احد تقديس البيعة
عبرانيين 9/1-12
متى 16/13-20
الكنيسة مسكن الله واداة الخلاص
مع احد تقديس البيعة تبدأ السنة الطقسية الشبيهة بالسنة الشمسية. كما في الثانية تدور الارض حول الشمس لاتخاذ النور والحرارة والحياة على مدى 12 شهراً، تبدأ في كانون الثاني، واربعة فصول: الشتاء والربيع والصيف والخريف، كذلك في الاولى تدور الكنيسة، جماعة المؤمنين حول سرّ المسيح لتستنير بنوره وتحيا بحرارة حبّه وتنال الحياة الالهية، على مدى 12 شهراً، تبدأ في تشرين الثاني، واربعة فصول هي: مبلاد يسوع المسيح وحياته العامة (سرّ التجسّد)، آلامه وموته وقيامته (سرّ الفداء)، حلول الروح القدس ورسالة الكنيسة (سرّ التدبير والتقديس)، مجيء المسيح بالمجد ونهاية الازمنة (سرّ الحياة الابدية).
تتوزع هذه الفصول اللاهوتية الى سبعة ازمنة كما نرى في الرسم:
اولاً، سنة يوبيل القديس بولس وشرح نصيّ الرسالة والانجيل
- رسائل بولس وصفته كرسول
نحن في سنة يوبيل الالفي سنة على ولادة القديس بولس، التي اعلنها البابا بندكتوس السادس عشر، وقد بدأت في 29 حزيران 2008 وتنتهي في 29 حزيران 2009. نخصص هذا القسم من التنشئة المسيحية لتعليم القديس بولس في رسائله الاربع عشر. وهو اللاهوتي الاول وبامتياز الذي شرح سرّ المسيح والكنيسة. نشرح في كل احد نص الرسالة ونربطه بنص الانجيل.
لا بدّ اولاً من مقدمة حول رسائل القديس بولس الرسول. لقد كتب بين سنة 50 و63 اربع عشر رسالة موجّهة تباعاً الى اهل تسالونيكي (رسالتان) وكورنتس (رسالتان) وغلاطية وروما وفيليبي وافسس وكولسي وفيليمون وتموتاوس (رسالتان) وطيطس فالى العبرانيين.
يسمّي بولس نفسه رسولاً، وهو لم يكن من الرسل الاثني عشر الذين اختارهم يسوع ودعاهم واقامهم معه وارسلهم ليعلنوا انجيله في العالم كله، وجعلهم اعمدة الكنيسة المبنية على صخرة الايمان به. والتقليد المسيحي اعتبره رسولاً.
ثلاث مزايا، في نظره، تميز صفته كرسول:
اولاً، لانه رأى الرب، وكان له معه لقاء حاسم يختص بحياته الشخصية(1كور9/1). فنعمة الرب دعته وأفرزته ليعلن الانجيل للوثنيين (غلا1/15-16). ويقول انه رسول بالدعوة ( روم1/1) اي مرسل لا من الناس، ولا بوسيط بشري، بل من يسوع المسيح والله الآب ( غلا1/1).
ثانياً، لانه مرسل كممثل للذي يرسله. فهو سفيره وحامل رسالة منه. عليه ان يعمل كمسؤول وممثل لمهمة. ولهذا يقول عن نفسه انه “رسول يسوع المسيح” (1كور1/1؛2كور1/1) اي مندوبه وخادمه ( روم1/1)، واضعاً نفسه كلياً في خدمته، لتحقيق الرسالة باسمه، من دون اي مصلحة شخصية.
ثالثاً، لانه مارس اعلان الانجيل وانشأ كنائس. ليست صفة الرسول عنده لقباً للافتخار، بل هي التزام واقعي وفعلي واحياناً مأساوي. فالافعال والمواقف تبيّن هويته كرسول. لقد عاش التماهي بينه وبين الانجيل، وادرك انه واحد مع النداء الذي يعلنه. ولذا تمم خدمته بامانة وفرح ( خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلة الاربعاء، 10 ايلول 2008: رسولية القديس بولس).
- شرح نص الرسالة الى العبرانيين: 9/1-12.
