الأب منير سقّال
مقدمـة
شرائع لنحب : إن الوصايا العشركما يُقال بأسلوب غير دقيق ، شرعة شعب الله ، أهملت في تعليم الكنيسة الأولى ، لتعبر عن انفصالها عن الهيكل . أربعة قرون تنقضي على هذا المنوال تفقد فيها الخُلُقيّة المسيحية جذورها القديمة وتتغذى من زهرة الخطبة على الجبل ، ولا سيما من التطويبات . بيد أن المانويين ( أتباع ماني 216 – 277) يغالون حقاً عندما يتجرأون في القرن الرابع ، فيعلّمون بأن العهد القديم بأكمله هو من عمل الشيطان . يقوم القديس أغوسطينوس بردّة فعل إذ يُدخل الوصايا العشر في التعليم الخُلُقي لطلاب التعليم المسيحي وللمؤمنين . كان تأثيره كبيراً جداً إلى درجة أنه ضمن ” للوصايا العشر ” نجاحاً على مدى خمسة عشر قرناً ، أيّده مجمع ترانت . واتخذه أكبر اللاهوتيين وأصغر تلامذة التعليم المسيحي أساساً لتعليقاتهم والبالغون ” الذين سبقوا وتعلموا الاعتراف ” كانوا يجدون فيه إطاراً لفحص ضميرهم ولشكاواهم : ” الوصية الأولى الوصية الثانية ”
لكن بعد مدة وجيزة ، كان السقوط العنيف لهذا المدّ الأقصى الطويل: هبوط قيمة الوصايا ، وتضخم المحبة غالباً ما ننفر من “الوصايا ” إذ نعتبرها مغالية في السلبية ، محطّة ، غير كاملة ، وتستغل في شريعة الحب في العهد الجديد . ” أحبب وافعل ما تشاء ” هذا الشعار المخالف للرأي العام هو من القديس أغوسطينوس بالذات الذي عاد فأحيا الوصايا العشر في القرن الرابع.
وفي الواقع ، هل تكمن روح الإنجيل في إحلال حب القريب محل الشريعة القديمة ؟ هذا الاعتقاد هو تنكر لهذا وذاك من العهدين اللذين هما في تكامل كطابقين في منـزل واحد . في العهد الجديد ، لم تُرم ” الوصية ” جانباً ، بل بالعكس فهي تبدو دائماً ، في المقام الأول . يذكّر الرب ويتمسك بكل ما علّمه كلام الله قبل مجيئه . يفعل ذلك ، حقاً ، مميزاً بعناية بين الكتاب المُوحى ، الحازم والمحرّر وبين ” تقاليد الناس ” الذي غذته طفيليات من الممارسات المفرطة الدقة والمرهقة . يفعله أيضاً طارحاً أكثر فأكثر سلطته المحضة ، لا ليُلغي الشريعة القديمة ، بل بالعكس ليرفعها إلى ذروة كمالها ( متى 5/17-19 ) . لم يُلغ الرب المبادئ الطبيعية في الشريعة ، بل نشرها وكمّلها ، هكذا ، كل مرة ، الشريعة القديمة هي موضوع تعمق رائع ، لكن ليست موضوع إلغاء ، حتى أنها ليست موضوع إبدال بأخرى ، وهي بالأحرى ليست موضوعاً نقيضاً . ما كان العهد القديم قط ليقول ، في أي مكان ، ببغض الأعداء . كان هذا تأويلاً مدعاة للشك بقدر ما كان? رسمياً . وعندما كان يسوع يدعو سامعيه إلى الاقتداء بالله الذي يسخو على أعدائه كما على أصدقائه ، لم يكن يقوم إلا باستعادة الشريعة الأساسية للعهد القديم بأجمعه : أن نكون قديسين لأن الله قدوس ، أن نكون قديسين كما الله قدوس .
كلمات الميثاق العشر
إن الوصايا العشر ، في ذروة كمالها ، هي المحظور الذي عليه يبنى شعب الله وبالتالي ، كل كنيسة مسيحية . لأنها في مصدرها مرتبطة بالخروج من مصر ، وبالتالي بالتحرر ، بالفداء، بالميثاق بين الله والبشر ، وبالخلاص في يسوع المسيح . لنُعد قراءة سفر الخروج ، فصل 19: ظهر الله ، إذ ذاك ، في غمامة على جبل سيناء . ” ثم تكلم الله بجميع هذا الكلام قائلاً :
– أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية
– لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي
– لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل
– لا تحلف باسم الرب إلهك باطلاً
– أذكر يوم السبت لتقدسه
– أكرم أباك وأمك
– لا تقتل- لا تزن- لا تسرق
– لا تشهد على قريبك شهادة زور
– لا تشته شيئاً يخصّ قريبك ” ( خر 20/1 _ 17 )
هذه الكلمات العشر هي خاتمة العهد في إطار الخروج ، إنها انطلاقاً من مصدرها ودورها ، في صلب إيمان إسرائيل وحياته ، كما في صلب الكنيسة المسيحية : الميثاق الذي عليه أُسس تاريخ التحرر والخلاص . ويجب أن تُفهم على أنها ” الحريات العشر الكبيرة ” . الوصايا العشر التي أُنشئت بدراية ،تقدّم للعالم الحديث معنى لا ينضب ، لم يكن الإنجيل إلا ليعكسه ويتوسع فيه .
احفظ الوصايا
” الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا “ لا ليحمل لنا خُلُقية ، بل ليحمل لنا الخلاص إنه لمن الخطأ أن نشير إلى أن الرب يعرض الوصايا للتصفية . لقد جاء ليعلن الغفران ، لا لينكر الخطيئة . جاء ليبشر بالرحمة ، لا ليلغي الشريعة . في الحقيقة ، إنه يهاجم بعنف الكتبة والفريسيين الذين يُرهقون الشعب الصغير بتقاليد بشرية ،ولكنه يلومهم على مخالفة وصايا الله ( متى 15/1 – 19 ) إنه يضطلع بكلمات العهد العشر ، لأنه جاء خاصة ليكمّل العهد ويخلّده . إن عمل المسيح لا يُبطل الوصايا ، كما قيل غالباً ، وهو لا يقوم حتى في بناء خُلُقية أرقى ، بل في صقلها روحياً وتقديمها للجميع : موته وقيامته ” ينشران روحه على كل جسد ” ( رسل 2/17 ) روح حياة ، روح حب . الروح بالذات الذي يحفز إلى أن نحيا المسيح ونحبه .
إن الوصايا هي شرائع أجل إنما لكي نحب ولا ندع أحداً خارج الدائرة حيث الحب والمشاركة ، تكبر السعادة عندما تكون المشاركة ، تصبح نعيم الله بالذات عندما نعطي كل شيء ، مثل الذي كان ” الإنسان من أجل الآخرين ” ، المسيح .
لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي ( الوصايا الثلاثة الأولى )
واحدة ، اثنان ، أو عشرة : في زمن يسوع كان هناك تياران يتنازعان المُنظّرين الخُلُقيين الفريسيين : مدرسة هلّيل التي كانت تنادي بشرح ملطّف للشريعة ، ومدرسة شمعي التي كانت تتشبّث بتقيّد صارم . يُحكى بأن وثنياً أراد أن يعتنق الديانة اليهودية ، ولكن اشترط أن تعرض له الشريعة اليهودية بكاملها خلال المدة التي يمكنه أن يقضيها واقفاً متوازناً على ساق واحدة . شمعي المتشدد ضربه بمسطرته وطرده فوراً خارجاً. أما هلّيل المتسامح فرفع التحدي بدعة واختصر الشريعة كلّها بكلمة : ” أحبب قريبك ” .
