سر الإفخاريستيا والخلاص
|
الأب متى المسكين
|
اليوم يا أحبائي هو خميس العهد، فإن كنا نحيا الآن في العهد الجديد؛ فهذا هو اليوم الذي تأسس فيه هذا العهد.
هذا السر، يُدعى في الطقس: ميغالي، أي عظيم، وهو بالحق عظيم، هو القوة المحركة في الكنيسة وحتى نهاية الدهور. هذا السر، سر التناول، يسمونه سر الإفخاريستيا، أي الشكر، وكان سابقاً يُسمى سر كسر الخبز.
وفي الحقيقة إنه يوجد ارتباط وثيق بين مفهوم سر الإفخاريستيا، أي سر الجسد والدم؛ ومفهوم سر الصليب، أي الفداء والغفران والكفارة.
هذا السرُّ هو الأساس لكل المفاهيم اللاهوتية الخلاصية. واللاهوت كله لا يمكن أن يُفسَّر إلا على أساس الإفخاريستيا. ولولا الإفخاريستيا لبقى الصليب غير معروف ولا واضحاً في أذهاننا كمسيحيين.
ولولا قول الرب: خذوا اشربوا هذا دمي المسفوك عنكم وعن كثيرين، لظل دم المسيح شيئاً غير مفهوم ولا يُعلم لماذا سُفك. ولكن الآن نحن نحيا في ملء الفهم بسبب الإفخاريستيا.
في هذا اليوم، يا أحبائي، تنتقل الحياة الأرضية من حبة حنطة، وخبز الأرض إلى حياة أبدية، ?ستُودِعت في سر الجسد المهيب.
كان عشاءَ يومٍ؛ فصار عشاءَ الدهورِ. كان عشاءً عادياً محدوداً يبتدئ بطقس وينتهي بتسبيح وما يلبث أن يُنسَى في عداد الأيام؛ وإذا بالمسيح يُحوِّله إلى عشاءٍ سريٍّ يظل ينبع من على كل مذبح، يستمد وجوده وكيانه من المسيح القائم على المذبح إلى جيل الأجيال.
كان عشاءً يربطُ بين جماعة متعصبة مربوطة بالميراث الجسدي، والجنسية المختارة، والإحساس بالأفضلية، ولكن إذا بالرب يفكُّ كل هذه الأوصال والقيود الحديدية، ويستعلن ملكوته والذي لا يجمع متعصبين فيما بعد،
بل جسداً واحداً وروحاً واحداً، من كل لسان وشعب وأمة، يجمعُ السودَ مع البيض، الحُمر مع الصُفر، يجمعُ بلا مانعٍ الفقراءَ مع الأغنياءِ، كل الطبقات معاً. ففي الإفخاريستيا ليس هناك إلا إنسان واحد فقط.
نعم، ?سْتُعلن الملكوت في هذا المساء، ليكون هذا العشاء فيما بعد مسرة الأجيال بلا مانع، فيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون في حضن إبراهيم، أو كما يقول في سفر الرؤيا:
رأيت عدداً لا يُحصَى من كل الشعوب والأمم، كانت الإفخاريستيا سر الجسد وسر الدم هي التي جمعتهم. فالإفخاريستيا رفعت الحاجز المتوسط بين الفُرقاء، جمعت القريبين والبعيدين في واحد.
المسيح قال لتلاميذه: «أنتم الذين تعبتم معي في تجاربي قد أعددت لكم ملكوتاً كما أعطاني أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي».
إياكم أن تظنوا، يا أحبائي، أن هذا الكلام يخص أياماً قادمة أو سنيناً ستأتي، لا. المسيح وقتها كان يتكلم عن هذه الأيام، أيامنا تلك التي نعيش فيها الآن.
فنحن هم الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته، حسب تعبير التلاميذ. فالإفخارستيا استمرت. وها نحن نأكل ونشرب على مائدة المسيح؛ هنا ملكوت الله يُستعلن، هنا ملكوت المسيح.
المسيح، في طعام هذا العشاء، وحسب الطقس القبطي الأصيل، حوَّله من مجرد وجبة محبة، هابوراه، ووليمة بين أصدقاء، ومن بركات وشكر تُقدَّم لله على عطاياه المادية، بركات سرعان ما تلبث أن تزول، وخبز لابد له أن يفسد؛ حوَّله إلى بركة من نوع جديد تماماً.
المسيح أخذ أيضاً نفس الخبزة، ولكنه قال أشياءً مختلفة عما اعتادوا أن يسمعوه في هذه المناسبة؛ فبدلاً من أن يبارك الله على خيرات الأرض المادية، إذا به يبارك الله، ويقول أن هذا هو جسدي، ثم يأخذ الدم ويبارك وقال هذا هو دمي لمغفرة الخطايا. انتقال جذري في مفهوم البركة.
