تقديس البيعة وتجديدها
إنجيل القدّيس متّى 16/13-20
ميزات كنيستنا حضارة حياتنا
نفتتح السنة الطقسيّة بالتأمّل في تقديس الكنيسة وتجديدها، لتكون المكان والأداة لنعيش حياتنا المسيحيّة في ضوء سرّ المسيح، الكلمة المتجسّد. إنّنا نحتفل اليوم بعيد تقديس الكنيسة، معلنين قداستها النابعة من الثالوث القدوس: من محبّة الآب ونعمة الإبن وحلول الروح القدس، وداعين المؤمنين ليتقدّسوا بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار وخدمة المحبّة. ونحتفل ايضًا بعيد تجديدها الذي هو عمل الروح القدس الذي يحييها، لكي نلتزم بالتجدّد الشخصيّ وبتجديد الهيكليّات والمؤسّسات.
أوّلاً ? معاني نصّ الإنجيل ( متّى 16/13-20)
لا بدّ من شرح معاني نصّ الانجيل للتمكّن من الولوج إلى مفهوم النصّ ببعديه اللاهوتيّ والكنسيّ.
«قيصريّة فيلبّس» هي المدينة التي بناها هيرودس فيلبّس على سفح جبل حرمون سنة 2 أو 3 قبل المسيح، اكرامًا للقيصر أغسطوس، الذي كان يلقب بالالهيّ. المنطقة كانت مكرّسة لاله الحقول بان (Pan) المكرّم في المغارة التي ينبع منها نهر الأردن الشماليّ، وكان اسمها بانياس، المعروف في يومنا. دُعيت قيصريّة فيلبّس لتمييزها من القيصريّة الساحليّة الواقعة على شاطىء البحر المتوسّط بين جبل الكرمل ويافا. فيها، حيث كان يُعبد الاله الوثني «بان»، أُعلنت ألوهية المسيح ابن الله الحيّ، الذي هو الاله وحده مع الآب والروح القدس.
«من يقول الناس إنّي أنا ابن الانسان؟» لقد أراد يسوع بطرح هذا السؤال البلوغَ إلى إعلان ألوهيّته في هذا المكان بالذات، باستدراج تلاميذه: «من يقول الناس؟» ثمّ «وأنتم من تقولون إنّي هو؟» للفظة ابن الانسان معنيان: الأوّل، اجتماعيّ بشريّ أي يسوع المعروف «بابن يوسف النجّار» (متّى 13/55) أو«بالنجّار ابن مريم» (مرقس6 /3)، الثاني، لاهوتيّ، وقد أطلق يسوع على نفسه هذا اللقب كلّ مرّة كشف فيها عن ألوهيّته: بشفاء المخلّع ومغفرة خطاياه (متّى 9/6)، بإعلان نفسه ربّ السبت وبافتتاح رسالته المسيحانيّة، رسالة الرحمة (متّى 12/8)، وبإعلان سرّ الفداء: «ابن الانسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم، ويبذل نفسه فدى عن الكثيرين» (متّى 20/28)، وفي مناسبات أخرى عديدة. وحده يسوع استعمل هذا اللقب في العهد الجديد، باستثناء اسطفانوس (أعمال 7/56)، ويوحنّا الرسول في الرؤيا (1/13؛14/14). أمّا في العهد القديم، فاستعمله كلّ من حزقيال بالمعنى الاجتماعيّ: « قال لي الربّ: يا ابن الانسان، قم على قدميك فأتكلّمَ معك» (حز 2/1-3)، ودانيال بالمعنى اللاهوتيّ: «وكنت أنظر في رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن الانسان آتٍ على غمام السماء ?واُوتي سلطانًا ومجدًا وملكًا..» (دا 7/13-14).
