الشَّباب وسِرّ الاعتراف
الأب نقولا مالك
باسم الآبِ والابنِ والرُّوحِ القدس، الإلهِ الواحد. آمين
1: نَقْرَأُ في المزمور الحادي والثّلاثين:
طُوبى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطاياهُم. طُوبى للرَّجُلِ الّذي لا يَنْسِبُ الرَّبُّ إِلَيهِ خَطِيئَةً وَلَيسَ في فَمِهِ غِشٌّ. مِنْ أَجْلِ أَنِّي سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظامي مِن أَنيني طُولَ النَّهار. لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهارًا وَلَيلاً، وَغَدَوتُ شَقِيًّا جِدًّا، فَرَجَعَ الأَلَمُ إلى صَدْري لِكَي يَقْتُلَني. أَنا اعْتَرَفْتُ بِخَطِيئَتي وَلَم أَكْتُمْ جَرِيرَتي… كَثِيرَةٌ هِيَ نَكَباتُ الخاطئ، أَمّا الّذي يَتَوَكَّلُ على الرَّبِّ فَإِنَّ الرَّحمةَ تَحُوطُهُ.
2: الاِعتِراف.. لِماذا؟
النَّفْسُ بَيتٌ يُرِيدُ الرَّبُّ يَسُوعُ أَن يَدْخُلَ إِلَيه.. أَن يَزُورَهُ وَيَبِيتَ فِيه. وَلكِنَّ هذا البَيتَ إِمّا مُتَّسِخٌ، أَو تَعُمُّهُ الفَوضى، أَو مُغْلَقُ النَّوافِذِ وَالأبواب، أَو أمامَهُ كِلابٌ تَنبَحُ لِتُزْعِجَ الضُّيُوف. هذا يَعني أنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ، كُلَّما حاوَلَ أن يَزُورَ بَيتَ نَفسي، وَجَدَ الشَّياطِينَ ساكِنَةً فِيَّ، أَوِ الخَطايا مُعَشِّشَةً، أَو أَنواعَ الأفكارِ القَبيحة، أو وَجَدَ عِندي رَفْضًا وَعَدَمَ رَغْبَةٍ، وَعَدَمَ اسْتِعْداد.
الاعتِرافُ هُوَ الدَّواءُ الّذي يَشفيني مِن مَشاكِلي الّتي تُبْعِدُ الرَّبَّ يَسُوعَ عَنّي.. هُوَ الوَسِيلَةُ لِتَنظِيفِ النَّفس، وَإِعادَةِ تَرتِيبِها مِنَ الفَوضى النّاجِمَةِ عَنِ الخطيئة.. هُوَ الوَسِيلَةُ الوَحيدةُ لِتَزْيِينِ النَّفس، وَإِلْباسِها حُلَّةً بَهِيَّةً مُناسِبَةً لاستِقبالِ السَّيِّد.
3: أينَ يَكْمُنُ الشَّرّ؟
الشَّرُّ لا يَكْمُنُ في المَوت.. وَلا في المَرَض.. وَلا في الفَقر؛ لأَنَّ هذِهِ كُلَّها لا تَفصِلُنا عَنِ الله، بَل رُبَّما قَرَّبَتْنا مِنه أَكثر. الشَّرُّ يَكْمُنُ في الخَطِيئة؛ لأَنَّها تُبْعِدُها عَنِ الله.. الخطيئةُ هِيَ تَعَدٍّ على نامُوسِ الله. هِيَ إِهانَةٌ لِلّه.
الخَطيئةُ هِيَ فَقْرٌ لِلنَّفس.. وَمَرَضٌ.. وَمَوت.
الخطيئةُ تُسَبِّبُ الخُصُوماتِ وَالخِلافاتِ وَالأَحقادَ بَينَ النّاس. تُعَلِّمُنا الكَذِب…
4: ماذا أَعمَل؟
بِما أَنَّ الخطيئةَ هِيَ تُجاهَ اللهِ غَيرِ المَحدُود، فَهِيَ غَيرُ مَحدُودة، وَتَحتاجُ إلى قُوَّةٍ غَيرِ مَحدُودَةٍ لإِزالَتِها. هذِهِ القُوَّةُ هِيَ قُوَّةُ اللهِ.. الوَحِيدَةُ القادِرَةُ على رَفْعِ خَطايا البَشَر. وَقَد تَمَّ ذلكَ بِصَلِيبِ ابنِ اللهِ الوحيد. فَبِالصَّليب، فَتَحَ لَنا المسيحُ بابَ الخَلاص، وَمُنذُ ذلكَ الوَقتِ تُغْفَرُ خَطايا النّاسِ إذا تابُوا وَاعتَرَفُوا.