هذا ما يلائمنا تماماً . عصرنا عصر السرعة ، لقد أوجزنا الكتب في ” ملّخصات ” ، وموضوعات المجلات في ” مختصرات ” . أتُراها السرعة نفسها – أم الكسل – هي التي تردّ اليوم طوعاً أوامر الله والكنيسة كلّها ، والشريعة والخلقية ، إلى هذه الكلمة الفريدة : الحبّ .
ثمة أكثر من أسلوب . لأن الرب لا يعارض ذلك ، بل بالعكس. فللمشترع الذي يسأله لينصب له شركاً:
– يا معلم ، ما الوصية العظمى في التوراة ؟
قال يسوع ( مستشهداً بتثنية الاشتراع ) : ” أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل فكرك . هذه هي الوصية العظمى والأولى. والثانية التي تشبهها : أحبب قريبك حبّك لنفسك . وبهاتين الوصيتين تختصر التوراة كلها والأنبياء ” ( متى 22/33 _ 40 ) . هكذا ثـبّت يسوع المركز ، بؤرة الوصايا العشر . فالعقدة التي تشدّ في حزمة واحدة الخلقية الإنسانية والمسيحية كلّها ، هي إذاً ” أحبب “. ولكن عندما نختصر الكلمات العشر ( الوصايا ) في واحدة ، ” الوصية الكبرى ” ، لا تصل إلى واحدة أو عشرة ، بل إلى اثنتين ، وكون الثانية عظيمة وهامة شأن الأولى، فالاثنتان تصبحان إذ ذاك غير منفصلتين .
موجز القول ، ” البرهان يتسع ” على أننا نحب الله ، قائم في المحبة التي نكنّها لاخوتنا . فالوصية الأولى تتحقق في التقيّد بالثانية ” المماثلة لها ” . إن الرب يضع حداً لأوهامنا ، عندما يطلب كدليل منا على حبنا له ، الحب المحسوس تجاه الآخرين . علامة حبّ الله الذي لا نرى ، هي في حب اخوتنا الذين نرى . علامة اكتمال الوصية الأولى في قلوبنا تظهر في ممارسة التسع الأخرى حيث خمس منها تردّنا إلى احترام القريب وحبّه ( 1 يو 4/12 ، 16 ، 20 – 21 ) .
يقدم الكتاب الوصايا في لوحتين يتضمن كلّ منها خمساً . الأولى تورد النقاط الأساسية في موقفنا إزاء الله ، والأخيرة تشير إلى واجباتنا تجاه القريب . والرب سيرجع اللوحتين إلى وصيتين ، وما هذا إلا ليوحدهما أو على الأقل ليضعهما في مرتبة واحدة : الوصية الثانية مماثلة للأولى من جهة أخرى ، فالوصية الخامسة هي كالمركز حيث تلتحم الوصايا ، لأن الراحة الأسبوعية هي في الوقت عينه ، تقديس لله واستراحة للإنسان من أعماله .
ملاحظة : في ممارسة التعليم المسيحي في كنيستنا ، ترقيم الكلمات العشر أو تقطيعها لم يكن دائماً التقطيع المتبع في الكتاب . هكذا جمع القديس أغوسطينوس الوصيتين الأوليتين في واحدة وجزّأ إلى اثنتين الوصية الأخيرة . فضلاً عن مسودة قديمة من الوصايا العشر في سفر الخروج 34/14-16 ، وصلنا النص الموحى للكلمات العشر ، في تعابير مماثلة من خلال تقليدين مختلفين : خروج 20/2-17 وتثنية الاشتراع 5/6-21 . الوصايا العشر هي ذاتها فيهما وحسب الترتيب نفسه ) .
” أنا هو إلهك الذي انتشلك من العبودية “
” أنا يهوه ، إلهك ، الذي أخرجك من أرض مصر ، من دار العبودية ( تث 5/6 ) .
هكذا تبدأ ما سميت بـ ” الوصايا العشر ” . لنلاحظنّ ذلك جيداً : هذه الكلمات الأولى لا ” تأمر ” بشيء . واحد يتقدم فيقول ” أنا ” صوت شخص . ويستشهد ، لا بسلطانه ، ولا بحقوقه ، ولكن بحبه المعلن ، بصوت صارخ : ” أنا يهوه إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية ” . يهوه لا يقدّم نفسه هنا بما هو عليه ، بل بما صنع ويريد أن يصنع أيضاً لأجل شعبه ولأجلنا . إنه يُدعى بالاسم الحقيقي الذي به ظهر لموسى في العليقة الملتهبة : يهوه: ” أنا هو ” و” سأكون [ معك ، قربك ، لأجلك ] . اسم الله هذا ، هو هكذا مرتبط إلى الأبد بحدث الخروج : ” أنا يهوه ، إلهك الذي أخرجك من أرض مصر ” ، عمل محرر ، مخلص ، فادِ .
بعد هذه المقدمة ، ما يطلب تالياً ، ” الأنت ” الذي سيفتح كلاً من الكلمات العشر والذي سيقوم بداهة في علاقة عهد ، في حوار حب معقود في التاريخ الإنساني بحدث ، هو زواج ، هو ” أنا ” و ” أنت ” في حنوّ أبدي.
هذا ” الأنا ” الذي يستدعي ” حبه ” ، هذا ” الأنا ” الذي يخاطب ” الأنت ” بحنوّ حميم ، هذا ” الأنا ” الذي يُدعى يهوه ” سأكون معك ” يمكنه أن يلفظ الكلمات العشر . عندما نعرف أننا محبوبون، يمكننا أن نسمع كل شيء ولا نطلب إلاّ أن نقول نعم . وبالمقابل ، عندما نحبّ ، باستطاعتنا أن نسأل كل شيء ، لأننا فضلاً عن كوننا لا نؤخذ بتجربة الغلوّ ، فإننا لا نسأل إلاّ خير الذي أو التي أو الذين نحبهم . كذلك لا نخف من هذا ” الأنت ” مهما كان قاطعاً : إنّ له حدّ الحب الملزم . وعليك أن تسمع ملء رجاء بهيج ، هذه الكلمات العشر الآمرة التي يوجهها الله بذاته ، اليوم وأبداً ، إلى كلّ واحد شخصياً ، إذن ، إليك ” أنت ” الآن ، لأنه يحبك .
” لا يكن لك “ كلمات الرجاء العشر “
” لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي “ ، هذه هي الوصية الأولى . إنها تقع كحظر . لقد صدم البعض حقاً من الصياغة السلبية للكلمات العشر كلّها ، ما عدا اثنتين ، تعبّـر بـ ” لن يكون لك ” ، مما يظهر الحريات العشر كمحظورات . يبدو للكثيرين أن الأوامر الإيجابية قد تكون أكثر إنجيلية وأكثر ديبلوماسية تجاهنا ، وهي بالتالي تطبّق بفرح أوفر . ليس هذا إلاّ شعوراً خالياً من التفكير .