أنت المسيح ابن الله الحيّ «هذه التعابير موجودة في العهد القديم: لفظة «مسيح» بالعبريّة «ماشياح» «تعني الذي مُسح من الله واختير ليكون كاهنًاً أو ملكًا، وليقوم بمهمّة قيادة شعب الله إسرائيل: «تمسحهم وتكرّمهم وتقدّسهم ليكونوا لي كهنة» (خروج 28/41: كلام الله لموسى). «وأتى رجال يهوذا ومسحوا هناك داود ملكًا على بيت يهوذا (2 صموئيل 2/4). وأقبل جميع أسباط إسرائيل إلى داود في حبرون وقالوا: لقد قال لك الربّ أنت ترعى شعبي إسرائيل، وأنت تكون قائدًا له. وأقبل جميع الشيوخ إلى داود، فقطع الملك داود معهم عهدًا في حبرون أمام الربّ، ومسحوا داود ملكًا على إسرائيل» (2 صموئيل 5/1-3). ولفظة «ابن الله» قيلت بالنبوءة عن سليمان الملك على لسان ناتان لداود: «وإذا تمّت أيّامك ورقدت مع آبائك، أقيم من يخلفك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وأثبّت ملكه، فهو يبني بيتًا لاسمي، وأنا أثبّت عرش ملكه للأبد. أنا اكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا (2 صموئيل 7/12-14). وهكذا تنطوي لفظة «مسيح» و «ابن الله» في العهد القديم على اختيار ورسالة وتأييد من الله، من أجل خير الشعب وخلاصه.
رأى سمعان بطرس، بنور الايمان، أنّ يسوع هو بالامتياز المسيح ابن الله الحيّ. على هذا الايمان بُنيت الكنيسة وتَثبت الى الأبد. ولكن بالمقابل، هذه الحقيقة كانت سبب الحكم على يسوع بالموت: أمام المجلس سأل قيافا عظيم الكهنة يسوع: أستحلفك بالله الحيّ لتقول لنا، هل أنت المسيح ابن الله. فأجابه: «أنا ما تقول». فشقّ عظيم الكهنة ثيابه وقال: لقد جدّف. يستوجب الموت (متّى 26/63-68). يسوع هو «ابن الله»، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهو «المسيح» الذي اختاره الآب ومسحه بالروح القدس، وأرسله لخلاص العالم (أنظر البيان ليوسف متّى 1/20-23). إنّه بامتياز النبيّ والكاهن والملك: هو المعلم والكلمة (النبيّ)، وهو الكاهن والقربان، المخلّص والخلاص (الكاهن)، وهو الملك والملكوت الذي لا انقضاء لملوكيّته ولا لملكه (الملك).
«أنت هو الصخرة»
بالآراميّة، لغة السيّد المسيح، الصخرة تعني «كيفا»، وباليونانيّة Petros ، التي منها بطرس. هي الاسم الجديد لسمعان بن يونا الذي أصبح بطرس (يو 1/42)، وهي رمز للرسالة الموكولة إليه أي أن يكون مبدأ وحدة الكنيسة: «على هذه الصخرة أبني كنيستي». إنّها صخرة الايمان «بالمسيح ابن الله الحيّ» التي لا تتزعزع مهما عصفت بها رياح الشرّ (أبواب الجحيم)، كالبيت المبنيّ على الصخر (متّى 7/25) ولا تسقط بين أيدي الأشرار ولا تموت: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» أي لن تنغلق عليها أبواب مثوى الأموات (سفرالعدد 16/31-33). استعمل يسوع صورة الصخرة بسبب الصخور الشاهقة التي تعلو مكان عبادة الاله «بان». واستعمل صورة أبواب الجحيم بالنسبة إلى فوهة المغارة حيث كانت تمارس خطايا الجنس في أفعال عبادة «بان»، هذه الفوهة كانت تلتهم كلّ المشاركين.
«أبني كنيستي»
للكنيسة في الآراميّة والعبريّة لفظتان: «عيدتاه» – بيعتي و«كنوشتاه» كنيستي، بالسريانيّة «عيدتو» و«كنوشتو». أمّا المعنى فواحد: «جماعة الربّ» التي يدعوها ويجمعها. اللفظة موجودة في العهد القديم بالعبريّة، وهي «قاهال» (عدد 16/3؛20/4). وعندما تجتمع الجماعة تسمى «المحفل المقدّس» (خروج 12/16). جماعة الربّ هذه، قاهال، هي إسرائيل أي شعب الله. أمّا الترجمة اليونانيّة فهي ekklésia المتجانسة لفظيًّا مع «قاهال» والمشتقة لغويًّا من فعل ekkaléo ومعناه «أدعو». استعمل السيّد المسيح لفظة العهد القديم وسمّاها «كنيستي» أي جماعة الذين دعاهم، التي عرفت مع الجماعة المسيحيّة الأولى بإنّها شعب الله الجديد: «أمّا أنتم فإنّكم ذرّية مختارة وجماعة كهنوتيّة وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه الله للاشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب. لم تكونوا بالأمس شعب الله، وأمّا الآن فإنّكم شعبه»(1 بطرس 2/9-10).