فَالعَهدُ الأَوَّل، كَانَتْ لَهُ أَيْضًا شعَائِرُ عِبَادَة، وبَيْتُ قُدْسٍ أَرْضِيّ. فَبُنِيَ الـمَسْكِنُ الأَوَّل، وهُوَ الَّذي يُدْعَى “القُدْس”، وكانَ فيهِ الْمَنَارَة، والْمَائِدَة، وخُبْزُ التَّقْدِمَة، ووَرَاءَ الـحِجَابِ الثَّانِي بُنِيَ الـمَسْكِنُ الَّذي يُدْعَى “قُدْسَ الأَقْدَاس”، ويَحْتَوِي مِجْمَرَةً ذَهَبِيَّةً لِلبَخُور، وتَابُوتَ العَهْد، مُغَشًّى كُلُّهُ بِالذَّهَب، وفيهِ جَرَّةٌ مِن ذَهَبٍ تَحْتَوِي الـمَنّ، وعَصَا هَارُونَ الَّتي أَفْرَخَتْ، ولَوحَا العَهْد، وفَوقَ التَّابُوتِ كَرُوبَا الـمَـجْدِ يُظَلِّلانِ الغِشَاء: أَشْيَاءُ لا مَجَالَ الآنَ لِلكَلامِ عَنْهَا بالتَّفْصِيل. وإِذْ بُنِيَتْ تِلْكَ الأَشْياءُ على هـذَا التَّرتِيب، كانَ الكَهَنَةُ يَدْخُلُونَ إِلى الْمَسْكِنِ الأَوَّلِ في كُلِّ وَقْت، لِيُتِمُّوا العِبَادَة، أَمَّا الْمَسْكِنُ الثَّانِي فكانَ عَظِيمُ الأَحْبَارِ يَدخُلُ إِلَيهِ وَحْدَهُ مَرَّةً واحِدَةً في السَّنَة، ولا يَدْخُلُ إِلَيهِ إِلاَّ ومَعَهُ دَمٌ يُقَرِّبُهُ عَنْ نَفْسِهِ وعَنْ جَهَالاتِ الشَّعْب. وبِهـذَا يُوضِحُ الرُّوحُ القُدُسُ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلى قُدْسِ الأَقْدَاسِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ كُشِف، مَا دَامَ الْمَسْكِنُ الأَوَّلُ قَائِمًا. وهـذَا رَمزٌ إِلى الوَقتِ الـحَاضِر، وفيهِ تُقَرَّبُ تَقَادِمُ وذَبائِح، لا يُمْكِنُهَا أَنْ تَجْعَلَ مَنْ يُقَرِّبُهَا كامِلاً مِن جِهَةِ الضَّمِير. إِنَّهَا شَعَائِرُ جَسَدِيَّةٌ تَقْتَصِرُ على أَطْعِمَةٍ وأَشْرِبَة، وأَنْواعٍ شَتَّى مِنَ الاغْتِسَال، مَفْرُوضَةٍ إِلى أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ الإِصْلاح. أَمَّا الـمَسِيحُ فَقَدْ ظَهَرَ عَظِيمَ أَحْبَارِ الـخَيْرَاتِ الآتِيَة، واجْتَازَ الـمَسْكِنَ الأَعْظَمَ والأَكْمَل، غَيرَ الـمَصْنُوعِ بِالأَيْدِي، أَيْ لَيْسَ مِن هـذِهِ الـخَليقَة، فَدَخَلَ إِلى قُدْسِ الأَقْدَاسِ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ الـتُّيُوسِ والعُجُول، بَلْ بِدَمِهِ هُوَ، فَحَقَّقَ لنَا فِدَاءً أَبَدِيًّا.
يندرج هذا المقطع من رسالة القديس بولس الى العبرانيين في اطار الحديث عن كهنوت المسيح الذي حقق فداء الجنس البشري وخلاص الانسان واشراكه في الحياة الالهية. فالرسالة بفصولها الثلاثة عشر تتناول سرّ كهنوت المسيح في خمس نقاط:
1) التعريف باسم المسيح وتحديد مكانه من الله والناس (الفصلان 1 و2).
2) اظهار ميزتي الكهنوت الجوهريتين في كهنوت المسيح وهما: مكانته عند الله، وتضامنه مع الناس (الفصول من 3 الى 5).
3) الاعراب عن العقيدة الكاملة والتامة، وهي ان المسيح عظيم كهنة من نوع جديد، وان ذبيحته الشخصية تختلف كلياً عن الشعائر القديمة. لقد فتحت باب القدس الحقيقي اي السماء التي ترمز الى حالة المشاركة في الحياة الالهية، ونالت لجميع البشر غفران الخطايا الحقيقي (الفصول من 5 الى 10).
4) دعوة المسيحيين الى سلوك الطريق الذي شقّته ذبيحة المسيح بالايمان والصبر (الفصلان 11 و12).
5) التزام المسيحيين السير في طريق القداسة والسلام (12/14 الى 13).