– “هُوَذا حَمَلُ اللهِ الرّافِعُ خَطايا العالَم” (يو 19:1)
– “لأَنَّهُ هكذا أَحَبَّ اللهُ العالَم، حتّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ لِكَي لا يَهلِكَ مَنْ يُؤمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَياةُ الأبديّة” (يو 16:3)
– “تَعالَوا إِلَيَّ يا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحمالِ، وَأَنا أُرِيحُكُم” (مت 28:11)
– “أَلْقِ على الرَّبِّ هَمَّكَ وَهُوَ يَعُولُكَ” (مز 23:54)
أَنا، عادَةً، أُرِيحُ نَفسي بِأَنْ أَسْتُرَ خَطايايَ عَن عُيُونِ النّاس، فَأَبْدُوَ أَمامَهُمْ صالِحًا. لكنَّ عَدَمَ ظُهُورِ خَطِيئَتِي لِلنّاسِ لا يَعني أَنَّني لَم أَرْتَكِبْها.
عَلَيَّ أَنْ أُواجِهَ نَفسي، مُقِرًّا بِزَلاّتي وَهَفَواتي وَمُخالَفاتي.. وَأَنْ أَنْدَمَ عَلَيها نَدَمًا حقيقِيًّا.. وَأَنْ أَرْغَبَ في عَدَمِ ارْتِكابِها ثانِيَةً. عَلَيَّ أَنْ أَذْرُفَ دُمُوعَ التَّوبة، الّتي يُسَمِّيها القدّيسُ يوحَنّا السُّلَّمِيُّ معمودِيَّةً ثانِيَة.
5: ما الّذي يَحْدُثُ في سِرِّ الاعتِراف؟
– يَذهبُ المؤمنُ إلى الكاهنِ بِتَوبةٍ عميقة، وَبِرَغبَةٍ صادِقَةٍ في التَّغَيُّر.
– يَكشفُ أَمامَ الكاهِنِ أَسرارَ قَلبِهِ وَضَمِيرِهِ كُلَّها.
– يَتَقَبَّلُ الكاهِنُ هذِهِ الاعتِرافات، وَيُصَلِّي على رَأسِ المُعتَرِف، ثُمَّ يَتْلُو عَلَيهِ الصَّلاةَ التّالِية: “رَبُّنا وَإِلهُنا يَسُوعُ المسيح، بِنِعمةِ وَرَأَفاتِ مَحَبَّتِهِ للبَشَر، لِيَصْفَحْ لَكَ أَيـُّها الابنُ الرُّوحِيُّ (فلان) جَميعَ زَلاّتِك. وَأنا، الكاهِنَ غَيرَ المُستحِقّ، بِقُوَّةِ السُّلطانِ المُعطى لِي مِنهُ أَقولُ لَك: لِتَكُنْ مُسامَحًا وَمَحلُولاً مِن جَميعِ خَطاياك، باسمِ الآبِ وَالاِبنِ وَالرُّوحِ القُدُس. آمين.
في تِلكَ اللَّحظةِ تُغْفَرُ كُلُّ خطيئةٍ اعتَرَفَ بِها المؤمن.. تُغْفَرُ لَهُ في السَّماء.
6: هَل يَغْفِرُ اللهُ، بالاِعتِرافِ كُلَّ خَطاياي، مَهما عَظُمَتْ؟
يَقُولُ القدّيسُ يوحنّا الذَّهَبِيُّ الفَم: “التَّوبَةُ هِيَ الدَّواءُ الّذي يُدَمِّرُ الخطيئَة… التَّوبةُ لا تَرفُضُ الزّاني، وَلا تُبْعِدُ الفاسِق، وَلا تَشمَئِزُّ مِنَ السِّكِّيرِ وَلا مِنْ عابِدِ الأَوثان، وَلا تُهْمِلُ الواشي. التَّوبَةُ لا تَظْلِمُ الشّاتِمَ وَلا المُتَعَجْرِفَةُ نَفْسُه. التَّوبَةُ تُجَدِّدُ كُلَّ واحِدٍ، لأَنَّها أَتُّونٌ يُنَقِّي مِنَ الخَطيئة. الجُرْحُ هُوَ الخَطيئة، وَالدَّواءُ هُوَ التَّوبة.”
7: أنا لَم أَرتَكِبْ خَطايا كَبيرة وَمُمَيَّزة. فَلْيَذْهَبْ سِوايَ إلى الاِعتِراف.
مِن يُقِيمُ في غُرفَةٍ مُغلَقَةٍ لِزَمَنٍ طَويل، يَسُوءُ مُناخُها، إِلاّ أَنَّهُ لا يَشْعُرُ بِذلك. ولكنْ، إِذا دَخَلَها أَحَدٌ مِنَ الخارج، فَلَنْ يَحْتَمِلَ رائِحَتَها النَّتِنة، وَسَيَهْرُبُ مِنها بِأقصى سُرعة.