عظة يسوع على الجبل لا تخلو من المحظورات : ” لا تحلف لا تمارس ديانتك لتجذب أنظار الناس لا تطنّ بكرمك لا تكونوا كالمرائين لا تكنـزوا كنوزاً على الأرض لا تخافوا لا تدينوا ( متى 5،7 ) . الصيغة السلبية التي ليست ، إلى كلّ هذا ، إلا اختياراً لشكل لغوي ، هي جارحة ، إنما ليس لها مدلول آخر سوى الصيغة الإيجابية التي تعني : ” اترك لقريبك حياته وسمعته وزوجته أو زوجها ومحفظته ” . إن الوصايا في نواهيها هي أساساً ناموس محرّر ، بسياقها التاريخي في الخروج من العبوديّـة ، بعهد الحب الذي هي شرعته ، وبمضمونها المؤنسن . إن الوصايا هي ” الناموس الكامل ” الذي عليه تكلمت رسالة القديس يعقوب : ” أيها الأخوة ، كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين لها فقط فتغرّوا أنفسكم فمن يتطلع في الناموس الكامل ، ناموس الحرية ويستمرّ عليه ، لا كمن يسمع ثم ينسى بل كمن يمارس العمل ، فهذا يكون سعيداً في عمله ” ( يع 1/22 _ 25 ) .
نقطة تكاد تمر دون أن تُلحظ . فالوصايا في نصّها الأصلي ، ليست موضوعة بصيغة الأمر : ” لا تقتل لا تسرق ” لكن بصيغة المستقبل : ” لن يكون لك آلهة أخرى لن تقتل ” . إن الكلمات العشر هي شرعة للمستقبل ، لذلك فإننا نؤّديها عادة بصيغة المستقبل : ” لن يكون لك آلهة أخرى تجاهي “ .
” لا آلهة أخرى تجاهي “
لا يعطينا سفر التكوين قط فكرة مجردة عن الإنسان ، بل يظهره بجسمه ، بكيانه ، في علاقته بالله ، بهذا الإله الذي يعلن صورته في الإنسان ، وهكذا يتيح لنا أن نكتشف إلهنا انطلاقاً من الإنسان صورته ، وبالأكثر ، في علاقته الأبوية معه هذا الإنسان ، مع شعبه الذي حرّره ، وأخيراً مع البشرية جمعاء . لأن العهد لا يبدأ مع إسرائيل إلا ليمتدّ إلى كل الأمم . مذاك ، دون أن يؤكد الله بأنّـه الأوحد ، فهو يستعمل لغة العهد : ” أنا يهوه ، إلهك ، لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي ” ( تث 5/6 _ 7 ) كما في الأعراس الأرضية، عندما يضع كلّ من الخطيبين الخاتم في إصبعه ، يتبادلان ضمناً هذا الكلام : ” أنا زوجك أنا زوجتك لا يكن لك زوج سواي ” . ها هما شريكان في الحياة والموت ، دون أن يتمكن أحد من التسرّب كثالث إلى هذا الحب ” الزوجي ” المتبادل . فالله هو إذن ” إلهنا ” إلى الأبد .
الله الذي ارتبط بنا ولن ينفصل عنا ، الله الذي تعرّض للشبهة معنا والذي يُرفض غالباً بسببنا ، هذا الإله _ ” إلهك ” _ لن يتراجع . ولكنه يدعونا إلى التجاوب ، إلى الحب المطلق ، إلى الأمانة الخالصة: ” لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي ” . نحن مدعوون أبداً إلى تجديد العهد الذي لا يمكن أن يحله شيء ، لا الموت ولا الحياة ، عهد لا يمكن أن ينوب عنه شيء لأنه خالق الحياة والحرية ، والسعادة والأبدية ، لا يمكن أن ينوب عنه شيء بالنسبة إليه وإلينا لأنه عهد حب .
اسم الله
بقدر ما نتقدم ، تتمحور الوصايا حول الله . الوصية الأولى موجهة إلى الخارج ، إنها تحذّر من الهرب بعيداً عن الله ، إلى آلهة أخرى ، إلى آلهة مزيّـفة ، تلك التي نستعيرها من الوثنيين أو نصوغها مثلهم . لكلّ عصر آلهته.
الوصية الثانية تدين ممارسة ، ليست هي ابتعاداً عن الله الحقيقي ، إنما هي بالعكس عمل مباشر عليه وضدّه: تدنيه إلى صورة منحوتة ، تزييف الكلام اللامنظور الذي أوحي به ، تجاهل صورة الله في كلّ إنسان .
وإليك أيضاً ما هو أخطر : الاستعمال الكاذب أو السيئ أو المدنّس ، لا للصورة المزيّفة ، بل للاسم ، أعني لشخص الرب أو يسوع بالذات . وهنا تدخل الوصية الثالثة : ” لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأنّ الرب لا يزكّي من ينطق باسمه باطلاً “( تث 5/11). في التعدي على اسم الله ، المستعمل ” زوراً ” يتجاسر الإنسان على أن يحاول ، بشيء من الوعي ، الاستيلاء عليه واستعماله ، استعباده واستخدامه ، وضع اليد عليه ليصنع منه ما يشاء .
أيها الآب ، إجعلنا متألقين بك
إن الوصية الثالثة لا تدعنا في طمأنينتنا : إنها تُلزمنا بأن نُساعد أقصى ما يُستطاع لمجد الله . وبما أننا نحن أبناء وبنات الله المعتمدون ، فإن تصرفنا هو الذي سيحفز إلى التجديف عليه أو التعرّف إليه : يقول لنا يسوع : ” أنتم نور العالم ” ( متى 5/14- 16 ) . فأفكارنا وأقوالنا هي إذن مرآة القداسة الإلهية وحب الآب . ” ومهما أخذتم فيه من قول أو فعل ، فليكن الكل باسم الرب يسوع المسيح شاكرين به الله الآب ” ( قول 3/17) .
من اللوح الأول إلى اللوح الثاني
في البدء خلق الله السماء والأرض باركهما وقال لهما : ” انميا واكثرا ، املأا الأرض وأخضعاها ” (تك 1 ) . قبل الكلمات العشر بزمن بعيد ، هذه هي الكلمة الوحيدة ، كلمة الخالق الأولى للإنسان خليقته : ” انميا ” . وبهذه الكلمة ، لا يمكنك إلا أن تشعر بأنك معنيّ شخصياً : أنت مدين لها بالحياة ، لقد خلقتك ، وهي تخلقك في كل آن ، وستخلقك إلى الأبد . بها خلاصنا الأول لأنها تنشلنا من موت الأموات هذا الذي هو العدم الأصلي حيث كنّا ، لولاها ، مكثنا إلى الأبد . ولكن ألا يُهان الإنسان ويُستغل ويُسلب ويُقتل من قبل أناس آخرين ؟ أجل ، ومن أجل ذلك ، تدفقت كلمات ” اللوح الثاني ” من الشريعة ، من فم الخالق بالذات : ” لا ترتكب قتلاً وزنىً وسرقةً وكذباً ” وقبل هذا : ” أكرم أباك وأمّك كما أمرك الربّ إلهك لكي تطول أيامك وتصيب خيراً في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك ” ( تث 5/16 ) . هذه الوصية الخامسة هي التي تنقلنا من اللوح الأول إلى اللوح الثاني من الشريعة الإلهية . أو بالأحرى هي التي تربطهما الواحد بالآخر .
أكرم أباك وأمك
منذ الفعل الأول ، فعل الخلاص الدائم ، خلق إله الحب الرجل والمرأة وأوكل إليهما هذه المهمة : ” إنميا ” ، فالخالق يشرك الوالدين بقدرته في الحياة والحب : يجعل الإنسان أباً وأماً ويقضي بأنه ، بدونهما ، لن يكون أولاد ولن يكون شعب الله ، حيث أن حياة كل كائن بشري تنبثق من حب الله كما من منبعها ، ولكنها بالضرورة أيضاً من اتحاد الوالدين ، من إرادتهما ومن حبهما . لذلك في الوقت نفسه الذي تعبد فيه خالقك ، ” أكرم أباك وأمك ” : إنهما ، معه ،” علّة وجودك ” . بدون والديك ، لا الخلق ولا الخلاص يعنيانك . في تصميمه، أرادهما الله قريبين منه غاية القرب. إن تميّـزهما عنه ، فلا يمكنك أن تفصلهما عنه في الإقرار بجميلهما واحترامك لهما .
