادة
– قلة الأمانة
– الحسد
– الشر
– السبح الباطل
– العجب
– الكبرياء
– قلة القناعة ” .
هدوء الجسد هو حبسه عن الدوران ، وهدوء النفس هو الابتعاد عن الجهل ومن النظر للوجوه فإن الجهلة يشغلوننا بباطلهم
ويجروننا الي عوائدهم ويسخروننا لنواميسهم ، لأنهم يرونها حسنة ولكنها تقطعنا عن طياتنا .
لذلك ليس شيء أفضل من التباعد والسكون لن بدونها لا يقدر الإنسان أن يعرف نفسه .
+ قيل عن أنبا يحنس الذي كان من اسيوط ، أنه أقام 30 سنة في مغارة ، ضابطا السكوت ، والباب مختوم عليه ، وكانوا يعطونه حاجته من طاقة ، والذين كانوا يأتون اليه ، كان يكتب لهم ويعزيهم ، فحدث مرة ان أربعة لصوص نظروا كثرة الجموع التي كانت تأتي إليه ، لأن الله قد منحه موهبة الشفاء ، فظنوا أن عنده اموالا في مغارته ، فأتوه بالليل لينقبوا باب المغارة ، فضربوا بالعمي جميعا ، وظلوا هكذا واقفين خارج المغارة الي الصباح ، حيث أتي الناس وأمسكوهم وأرادوا أن
يسلموهم للوالي فيقتلهم ، فتكلم معهم القديس قائلا : ” أن لم تتركوا هؤلاء الناس ، فنعمة الشفاء تذهب عني ، فتركهم ، وهذه هي الكلمة الوحيدة التي خرجت من فمه خلال مدة الثلاثين سنة “.
عمل السكون
الصوم ، السهر ، الهذيذ الصالح ، أتعاب الجسد بقانون حكيم في المقدار والترتيب ، وبدوام ذلك يجتمع العقل
إلى نفسه ويرجع عن الدوران فيما هو خارج عنه . وبعد قليل يبتدىء في أن يصحو لنفسه ويتصور حسنه ويشرق عليه ضوء الرب وينظر الرب الاله خالقه كرازق ويفرح بولادته ويعود من سبيه ويحيا من موته ويستريح من الأوجاع ويعتق من الظلمة ويخلص من عدوه الشرير .
Discussion about this post