اما نص رسالة اليوم فيتحدث عن مكان العبادة القديمة الذي هو “مسكن الله الاول” (9/1-5)، وخدمة الكهنوت القديم وشعائره وذبائحه (9/6-9). ويقول ان هذه كلها ذات شأن ارضي (9/1)، وانها شعائر جسدية مقتصرة على أطعمة واشربة، مفروضة الى ان يأتي وقت الاصلاح (9/10). ثم ينتقل بولس الى الكلام عن كهنوت المسيح وذبيحة جسده ودمه الفعاّلة والنهائية (9/11-12). انه عظيم الاحبار، ذبيحته واحدة ومستمرة، تمثل الخيرات الابدية وتحقق لنا جميعاً فداءً ابدياً.
- الكنيسة مسكن الله الثاني والنهائي (متى16/13-20).
في قيصرية فيليبس اعلن يسوع سرّ الكنيسة التي اصبحت مسكن الله بامتياز، المبني على ” الايمان بالمسيح ابن الله الوحيد”، كما اعلنه سمعان بطرس. في جواب سمعان وفي ما قاله يسوع نجد العناصر المكوّنة للكنيسة المقدسة، وهي ثلاثة:
أ- الايمان بسرّ المسيح ابن الله، وبالتالي الايمان بالثالوث الاقدس الحاضر في الكنيسة، جماعة المؤمنين، والفاعل فيها وفي التاريخ البشري. على صخرة هذا الايمان تُبنى الكنيسة، فلا تتزعزع.
ب- نعمة الاسرار التي تشفي من الخطيئة والضعف، وتقدس المؤمن باشراكه في الحياة الالهية، ما يجعله منيعاً بوجه قوى الشر: ” ابواب الجحيم لن تقوى عليها”.
ج- سلطة الحل والربط المعروفة بسلطان رعاية المؤمنين الذي يأمر وينهي، تعزيزاً للايمان بالمسيح لدى المؤمنين وتثبيته فيهم وحمايته من كل انحراف، بفضل ما تعلن من حقائق ايمان وتعليم، وما تسنّ من شرائع وقوانين ( مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق8).
هذه الثلاثة مترابطة ومتكاملة، فاي اجتزاء منها يوقع خللاً في الشركة الكنسية ببعديها العمودي لناحية الاتحاد بالله؛ والافقي لناحية الوحدة بين الجماعة.
احد تقديس البيعة اعلان بان الكنيسة مقدسة بفضل اتحادها بالمسيح الذي يقدّسها؛ ودعوة موجّهة الى جميع اعضائها للسعي الى اكتساب القداسة الكاملة. القديسون الذين تعلنهم الكنيسة، انما تقدمهم لجميع الناس نموذجاً لامكانية ممارسة الفضائل بوجه بطولي، والسير في الامانة لنعمة الله. وبذلك تعترف بقدرة روح القداسة الذي فيها، وتعضد رجاء المؤمنين بالتشفع لهم. ولان الكنيسة تضم خطأة بين ابنائها وبناتها، وقد شملهم خلاص المسيح، فهي تعكف بشكل دائم على التوبة والتجدد، وتعرض دائماً لهؤلاء طريق القداسة ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،824، 827، 828).
***
ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان
نواصل هذه السلسلة التاريخية من حياة الكنيسة المارونية ولبنان، اذ نعود الى الدور الذي لعبه البطاركة الموارنة الستة والسبعون في حفظ وحدة الايمان والكنيسة وفي تطور نشأة الكيان اللبناني.
لقد وصلنا الى حقبة الامارة الشهابية (1697-1742)، من عهد العثمانيين الاتراك (1516-1918). في هذه الحقبة ظلّ لبنان والبطريركية المارونية ضمن دائرة الحكم الذاتي المحلي، تجنباً للخضوع المباشر لحكم السلطة العثمانية. ما قضى بتوحيد جميع الاراضي اللبنانية في شخص الامير اللبناني الذي له ان يحكم البلاد ويجبي الضرائب، ويقضي بين الناس، ويقف عند مشورة الاعيان في الامور التي تعود للخير العام. اما سلطة البطريرك الماروني فكانت تمتد احياناً الى الامور الزمنية. وكان بين الموارنة من يتمتع بلقب ” امير”. هؤلاء يتحدرون من عائلات معروفة، ويديرون شؤون الامّة المارونية من خلال “مجلس امراء الامّة”، ولكن بالخضوع للحكم العام في المنطقة، اي حكم الشهابيين[1].
وكان البطاركة يدعون الى مجامع تنظم شؤون الموارنة الروحية والاجتماعية وعلاقتهم بالحكم السياسي، وتدافع عن حريتهم العقائدية واستقلالية كينونتهم.