نلاحظ أن اللوح الثاني من الشريعة ، الذي يلفتنا إلى القريب ، يجد هنا مفصلة تصلنا باللوح الأول ، بالله . إذا كنت لا أستطيع أن أسعى إلى والديّ دون أن أتجه صوب الله ، إذا كنت لا أستطيع أن أمسهما دون أن أمسّ الله ، ما الأمر الكبير الذي يجب أن أستشعره في وحي هذه الوصية الإيجابية : ” أكرمهما ” ؟ .
الأهمية أولاً هي أهميتك أنت ، لأنك تعتقد نفسك ذا أهمية ، وأنت على حق . ولكن ، بفضلهما ، أنت في الوجود . أية كانت منزلتهما ، حتى مهما كانا غير مؤهلين ، فهما اللذان أعطياك الحياة . وإليك يعود بأن يقر العالم والله نفسه بفضلهما إلى الأبد . الأهمية أيضاً ، أنهما في انتظار أن تتـزوج وتصبح مثلهما أباً وأماً هما ” قريبك ” الأول . الأهمية أخيراً في أنهما صورة الله ثلاث مرات :
– ككائنات بشرية خُلقت على مثال الله .
– كزوجين متحابين أصبحا ” ثالوثاً ” في ولدهما بعطاء حبّهما المتبادل .
– كوالدين أخيراً مُشاركين في قدرة الخالق ومكلّلين ببريق من مجده .
وبما أن الوالدين هما فعلاً ، مع الله ، صانعا أولادهما ، فعلى هؤلاء أن يعترفوا ، أقله لوقت ما ، بسلطتهما ، هذا يعني أن السلطة تتجذّر في سر الحياة وفي سر الحب . والسلطة هي حكمة الله المُعارة للوالدين من أجل نموّ أولادهم الجسدي والنفسي والديني والثقافي . فالسلطة هي إذن حبّ وخدمة وواجب ، أكثر منها حق وبما أنها تُمارس على إنسان حر ، فهي تتلاشى وتتراجع بقدر ما تثبت حرية الابن . وتسقط ، في النهاية كمشد لا فائدة منه ، وكقالب لم تعد ثـمّة حاجة إليه . أخيراً ، إن السلطة محبوبة إجمالاً ، – شرط ألا يساء استعمال النفوذ لأنها حب . فيجب أن يُـجاب عنها بطاعة حب . يُحبّ الولد أن يطيع والدين يرى فيهما سلطة الله ، إذا ما نسيا ذاتهما وما عرفا إلا الحب ، كما الله . وهكذا في المحبة ، السلطة والحرية تتعانقان .
بيد أن الوصية الخامسة هي على غرار التسع الأخرى ، كلمة حرية . فهي تدين إذن الوالدين الظالمين الذين يكون مسكنهم ” بيت العبودية ” . فإن الوصية الخامسة ، كونها كلمة حرية ، فهي لا تُغلق أمام الأجيال الجديدة سبل الابتكار والخلق والتجديد والتقدم ، دون أن ينسوا أن العالم بدأ قبلهم ، وأنهم ، بالعكس ، محمولون على أكتاف أجدادهم .
“لا تقتل ” لا تقتل أبداً إنساناً
الحياة ؟ ما الحياة ؟ لم يستطع أحد أن يحدّدها ، بيد أن الناس كلهم يحدسون بما هي . كل إنسان يُدرك ظواهرها : يولد ، يتغذى يكبر ، يتحرك ، يشعر ، يلد عند الاقتضاء ، يحمل ثمراً ، يشيخ وأخيراً يموت . فالإنسان والحيوان والنبات يعيشون . لكن هنا لا نتكلمنّ على احترام حياة الكائنات إجمالاً ، بل على الحياة البشرية . بهائم ونباتات خلقت من أجل الإنسان ، من أجل بهجة الإنسان ورفاهيته . الحياة البشرية هي شيء مطلق وقيمة القيم ، لأن الإنسان وحده هو شخص بين أحياء هذه الأرض ، هو صورة الله ، عاقل وحر ومُحب وخالد . ولذلك ولاّه الخالق ليكون مدّبراً وسيداً على الحيوانات التي هي دون حياته .
إن الوصية السادسة تشجب الموت الذي يسببه فرد في عمل عنف أو ثأر أو عدالة خاصة ، أو تهاون بالغ ، إنها تنكر القتل ، أياً كان ، الذي يهدد حياة شعب الله الاجتماعية . هكذا تُصان حياة ” القريب ” ضد كل اعتداء خاص . إنها تحرم القتل ، أعني كما يقول القديس توما ، ” القتل الإرادي لبريء ” . لماذا لأن الحياة البشرية هي أساس كل الخيور ، والمصدر والشرط الضروريان في كل نشاط بشري وكل مشاركة اجتماعية . ولأن كل إنسان هو مساو لكل إنسان. أيّ مواطن عادي لا يمكنه أن يعزو إلى نفسه حق الحياة والموت على الآخرين ، إلا إذا اعتبر نفسه الإله الخالق الذي يُحيي ويُميت ، أو ممثله في المجتمع . وأخيراً ، لأن كل إنسان يحرص حرصاً شديداً على حياته بالذات وعن حق فهو لا يُعذر إذا ما اعتدى على حياة أخيه بالدم، حياة ذاته الأخرى في الإنسانية ، والتي هي قريبه أياً كان . إلى ذلك ، يحدس المؤمن ، تجاه حياة نظيره ، بسر مقدس ذي مصدر إلهي . يعرف أن كل إنسان يأتي من الله ويعود إلى الله ، في ساعة الله الذي هو وحده ربّ الحياة والموت . وأنه في اختصاره حياة شبيهه ، إنما ” يقلّد الله ” في عملية اغتصاب وتحدّ . أخيراً ، يعرف المسيحي أيضاً أن دماً بشرياً يجري ، منذ ألفي سنة ، في عروق الله. إن الله حقاً ، ارتمى معنا في كفّة الميزان حتى يأخذ كلّ إنسان من بعدُ وزن الله . من يجرؤ على إراقة الدم الإلهي ؟ لقد قال الإنسان _ الإله : ” كل ما صنعتم هذا إلى أحد اخوتي الأصغرين هؤلاء فإليّ صنعتموه ” ( متى 25/40 ) . فقتل إنسان بريء ، هو قتل المسيح .
” لا تزن .الزواج ، هذا السر العظيم “
” أيها المعلم ، لقد فاجأنا هذه المرأة متلبسة بجريمة الزنى ، ونحن نعلم أن موسى في شريعته يأمر برجم نساء كهذه ، وأنت ماذا تقول ؟ ينتصب يسوع ويقول : من منكم بدون خطيئة ، فليقذفها بالحجر الأول (يو 8/2 ) . هاهم يقعون أسرى لعبتهم. على الأخص أسرى كلام الله العذب والخالي من الشفقة ، كلهم يختفون على أصابع أرجلهم . وتبقى المتهمة ، وحدها ، خائرة القوى، قال لها يسوع : يا امرأة ، أين هم ؟ لم يدنك أحد ؟ – لا أحد، يا رب حسناً، أنا أيضاً لا أدينك ، اذهبي ولا تخطئي بعد الآن .