المسيح، في الإفخاريستيا، استودع في الخبزة المادية سر الحياة الإلهية، انتقل من المادة الجامدة لشيء أعلى، كَسَرَ حاجز الأرقام، فك المادة من عقالها، ألغى الحدود والصفات الطبيعية للمادة.
باختصار إنه استودع المادة حياة الله، الخبزة العادية حمَّلها حياة أبدية:
«هذا هو الخبز النازل من السماء كل من يأكله لا يموت».
“ولو مات فسيحيا”.
كذلك نفس كأس الخمر الذي كانوا يشربونه، لكي تطيب أنفسهم، كذباً، للحظات؛ استودعه المسيح سر حياته الخاص، بنويَّتَه للآب، ها نحن نشربه، فننال حياة الابن.
نشربه فتُرفع الخطية إلى الأبد، وينال الإنسان ضميراً مغتسلاً مُبرَّءاً من كل إثم. وهو قالها بصراحة ووضوح:
«خذوا اشربوا هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا».
هذا الانتقال والتحول العجيب وقف أمامه التلاميذ مُنذهلين ومتحيرين، والمسيح يرد على بطرس أثناء غسيل الأرجل ويقول له: نعم، أنا أعلم أنك الآن غير فاهم، ولكنك ستفهم أخيراً.
لاحظ أن الفعل الإلهي لا يُستوعب أو يُفهم بالعقل؛ ولكن من القلب يتَّضح قليلاً قليلاً.
المسيح استودع تلاميذه هذا السر، بكل أسرار آلامه وموته وقيامته ومجيئه الثاني وضعه فيهم، غرسه داخلهم، وكأنه عمل فيهم عملية نقل دم أو زرع قلب جديد.
صحيح أنهم لم يستوعبوا أو يفهموا ما قيل لهم، ولكن المسيح سبق وأن تنبأ بما سيكون:
«لقد قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون».
وهذا ما حدث بالفعل عندما انفتحت أعين تلميذَي عمواس عندما عرفوه مباشرة بعد كسر الخبز.
لاحظوا، يا أحبائي، أن المسيح لم يقدم منهجاً لاهوتياً عنوانه ”الكفارة بقلم يسوع المسيح“! أبداً لم يحدث هذا. ولا قدَّم موضوع غفران الخطايا ولا أية عقيدة لاهوتية، ولكن كل ما قاله هو أن ابن الإنسان سيُصلب ويُضرب ويُتفل عليه، لم يقل لهم أن الصليب عظيم ومجيد، أبداً أبداً؛ ولكن الكنيسة فهمت الصليب جيداً بعد الإفخاريستيا، والرسول بولس يقول إنه لا يفتخر في حياته بشيء سوى بصليب المسيح.
ثم من أين جاء الرسول بقوله إن الصليب هو حكمة الله وقوته؟ المسيح وضع لهم الأساس اللاهوتي عندما قدَّم لهم كأس الإفخاريستيا، لا كتعليم أو نظرية عقائدية؛ بل كفعل إلهي سرائري، كقوة إلهية خفية غير مُدرَكة، ولكنها محسوسة مُعاشة في خبز مكسور يحمل سر الجسد الإلهي الحي، وكأسٍ فيه دم المسيح المسفوك يحمل سر الحياة لابن الله.
صـلاة
يا ربنا يسوع المسيح، يا ربَّ خميس العهد،
يا ضيف المحبة على مائدة المحبة، التي ذَبَحْتَ فيها ذاتك،
لا بسكين، يا ربي، ولا بخروف، ولكن بيمينك العالية،
ذبحتَ المحبة ذاتها؛ فكانت هي الكاهن، وهي الذبيحة معاً،
وأشبعتَ العالم كله من الحب الذي ينبع في قلبنا حينما ينسكب فيه، في سر الجسد والدم إلى حياة أبدية،
يا عريسنا اليوم، أيها المذبوح بالإرادة قبل أن تُذبح بغير إرادتك،
اليوم ذبحتَ نفسك بإرادتك وحدك، لكي ما تُعلِّمنا أن لك سلطاناً أن تضعها، ولك سلطاناً أن ترفعها؛ فارفعنا اليوم معك، يا ابن الله، ارفعنا عالياً جداً لنتحسس مكاننا من جسدك ودمك لنستمد حياتنا ومفهوماتنا كل يوم من فعلك الإلهي الحي فينا، وليس من كتاب.
أنت هو كتابنا.
الإفخاريستيا هي انفتاح عيوننا وانفتاح أذهاننا،
فاعْطِنا، يا رب، أن نأخذ بإيمان وأمانة، لتنفتح عيوننا وآذاننا، فنعرفك ونتبعك في كل أيام الحياة.
لك المجد في كنيستك إلى الأبد أمين
Discussion about this post