هذه هي الكنيسة- السرّ والشركة والرسالة التي يكشف عن وجهها، بعنصريه الالهيّ والبشريّ، الارشاد الرسوليّ «رجاء جديد للبنان» (فقرة 19و20). يدعونا مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالتهم «سرّ الكنيسة»، للتمييز بين الكنيسة والطائفة ولعدم الخلط بينهما. فالطائفة هي الاطار التاريخيّ والتنظيميّ والاجتماعيّ والسياسيّ الذي تعيش فيه الكنيسة (عدد4). فكانت الطوائف وكانت الروح الطائفيّة التي تحرّف مفهوم الدين وتناقض مفهوم الكنيسة، إذ لا ترى فيها سوى جماعة بشريّة مثل غيرها من الجماعات، تحصر معظم همّها في ذاتها وبقائها وامتيازاتها وسائر أبعادها البشريّة (عدد 11).
«لك أعطي مفاتيح ملكوت السماء»
«مفاتيح الحلَ والربط»، أي التحليل والتحريم، رمز تعبيريّ عن السلطة التي سلّمها السيّد المسيح لبطرس رئيس الكنيسة، وللرسل اعمدتها، ولخلفائهم الأساقفة رعاة الكنائس المحليّة، وللكهنة معاونيهم. إنّها سلطة مثلّثة: التعليم والتقديس والولاية، وما يتّصل بهذه الأخيرة من سلطة تشريعيّة وإداريّة وقضائيّة. إنّ السلطة الالهيّة المعطاة للبشر ليمارسوها بالطاعة للشريعة الالهيّة الموحاة في الكتب المقدّسة، وللشريعة الطبيعيّة المكتوبة في الطبيعة البشريّة، هي غير سلطة القيصر والملك البائدة التي تحلّل الحرام.
بالرسامة المقدّسة يصبح الأساقفة ومعاونوهم الكهنة مطبوعين في كيانهم الداخليّ على صورة السيّد المسيح النبيّ والكاهن والملك، وينالون مهمّة التعليم والتقديس والولاية، يمارسونها بسلطان مقدّس (كهنوت الخدمة) بالشركة في الرئاسة التي تعني شركة الأساقفة مع رأس الكنيسة الجامعة الذي هو الحبر الرومانيّ، وبشركة الكهنة مع رأس الكنيسة المحليّة الذي هو الأسقف.
وبالمعموديّة يصبح المؤمنون شركاء في كهنوت المسيح المثلّث، مؤتمنين على رسالته الخلاصيّة التي هي رسالة الكنيسة. إنّه الكهنوت العامّ، كهنوت شعب الله الجديد، يقوده ويوجّهه كهنوت الخدمة. لا كنيسة من دون معموديّة وكهنوت. ولا كنيسة من دون قانون الايمان والأسرار السبعة والسلطة التراتبيّة.
***
ثانيًا: الخطّة الراعويّة
أ- الانتماء الى الكنيسة يقتضي إعلان الايمان بالمسيح ابن الله الحيّ، وتجديد حياتنا، فكرًا ومسلكًا وموقفًا، وفقًا لمقتضيّات الايمان بالمسيح. الكنيسة عروس المسيح تعلّمنا الايمان وتقود التجديد. وقفة شخصيّة وجماعيّة: في العائلة، وفي الرعيّة، وفي المؤسّسة، وفي الجماعة الرهبانيّة، وفي المنظّمة الرسوليّة، للتساؤل والمساءلة حول واقع الايمان عندنا، وحول حركة التجدّد فينا.