هكذا مرة أخرى ، يرد يسوع الشريعة الموسوية إلى العهد القديم ، ويُبقي للعهد الجديد كلمات العهد العشر . يظل على مسافة من موسى ورجمه ، بينما بقوله ” لا تخطئي بعد الآن ” يتمسك بالوصية السابعة من الوصايا العشر ويثبتها :
” لا ترتكب زنى ” ( تث 5/18 ) ، هناك “الخطيئة الصغرى “، الشراهة ، ثم وعلى الأخص ، إنها ” الخطيئة الشنيعة ” كما كان يقال في القرن السابع عشر ، وحتى بكل بساطة وبحرف كبير ” الخطيئة ” وكل ما تبقى ليس سوى زلات . فالمقصود ، الدنس عامة والزنى على الأخص .
ليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه الوصية السابعة ” لا تقترف زنى ” ملحقة بتلك التي تحرّم القتل . فالكائن البشري المتزوج يدمر قرينه ، عندما يستسلم لعلاقة أخرى ، وإن بطريقة عابرة . الجحود من قبل المارق نوع من قتل الله . معه ، كانت هناك خطيئتان أخريان في الكنيسة الأولى ، تبعدان عن الافخارستيا : القتل والزنى . بيد أن الإيضاحات الأخرى في الكتاب المقدس المتعلقة بالجنس تشهد بوفرة أن هذا المحظور الأكبر يتوسع لدى كل علاقة جنسية فاسدة : ارتكاب المحارم ، لواط ، علاقة بين إنسان وحيوان ( أح 18 ، خصوصاً 6- 7 ، 21- 23 ، و20/10- 21 ) . أما فيما يتعلق بالزنى ، فهو مُدان على الأخص ، بتحريم الدعارة ، في مواعظ الأنبياء ولا سيما في قرارات حكماء إسرائيل .
إن التفسير الشامل الذي أعطاه العهد الجديد للوصية السابعة من الوصايا العشر ، لا يضيف شيئاً، كما يُتهم أحياناً بذلك . فهو يبقى أحياناً لتقليد كتابي طويل نابع من كلام العهد ” لا تقترف زنى “. والتعليم المسيحي التقليدي في الكنيسة كان صدى العهدين في إسهابه في تحريم الزنى بهذه العبارات : ” ولا تقترف زنى لا بالفعل ولا بالرضى لا تركن إلى شهوة الجسد إلا في الزواج . ” إن تكن حاجة لتأكيد ذلك ، فها هي الرسالة إلى العبرانيين : ” ليكن الزواج مكرّماً في كل شيء ، والمضجع طاهراً ، فإن الزناة والفسّاق سيدينهم الله ” ( عب 13/4 ) .
الزواج عظيم جداً -غاية في العظمة
الزوجان والعائلة صدرا عن الله ، بالنسبة إلى الذين لا يؤمنون بذلك وإلى الذين يؤمنون ، لأن الزواج هو ، كالإنسان نفسه ، امتداد لسر الله بالذات ، ووسيلة لنقله . لكن هذا السر هو الحب . ولا سعادة إلا إذا أَحببنا وأُحببنا . وبما أن كل شيء به كُوّن ، فكيف نريد أن يخلق الأشياء إلا على صورته ومثاله ؟ نستنتج أن كل شيء خُلق عن حب ، كل شيء خُلق عائلة ، كما أن الله ” عائلة ” . هكذا يكون الزوجان ، حتى في اللذين يجهلون ذلك ، سر الله الذي يمكن أن يكشفه بملئه الإيمان وحده ، والذي وحدها كنيسة يسوع المسيح تحتفل به كما هو
لا شيء يمكن أن يفصلنا : ولأن الله حب ، عقد الثالوث ” ميثاقاً ” مع البشرية : ” أتزوجك إلى الأبد . “
يقول الرب ، أتزوجك في الحب والحنان ، أتزوجك في الأمانة، فتعرفين الله ” ( هو 2/21-22) . لنفهم ذلك : في تجسده اقترن الابن بالبشرية ، ترك أباه واتخذ الطبيعة البشرية ، وإذا بالله والإنسان في جسد واحد ، جسد يسوع الناصري ، هذا الجسد المولود من مريم العذراء. هكذا ، حياة الله كلها ، تنتقل إلينا بيسوع المسيح. حياتنا كلها ، وقد تطهّرت وتبدلت، تمر بيسوع المسيح إلى الله . بين زوجين ، كلّ شيء مشترك . والحال أن الله تزوج البشرية بيسوع المسيح . كلّ شيء إذن مشترك بين الله والبشر . هذا هو العرس الأمثل ، عرس الله والبشر بتجسد ابنه . هذا هو الزواج المثالي . زواج نهائي ، زواج حب ولا أغنى ؛ لأجل عروسه ، سلّم الابن نفسه إلى الموت . وهكذا ، يطلب الرب ، بواسطة كنيسته ، أن يقبل رجال ونساء يهبون ذواتهم الواحد للآخر في الحب مدى الحياة ، أن يقبلوا شرف ونعمة عهد المسيح وكنيسته ، فيعيشون ويشهدون له ويكونون ” سره ” أي علامة حسية يراها الجميع .
لنعد قراءة الفصل 5 من القديس متى . من خلال الآيات 17- 48 يرسم يسوع عالياً ، في مطلق الله ، خط القمة للزواج ، لكن أيضاً وبالقدر نفسه ، لعدد من المثاليات الأخرى . إن تصريحات يسوع السامية تُقوي وتُرقّي ستّ نقاط اختارها كلها على أنها أساسية وجعلها في مستوى واحد وعالجها في النص ، وفاقاً للتصوّر ذاته: ” ما جئت لأبطل الشريعة اليهودية ، بل بالعكس لأرفعها إلى كمالها / يجب أن تمتنع لا عن القتل فحسب، بل حتى عن الغضب / لا عن الزنى فحسب ، بل حتى عن الشهوة الباطنية / لا عن الطلاق وفاقاً للقوانين فحسب ، بل عن الطلاق إطلاقاً / لا عن القسم بالباطل فحسب ، بل عن كل قسم / ينبغي أن تمتنع لا عن الانتقام “المعتدل” فحسب ، بل عن كل انتقام بتاتاً / لا أن تحب قريبك فقط ، بل أن تحب حتى عدوك
لا تزن فالجسد ليس مادة حتى للّذة . الجسد هو شخص لم يُعدّ ليتلذّذ اعتباطياً لا على حساب نفسه ولا حساب الآخرين. لا يمكن أن يقدّم ذاته جنسياً . لا يمكن أن يهب نفسه وأن يُقتبل كالشخص عينه ، إلا في حب نهائي في مؤسسة الزواج الأساسية والعامة إن الاتحاد الجسدي لا يمكن أن يعني خارج الزواج ما يمثّله حقيقة : حب متبادل ، ثابت ، أمين ، مطلق ، وخصب .
الحب والمسافة
كل امرأة وكل رجل هما ، بالنسبة إلى كل كائن بشري جدير بهذا الاسم ، أخت وأخ. وعندما يولد الحب بين كائنين يُكمّل أحدهما الآخر ، فهو يبدأ في أن يخلق ، مع الحنان ، مسافة الاحترام والإعحاب . وحدها هذه المسافة تتيح أن نرى في الحبيب أو الحبيبة شخصاً روحانياً ، لا موضوع استيلاء غريزي . في الحب الحقيقي ، الروحي يتغلب على الجسدي: الجسد هو جزء من القلب .