ما أَدراكَ بِأًنَّكَ نَقِيٌّ، وَأَنَّكَ لَستَ كَسائِرِ الخَطَأة؟ “إِنْ قُلْنا إِنَّهُ لَيسَ لَنا خَطيئةٌ نُضِلُّ أَنفُسَنا، وَلَيسَ الحَقُّ فِينا” (1يو 8:1)
عَدَمُ رُؤْيَتِي لِخَطيئَتي هُوَ نَوعٌ مِنَ العَمى الرُّوحِيّ. لذلكَ عَلَيَّ أن أُصَلِّيَ لِكَي يَشْفِيَني الرَّبُّ مِنْ هذا العَمى، وَيَحْفَظَني مِنْ هذا الغُرُور.
ثُمَّ إِنَّ الخَطايا الصَّغيرةَ قد تَكُونُ أَشَرَّ مِنَ الكَبيرة. ذلكَ أَنَّ الكَبيرةَ تَكُونُ أكثرَ ثِقَلاً على الضَّمير، وَتَدْفَعُ بِصاحِبِها إلى طَلَبِ المَغفِرة. أَمّا الصَّغيرة فَلَيسَ لها ثِقَلٌ.. وَيَسْهُلُ تَبْرِيرُها.. لذلكَ يَتَجاهَلُها صاحِبُها، وَيَتَناساها، ظانًّا أَنَّها بَسيطةٌ وَغَيرُ خَطيرة.. وَهُنا تَكْمُنُ خُطُورَتُها؛ لأَنَّها، مَعَ مُرُورِ الوَقت، تُخَلِّفُ في النَّفسِ أَخْبَثَ العادات، أَلا وَهيَ: اعْتِيادُ الخطيئةِ، وَبَلادَةُ الوَعي.
إِعْتَرِفْ، حتّى بِأَصْغَرِ الخَطايا.
8: لِماذا أَعتَرِفُ اليَوم، ما دُمْتُ سَأُكَرِّرُ الخَطايا نَفسَها غَدًا؟
إِذا وَقَعْتَ في الوَحْلِ وَاتَّسَخْتَ، أَلا تَذهَبُ وَتَغْتَسِلُ، أَمْ أَنَّكَ تَبقى بِدُونِ اغْتِسالٍ، بِحُجَّةِ احتِمالِ وُقُوعِكَ في الوَحلِ في اليَومِ التّالي؟! الأحرى بِكَ أَنْ تَنهَضَ وَتَغْتَسِلَ على الفَورِ لِتَعُودَ نَظِيفًا، وَتَنْتَبِهَ لِنَفْسِكَ في المَرَّةِ القادِمَةِ أَكْثَرَ، لِئَلاّ تَسْقُطَ في الوَحل. فَإِذا وَقَعْتَ بَعدَ بِضْعَةِ أَيّامٍ، فَانْهَضْ مِن جَدِيدٍ وَاغْتَسِلْ.
يقولُ القدّيسُ يوحنّا الذَّهَبِيُّ الفَم: “هَلْ أَخطَأْتَ؟ لا تَيْأَسْ. فَإِذا أَخْطَأْتَ كُلَّ يَومٍ، تُبْ كُلَّ يَومٍ… إِذا دَنَّسْتَ نَفسَكَ اليَومَ بِالخَطِيئَةِ، نَظِّفْها عَلى الفَورِ بِالتَّوبة”.
بِهذِهِ الطَّريقَةِ، تُحافِظُ على نَظافَتِكَ مُعظَمَ الوَقت، لا العَكس. حتّى إِذا جاءَ المَسِيحُ بَغْتَةً يَجِدُكَ في حالَةِ النَّظافَة، لا في حالَةِ الاتِّساخ.
9: يَكفي أن أَعتَرِفَ أَمامَ الله، فَلا حاجَةَ بِي لِلذَّهابِ إلى الكاهن.
أَن تَضَعَ نَفْسَكَ في مَوقِفِ الاعتِرافِ أَمامَ كاهِنٍ، يُعطِيكَ فُرصَةً للتَّواضُع. يُحَطِّمُ كِبرِياءَك. الخَجَلُ يَحْمِيكَ مِنِ ارْتِكابِ الخَطايا مُجَدَّدًا.
عِندَما تَخْطَأُ، تَخْطَأُ أَمامَ اللهِ وَلا تَخْجَلُ، لأَنَّكَ لا تَراهُ. فَعِنْدَما تَعتَرِفُ أَمامَهُ فَقَطْ، تَفْعَلُ ذلِكَ بِسُهُولَةٍ لأَنَّكَ لا تَراه. فَكَأَنَّكَ، عَمَلِيًّا، تُكَلِّمُ نَفْسَكَ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذي رَتَّبَ شَرطُونِيَّةَ الكاهنِ لِيَخْدِمَ الأَسرارَ الإلهِيَّةَ، وَمِنها سِرُّ الاعتِراف. وَهُوَ القائل: “مَنْ غَفَرْتُمْ خَطاياهُم تُغْفَرْ لَهُم، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطاياهُمْ أُمْسِكَتْ” (يو 23:20).
Discussion about this post