البطريرك يعقوب عواد (1705-1733)
هو ابن الخوري يوحنا عواد الحصروني، تلميذ المدرسة المارونية في روميه، وامين سرّ البطريرك اسطفان الدويهي، مشهور بفصاحته ومهارته في تعاطي الاعمال البطريركية، ونباهته في الامور السياسية. انتخب في دير سيدة قنوبين في 5 تشرين الثاني 1705، خلفاً للبطريرك جبرايل البلوزاني، وكان عمره 40 سنة. فدامت رئاسته 28 سنة.
صبر على الذل والظلم عندما حطّه مجمع المطارنة المنعقد في دير ريفون بكسروان سنة 1710، وانتخب مكانه المطران يوسف مبارك الريفوني. لكن البابا اكليمنضوس الحادي عشر ارجع البطريرك يعقوب منصوراً الى كرسيه في قنوبين سنة 1714. فاطاع الموارنة امر البابا في الحال وبكل احترام[2].
في عهد بطريركيته وتحديداً في خلال سنة 1715 بدأت المطالبة بعقد مجمع لبناني من اجل الاصلاح الشامل مع الاب العام عبدالله قراعلي، الذي تابع المسعى بعد ترقيه الى الدرجة الاسقفية، بالتعاون مع العلامة المونسنيور يوسف سمعان السمعاني، حافظ المكتبة الفاتيكانية.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تبدأ مع هذه السنة الطقسية السنة الثالثة من الخطة التطبيقية للمجمع البطريركي الماروني. فتتناول النص 12: الليتورجيا المارونية، ونستهله بالمقدمة وفيها تحديد الليتورجيا بطبيعتها ومضمونها وغايتها (الفقرات 1-3).
- الليتورجيا هي الكنز الحي للكنيسة المارونية في مسيرتها نحو ملكوت الآب. من هذا الكنز تغرف الكنيسة روحانيتها كمن ينبوع، لان في الليتورجيا يتجلّى اللاهوت والكتاب المقدس وتعابير الايمان وعناصر الصلاة.
- الليتورجيا هي عمل الثالوث الاقدس الذي منه تنبع واليه تعود. فهي تمجد وتشكر الآب الخالق على محبته وعنايته، والابن على تحقيق الخلاص واعطاء الحياة للعالم، والروح القدس على حلوله وتحقيق ثمار الفداء والخلاص في العالم.
- الليتورجيا هي عيش فصح المسيح بموته وقيامته، والاعلان المتواصل بالتأوين لذبيحة الفداء ووليمة جسد الرب ودمه، فينال المؤمن غفران الخطايا، ويغتذي من الحياة الالهية، ويصبح شريكاً في السرّ الفصحي.
- الليتورجيا تكوّن هويّة الكنيسة وثوابتها وخلاصة الحياة المسيحية، ما يجعلها المربّية الاولى لهذه الحياة. ولهذا السبب، هي ذروة حياة الكنيسة وينبوعها.
- الليتورجيا هي الغاية التي اليها تصبو كل الاعمال الكنسية واسرار الخلاص والجهود الرسولية. ذلك ان فيها يتجلّى الايمان في الصلاة وفقاً للقاعدة: ” شريعة الصلاة هي شريعة الايمان”. فانت تصلي كما تؤمن. ولهذا، الليتورجيا هي مدرسة ايمان، الى جانب كونها مدرسة صلاة.
***
صلاة
ايها الرب يسوع، في احد تقديس البيعة نعلن ايماننا بك مع بطرس الرسول وبالكنيسة التي بنيتها على صخرة الايمان، لتصمد بوجه كل قوى الشر. نحن نؤمن ان الكنيسة مقدسة بذبيحة جسدك ودمك، وانها مسكن الله الثالوث القدوس. ساعد ابناءها وبناتها لسلوك طريق القداسة على خطى الابرار والقديسين. جدّد ايمانها بحضورك في الليتورجيا المقدسة مخلصاً وفادياً، وهادياً لهم في دروب الحق والخير. لك ولابيك المبارك وروحك الحي القدوس كل مجد واكرام الآن والى الابد، آمين.
- الاب فرنسوا عقل، اضواء على العلاقات السياسية والقانونية بين البطريركية المارونية والدولة اللبنانية،صفحة 51.
[2] . انظر التفاصيل والمرسلات في ” بطاركة الموارنة واساقفتهم القرن 18 للاباتي بطرس فهد،صفحة 47-100؛ ثم رجوعه الى البطريركية، ص
101-127.
Discussion about this post