أن نطلب إلى شبان ، حتى إلى خاطبين ، ألاّ يمارسوا علاقات جنسية قبل الزواج ، فهذا يعني أننا نشير عليهم بأن يكوّنوا أنفسهم بادئ بدء ، أشخاصاً ، وأن يتبادلوا هذا الاحترام وهذا التحفظ كضمانة بأن الشريك ليس مرغوباً أو مستهلكاً لإشباع الشهوات ، إنّما مُقتبل ككائن رائع تجدر التضحية بكلّ شيء لأجله . آنئذ ينال كلّ حظّه في أن يصبح للآخر مصدر ابتهاج وإبداع ، حتى وإن حالت الظروف يوماً دون اتحاد الجسدين .
لا تسرق – ” سلب – خطف – ” كلام لأجل الحرّية
كلمات تقربنا من هذا المصراع الثامن ، مصراع الوصايا القديمة . ” لا تسرق ” ، هكذا كان يعبّر منذ عهد قريب عمّا يُسمى ” الوصية السابعة ” ، ولكن هذه الـ ” لا تسرق ” تحتفظ لنا بمفاجأة مزدوجة . الأولى ، وهي الصغرى ، أن هذه الوصية هي في الكتاب المقدس الثامنة لا السابعة . أما الثانية ، وهي الكبرى ، فهي لا تقصد القول ” لا تقترف سرقة ” ، بل : ” لا تمارس الاغتصاب ” ( تث 5/19 ) . ” فالاغتصاب ” هو حقاً سرقة ، إنما سرقة إنسان . هذه العبارة تشير إلى كل خطف لشخص أو احتجازه _ حتى في حال رضاه إن كان قاصراً _ لأي غرض كان : إستعباد اقتصادي ، شبع جنسي ، استثمار تجاري ، أخذه كرهينة ، ثأر أو انتقام
هكذا نجد أن الوصايا الخمس الأخيرة تحافظ على الحقوق الأساسية للشخص البشري : حياة ، زواج ، حرية ، كرامة ، وملكية. حقاً ، إن كلمات العهد العشر تثبت كأنها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان . مع الحرية في الوسط لأنها تتضمن وتشترط الأخرى كلها.
لا تشهد زوراً من شهادة الزور إلى الكذب
” لا تشهد على قريبك شهادة زور ” ( خر 20/16 ) ، إن تلك الوصية تستوجب على الأخص مخافة الله . من هنا أهمية كلام رسمي لله ، في الوصايا ، ضد الألسنة الخبيثة . في الحقيقة ، إن شرف ” المتّهم ” وثروته وسلامته الجسدية وأحياناً حياته كانت تتوقف على الشهادة الصادقة أو الكاذبة . كان الخطر يُهدّد حقوقه الأساسية التي تضمنها الوصايا السابقة : ” لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ” فالهدف الأول ، و ” رأس ” الوصية التاسعة هو إذن : ” لا تشهد شهادة زور أمام العدالة ” .
لكن ، كيف باستطاعة من استحوذت عليه آفة الكذب في حياته العادية ، أن يكون صادقاً أمام المحاكم ؟ لمن الضروري إذن القضاء على الكذب من أي جهة كان . فحظر شهادة الزور يجب أن يفهم إذن كحظر من كل كذبة . كما يجب أن يقوم وفاق دائم بين الكلام والقلب. في المقاضاة بالتأكيد ، لكن بادئ بدء ، في العلاقات البشرية جميعها: العلاقات مع الله الذي يشيح عن شعب يكرمه بالشفاه بينما قلبه بعيد عنه ( اش 29/13 ) العلاقات مع الأخوة حيث كل كلام هو شهادة، وكل كذبة هي شهادة باطلة .
كلمة العهد التاسعة هذه ، تستهدف دائرة الصدق والكذب . فشاهد الزور في المحكمة هو كاذب مؤهّل ومحلّف ، لكن كل كاذب هو شاهد زور لفكره وللحقيقة في يوميات علائقه البشرية . من هنا الصياغة المسهبة التي يعرض بها هذه الوصية سفر تثنية الاشتراع : ” لا تشهد على صاحبك شهادة زور ” ( تث 5/20 ) ، هكذا، كل كلام أو تصرف كاذب ، تحرّمه طبيعة الإنسان الاجتماعية ، وأعلى محكمة في العالم ، في سيناء :
– لأنه إذلال للشخص الذي يُفكر بشيء ويصرّح بنقيضه
– لأنه استعمال شنيع للسّان وللجسد اللذين هما أصلاً آلتا علاقة فاعلة
– لأنه ، من هذا المنطلق ، هو دائماً خدعة ” ضد القريب ” وربما شهادة زور
– وأخيراً ، لأنه ، بالنسبة إلى المؤمن ، نقيض ” شيم ” إلهه الذي هو حق وأمانة .
شهادة الزور هي المثل الحسي الأكثر بشاعة للكذب ، فضلاً عن أن الكذب هو أصلاً شهادة باطلة . ما هو مُدان في هذا المجال إذن ، هو حصراً التحريف في أي كلام : أي الكذب في أي زيّ تقنّع. كذلك ” إن الشفاه الكذوبة يمقتها الرب ” ( مثل 12/22 ) ، لأنها تقوّض أُسس العهد بالذات : من يكذب مع البشر يكذب مع الله . إلى ذلك ، من يكذب مع البشر فهو كذوب أساساً مع إله العهد ، لأنه يزرع الفساد والفرقة في هذا الشعب الذي اختاره الله عروساً له . فالعهد إلهي ، والكذبة شيطانية . العهد حياة ، والكذبة مميتة . والمسيح هو الذي يفضح آفة الكذب الشيطانية والقاتلة. يرمز إليها في سفر التكوين ” بالحية ” الأكثر احتيالاً من الحيوانات كلها ، تلك التي خدعت حواء وآدم ( تك 3/13) فالكذوب هو ابن الشيطان ويتهيأ ليشاركه مصيره .
” لا تشهد ضد قريبك -لا تدن “
إن الوصية التاسعة تنحاز بحزم إلى جانب قريبنا : ” لا شهادة كاذبة ضد قريبك ” . سمعته وكرامته تُعدّان من أثمن ما يملك . إنهما أثمن من ماله ، بل غالباً أثمن من حياته ، لأن البعض يؤثرون الانتحار على فقدان ماء الوجه . وبالتالي ، لا شيء عرضة للعطب أكثر من الكرامة التي تتيح للشخص أن يعيش مرفوع الجبين . فشبهة مشهورة ، وبالتالي ظالمة ، تكفي لتلطّخ الكرامة وتهدّمها فوراً . إنها عود الثقاب الملقى دون اكتراث في مستودع العلف اليابس، إنها عقب السيجارة في الحصاد الجاف : تعلّق النار وتمتدّ في تأكيد راسخ، وتنتشر شائعةً وخبراً وتشكيكاً.