ب- الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة المتنوّعة بطقوسها: الأنطاكيّ والرومانيّ والأورشليميّ والاسكندريّ والبيزنطيّ وغيرها، والغنيّة بتراثاتها الروحيّة والليتورجيّة والتهذيبيّة والتاريخيّة، هي كالعروس المزيّنة للمسيح عريسها. الكنيسة المارونيّة تحقيق لها، وتزينها بطقسها وتراثها اللذين يشكّلان هويّتها ورسالتها، كما كشفها باسهاب المجمع البطريركيّ المارونيّ، في نصّه الثاني وعنوانه: «هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها»، والتوصيات. إنّها تشكّل موضوع تعمّق والتزام شخصيّ وجَماعيّ في ميزاتها الروحيّة واللاهوتيّة والليتورجيّة، نذكر ثلاثًا منها: خلال هذا الاسبوع.
1) مارونيّة: تتصف بروحانيّة مار مارون (+410) وتلاميذه وطريقة عيشهم للانجيل: معرفة الانجيل وقراءته والتأمّل فيه؛ حفظ وديعة الايمان والحقائق التي تعلّمها الكنيسة؛ الصلاة الفرديّة والجماعيّة والعائليّة؛ التقشّف والزّهد والنسك والروحانيّة الرهبانيّة؛ البساطة في المسلك وطريقة العيش.
2) أنطاكيّة: نشأت من تبشير الرسل في أنطاكية حيث أسّس بطرس الرسول كرسيّه قبل الاستقرار في روما، وحيث دعي التلاميذ لأوّل مرّة مسيحيين (أعمال 11/26)، وحيث أطلق القدّيس اغناطيوس الأنطاكيّ لاهوت الكنيسة المحليّة القائمة على الوَحدة والشركة، عاموديًّا مع الله، وأفقيًا مع جميع الناس. تتحقّق هذه الوَحدة والشركة في الاحتفال بالافخارستيا، ويشكّل ضمانتَها الأسقف، خليفة الرسل، فيسهر على إعلان الكلمة، وسلامة الايمان، وتعزيز الوحدة والشركة، وتبيان مواهب الروح القدس في المؤمنين وتوظيفها في سبيل بنيان جسد المسيح السريّ، الذي هو الكنيسة.
3) سريانيّة: تنتمي إلى التراث السريانيّ الذي تكوّن في نواحي أنطاكيّة، متفاعلاً مع التراث اليونانيّ. هذا التراث هو تعبير عن الايمان المسيحيّ؛ وقد تجلّى على الصعيد الليتورجيّ في الصلوات الشعريّة التي نظمها لاهوتيّون شعراء أمثال افرام (+ 373) ويعقوب السروجيّ (+ 521) وغيرهما. ويتميّز بالروحانيّة المشبعة بمراجع كتابيّة، والطابع المريميّ والدعوة المتكرّرة إلى التوبة، ورجاء ملاقاة العروس السماويّ في نهاية الأزمنة.
تقتضي الخطّة الراعويّة أن تتشاور الجماعة، في العائلة والرعيّة والدير والمؤسّسة والمنظّة الرسوليّة، ويتساءل كلّ شخص، حول تجسيد هذه الميزات الثلاث في الحياة، في المسلك والموقف والأسلوب. ونسعى معًا لجعلها حضارة نطبع بها بيئتنا، فيما نستعدّ للاحتفال بتجسّد الكلمة الالهيّ، ابن الله الذي حمل إلى أرضنا قيم السماء.
صلاة
قومي استنيري أيّتها البيعة المقدّسة (أشعيا 60/1)، لأن البنّاء الحكيم قد أرسى أساساتك على صخرته، وحصّن أبوابك بيمينه. قومي استنيري، لأنّ مخلّص العالم قد جمع بنيك بين جدرانك، وجبّار العالمين قد اختارك مسكنًا. قومي استنيري، لأنّ الربّ القدّوس قد أفاض عليك من قداسته، وأخرج من بنيك القدّيسين. قومي استنيري لأنّ الربّ القويّ قد رفع شأنك وأنالك الغلبة على أعدائك. «مجد لبنان يأتي إليك» (أشعيا 60/13).
Discussion about this post