إذا كان ” التصريح ” كاذباً ، فهو نميمة ، وإذا كان صادقاً ، فهو اغتياب . وفي كلتا الحالتين ” هو شهادة ضد القريب ” . إن الله يُحرّم اغتياب الغير حتى وإن عرفناه مجرماً ، فكم بالأحرى إذا كنا نجهل أو التقطناه عن طريق السماع فقط . حتى وإن كنتَ واثقاً من الوقائع ، فاحتفظ بها لنفسك ، وإلا فأنت تتصرف كجان . من غير الجائز إطلاقاً أن نسلب إنساناً شرفه وسمعته ? وبالنتيجة إذا ما وافاك ثرثار يغتاب الغير باتهامات ، كلّمه بقساوة وجهاً إلى وجه، واجعله يحمّر خجلاً . وهكذا ، أكثر من واحد يمسك لسانه بدلاً من أن يرمي الناس المساكين بذمّ يصعب عليهم جداً الإبدال منه . لأن الكرامة والصيت الطـيّب سرعان ما يُسلبان ، ولكن استردادهما لا يحصل بيسر . عليّ إذاً أن أصون لساني . هذا اللسان الذي يدعوه الكتاب سمّاً ، وموسى حادة ، وبلية ، وناراً وحساماً وسهماً حتى أتيقن أني لا أجرح ولا أقتل عندما أغتاب، عليّ أن أتريث قبل الكلام، فأطرح على نفسي ثلاثة أسئلة :
1- هل صحيح ما يُشاع ؟وإذا لم يكن إلا نميمة ؟ هل تقدّر دمارات النميمة ؟
2- إذا كان صحيحاً ، أيمكنني أن أنطق بما أعرف ؟ كل الناس يقولون ذلك ، ولكن هذا لا يدل على أنه صحيح.
3- هل لي الحق في أن أرهف السمع للإصغاء ؟ هل يمكنني ضميرياً ، مع الحفاظ على كرامتي ، أن أكون المغسلة حيث يمكن أن يتقيأ النمّامون والمغتابون ؟ إن النجاح التعيس الذي تصادفه ألسنة الأفاعي يعود إلى كونها تجد فيضاً من الآذان التي تجامل .
” لا تشته مقتنى قريبك “
سمعتم ما قيل : ” لا تزن ” . أما أنا فأقول لكم : من نظر إلى امرأة نظرة هوى فبها في قلبه زنى ( متى 5/27- 28 ) . كيف يحدد الإنسان في ذاته نقطة الحرج حيث النظرة تلهب الشهوة ؟ ها نحن إزاء وصية مفخخة ، وصية ” مستحيلة ” . ” النظر برغبة ” لا يعني ” المراقبة ” أو حتى ” الإعجاب ” ولا حتى ” الاشتهاء ” بمعنى الرغبة العفوية . لماذا لنا الحق – بل علينا الواجب في أن نمجد الله لأجل مخلوقاته الجميلة نجوم ، ازاهر ، بحر ، جبال ، حيوانات بينما نرانا ملزمين بأن نشيح بقرف ، حالما نصادف مخلوقات تجمّل كغيرها مشاهد الطبيعة ؟ لمن المهم أن ندرك هذه المقارنة ، الفرق الذي يميّز ، في اللغة الكتابية وفي التقويم الأدبي ، ” الرغبة ” عن ” الاشتهاء ” : الرغبة يمكن أن تظل في حيّز الفكر ، أما الاشتهاء فهو في حيّز الفعل ، يقول الكتاب: ” ينظر الله إلى القلب ” ، إنما القلب الذي يفيض أعمالاً . ليس من يقول يا رب يا رب هو الذي يثير اهتمام الله ، إنما ذاك الذي يكمّل إرادة الآب . الفعل وإنجازه هذان هما ثمرتا القلب اللتان ينظر إليهما الله . كذلك ، إن الاشتهاء ليس فكراً بسيطاً ورغبة سطحية ، إنه الرغبة التي تباشر العمل ، الرغبة التي تتلذّذ والتي ، إذا أمكن ، تشهر سلاحها وتخرج إلى الحرب اشتهى في الكتاب المقدس ، لا تتضمن فقط تنبّه الرغبة، بل أيضاً الطرق العملية التي تقود إلى امتلاك الشيء المُشتهى . هكذا لا تشير الوصية العاشرة إلى الرغبة الباطنية في المقتنيات الخاصة بالقريب فحسب ، إنما إلى مكائد فعالة للاستيلاء عليها : ” لا تشته زوجة صاحبك ، ولا تشته بيته ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لصاحبك ” (تث 5/21)
اللغة الكتابية هي أيضاً لغة الواقع : فالكلمة العاشرة في الوصايا لا تشير إلى الأفكار الشريرة ، إلى مشاعر الغيرة ، إلى الرغبات غير الفعّالة ، إلى تراخ في الإرادة دون قرار . إنها تدين أعمالاً ، وتدين رغبات قيد التنفيذ ، وتدين مكائد للاستيلاء عل ما نشتهي . لنكرّر بصدد هذه الوصية الأخيرة : بين أشخاص ، الوجود هو أساساً في العلاقة بالآخرين ، وليس في حالات النفس . فالكلمات العشر لا تكترث قط بما نفكر ، أو نتخيّل ، أو نحسّ ، إنما على الأخصّ ، بسلوكنا تجاه الله وتجاه أخوتنا . في هذا يتجلى قلبنا .
وهكذا تجمع الوصايا العشر كل خُلُقية العهد في خط متعرج ضخم ينطلق من الله المنقذ ، من اسمه وصورته ، وينتقل إلى الوالدين ” الخالقين ” معه ، فإلى البشر لأخوتنا ، لينتهي بقريبنا ، مشدداً على هذا ” القريب ” . ” ومن هو قريبي ؟ ” ( لو 10/29 ) ، “ وإذا نزل بكم غريب في أرضكم فلا تهضموه . وليكن عندكم الغريب الدخيل فيما بينكم كالصريح منكم وكنفسك تحبّه ، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر . أنا الرب إلهكم ” ( أح 19/33 – 34 ) .
من الوصايا إلى التطويبات
من موسى إلى يسوع
بعد أن نجا شعب الله من العبودية ، بلغ أخيراً أرض الميعاد ، بعد أربعين سنة في الصحراء . فذكّره موسى باحتفال ، وهو على فراش الموت ، بكلمات العهد العشر . ونقل موسى للمرة الأخيرة ، ما يريد أن يصنعه الرب لشعبه : ” يقيم لك الرب إلهك نبياً من بينكم من اخوتك مثلي له تسمعون ” ( تث 18/17 ? 18/15). توالت العصور ، وبقي الانتظار ولم يخدع . هوذا موسى الجديد على سيناء الجديدة :
يخبر الإنجيلي مرقس ( 9/2 – 7 ) ” بأن يسوع أخذ ، على حدة ، بطرس ويعقوب ويوحنا فأصعدهم جبلاً عالياً، وتجلى قدامهم وصارت ثيابه تلمع بيضاء جداً كالثلج حتى لا يستطيع قصّار على الأرض أن يبيّض مثلها . وتراءى لهم ( نبيّا سيناء ) موسى وايليا، وكانا يخاطبان يسوع ” كانا يتكلمان على خروجه الذي كان مزمعاً أن يتممه في أورشليم ” ( لو 9/31 ) . فظهر غمام ظلّلهم وانطلق صوت من الغمام يقول : هذا هو ابني الحبيب ، فله اسمعوا”. ومن بعد العنصرة ، تذكر بطرس ذلك وهو يخاطب اليهود عند ” رواق سليمان ” ، فقال كلاماً مقارباً : ” ألا توبوا ، وعودوا ، تمح خطاياكم ، فينعم الرب عليكم بأوقات فرج ، ويرسل من أعد لكم : المسيح يسوع فموسى قد قال : ” سيقيم لكم الرب إلهكم من بين اخوتكم نبياً مثلي فله اسمعوا في كل ما يقول لكم ” ( رسل 3/19 – 22 ).
ولكن بماذا يكلّمهم ؟ شريعة جديدة ؟ لا . وهل ثمة أوضح من جوابه للشاب الغني ؟ ” إذا أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا. و ما هي ؟ لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، أكرم أباك وأمك ، أخيراً ، أحبب قريبك كنفسك ” ( متى 19/17 – 19 ). إنه إذا يؤيد الوصايا العشر . ولكن وصايا الحب والتحرر هذه ، سوف يدفع بها إلى أقصى حدودها ، يحملها إلى كامل علوها ، ” يتممها ” ، يكملها بملئها . ” يتممها ” هو نفسه أولاً ، في حياته الخاصة ، وفي موته بالذات . على جبل التجلي ، وسيكون هذا الحب ” شريعة ” الجلجلة . علينا أن نتبعه ، حاملين كل يوم صليبنا . فثقله حبّ هو ، غير أن حمله يؤمن السعادة لأن ملكوت الله في يسوع المسيح القائم من الموت قريب جداً .
لنسمع الابن الحبيب ، موسى جديد ، أعظم من موسى الكليم ، مشترع قداسة أكمل ، ” صعد يسوع إلى الجبل ، جلس . فتح فاه ” ماذا قال ؟ بدأ يبشّر بالتطويبات .
ينادي مخلصنا بالطوبى ، ولكن ليست أية طوبى كانت . لا يجب أن تعرض المسيحية وكأنها تعزية مبتذلة ، ولكن كترقّ للإنسان. المسيحية هي دعوة للعيش كأبناء الله ، بقبول الحالة البشرية بملئها كما هي . ما الذي يخلق سعادة الله ؟ هل نحن ، نعم أم لا ، أبناء وبنات هذا الإله ؟
طوبى لكم ، أيها الفقراء
قال يسوع : ” طوبى للفقراء ” . فالفقراء هم ” الفقراء ” مهما يبدو ذلك مذهلاً . الفقراء الحقيقيون ، الضعفاء مادياً ، الناس الصغار الذين هم بحاجة أحياناً إلى الضروري . ليس لأنهم ، اضطراراً ، أفضل من الآخرين ، بل لأن الله، الذي هو حب ورحمة ، هو ” ببساطة ” حامي الذين يتألمون مما يجعل عدالته المختلفة كلياً عن عدالة البشر موضع شبهة . فالله ليس مديناً بشيء للفقراء . ولكن عليه أن يكون لذاته : ذاك الذي يقف إلى جانب الضعفاء والمتواضعين . ولكن ، ليس الإنجيل هو البشرى السعيدة التي يتحتم على الفقراء قبولها كالشمس أو كالمطر . الرب يدعوهم ليقبلوها في باطنهم : طوبى للفقراء بالروح ، طوبى للذين روحهم روح الفقير .
لأنه لا يكفي أن نملك جيوباً وخزانات فارغة لنكون كاملي السعادة بطوبى الإنجيل هذه : على الروح القدس أيضاً أن يلقي نوره على القيم الصحيحة والباطلة ، فيوقظ إذ ذاك التجرد الداخلي ، والفرح في العوز والتخلي الواثق قدام الله. طوبى إذن للذين ، بواسطة الروح القدس ، أرادوا الفقر ، مثل القديس بولس ” لأجل الملكوت ” : ما كان لي ربحاً عددته خسراناً من أجل المسيح ” ( فل 3/7 – 11 ) . الفقر بالروح يعني إذن السعي إلى ” الحاجة الفعلية ” ، أو على الأقل القبول الإرادي بها بفرح .
طوبى للودعاء
هذه الطوبى أخذت من المزمور 36/11 الذي هو أفضل تحليل لها . الوداعة ، كالفقر ، هي استعداد داخلي يبدل ، إذا كان حقيقياً ، السلوك الشخصي والوضع في المجتمع ، فهو أساساً التخلي عن كل حق خاص عندما نكون وحيدين في المعترك . ” سمعتم أنه قيل : عين بعين ، وسن بسن ، أما أنا فأقول لكم لا تقاموا الشرير . من لطم خدّك الأيمن فأدر له الآخر ( متى 5/38 – 41 ) . أهو موقف ضعف ؟ حاول فترى أنك بحاجة إلى قوة إلهية في موقف كهذا .
هكذا كان موقف يسوع ” العبد المتألم الوديع والمتواضع القلب وديع ، راكباً على جحش ” (متى 21/9) فوداعته لا تقف عند حدود الدماثة ، ونبذ العنف ، بل تكمن في عزمه على معاناة العنف إلى أقصى الحدود بدلاً من ممارسته . وهكذا انتصر عليه وتخطى التصعيد الأرعن الذي يدفع الناس إلى التقاتل . يسوع يحمل صليباً ساحقاً ، ولكنه يقدم نفسه أيضاً ليحمل أثقالنا ” تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وأنا أريحكم ” ( متى 11/28 – 30 ) .
الودعاء الذين يقتدون بيسوع يملكون الأرض ، يرثونها كأبناء مثل الابن . فالأرض هي أرض الميعاد . ولكن الآباء الأولين فهموا أن أرض الميعاد الحقيقية لم ترسم في جغرافيا معينة ، بل هي ” أحد ما “ ( عب 11/8 – 6 ) . وهكذا نلتقي ملكوت الطوبى الأولى: ” الميراث ” وموضوعه الملكوت ، الحياة الأبدية ، أي الله بشخصه . ” أما أختار الله مساكين هذا العالم ، وهم أغنياء في الإيمان وورثة للملكوت الذي وعد به الذين يحبونه ؟” ( يع 2/5 ).
طوبى للحزانى
لنعتد قراءة الكلمات على حقيقتها . وإلا ، فإن كل نصّ يعني قول كل شيء ، أو بالأحرى لا يعني شيئاً . الطوبى الثالثة ليست للمكروبين بوجه العموم ، بل للذين يبكون ميتاً ، ” للحزانى ” . لا نقصد إذن حالة نعتنقها، كالفقر الباطني أو وداعة القلب ، بل المقصود هو هذه التجربة بالذات التي يغرق فيها كل منّا عاجلاً أم آجلاً : الحزن . فالغني والفقير كلاهما ليسا بمأمن من الحزن . والحال ، أن الحزن بالنسبة إلى الجميع ، هو خلاص جذري فيه يجدون نور الحقيقة ، وبالتالي سعادتها .
حقيقة الموت هي بطلان هذه الحياة وخداع السرابات الأرضية. هذا لأن حقيقة الموت ، بيسوع المسيح ، لا تؤدي إلى العدم ، ولكن إلى الملكوت . تؤدي إلى تعزية يسوع المخلص بقوة قيامته . لاحظوا الأوقات الثلاثة المتسلسلة في الإنجيل : موت دموع، قيامة . في الحزن كل شيء ينهار ، ما عدا يسوع المسيح الذي يقول ” لا ” للنعوش وللمقابر، ” لا ” للحسرات التي لا نهاية لها. أن أرفض معرفة شيء عن سعادة موتاي ، أفلا أكون قابعاً بأنانيتي في التمرد أو في الحزن ؟ هل أبلغت تعزية الإنجيل إلى الذين كانوا يبكون من حولي ؟
طوبى للجياع
” طوبى لكم أيها الجياع الآن : فإنكم ستشبعون ” ( لو 6/ 21 ) . يعيد لوقا في لمحة أليمة مميزة ، طوبى الفقراء مادياً ، ليعلن أن الفراغ في معدتهم مرحلي ، وان مآسي هذا العالم مرحلية كذلك . لكن هذا الواقع يجب التوقف عنده بادئ بدء لا يجرد هذه الطوبى من مداها الرمزي : ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله ” ( تث 8/3 ) . كلمة من الرب ، وقد قالها الحبيب بصوته ، تعلن وتعد اللقاء : ” كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه ، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله ” ( مز 42/2 ) . كما في طوبى الفقراء ،
Discussion about this post