المصباح الرهباني
نبذة وجيزة في سيرة المؤلف المطران عبدالله قراعلي – مقدمة الكتاب
المصبـاح الرهبـاني في شرح القانون اللبنـاني
تأليـف المطران عبدالله قراعلي – مؤسّس الرهبانية البنانيّة المارونيّة وأسقف بيروت – ١٦٧۲- ١٧٤٢
قدم له ونشره الأب جرجس موراني الحلبي اللبنـاني بمناسبة الذكرى المئويّة السادسة عشرة
للقدّيس أنطونيوس الكبير أب الرهبان ٣٥٦ – ١٩٥٦
لا مانع من طبعه – ٢٠ كانون الأول ١٩٥٧
الحقير
الأباتي لويس البستاني أب عام حلبي لبناني
+ مكان الختم
فليطبع الحقير
أغناطيوس زياده – مطران بيروت – ۲٥كانون الأول ١٩٥٧
+ مكان الختم
المطران عبدالله قراعلي ١٦٧۲- ١٧٤٢
نقلاً عن الرسم الزيتي الخاص بالخوري بولس قرألي
لماذا ننشر هذا الكتاب؟
وَكَلَ إلينا قدس الأباتي المفضال، لويس البستاني، رئيس الرهبانية الحلبية اللبنانية العام، نشر هذا الكتاب، للمطران عبدالله قراعلي مؤسس الرهبانية، لأسباب عديدة كان من أهمها: إحياء الذكرى المائوية السادسة عشرة لوفاة القديس أنطونيوس الكبير أب الرهبان (٣٥٦-١٩٥٦)، ومساعدة التجدّد الروحي الذي يُلمَس في مختلف الرهبانيات ولا سيما الشرقية منها، والمحافظة على روحانية المؤسس وإذكاؤها بإستمرار في جسم الرهبانية.
أما إحياء الذكرى فقد تنازل قداسة البابا بيوس الثاني عشر، المالك سعيداً، وأكّد وجوبها مشتركاً بإتمامها، في الرسالة السامية التي أنفذها، في هذه المناسبة، إلى رؤساء الرهبانيات الأنطونية المارونية العامين، يمجّد فيها فضائل قديسنا العظيم، ويحضهم مع أبنائهم، على إقتفاء أثره.
فبدا لنا، على الأثر، أنّ نشر هذا الكتاب يكون من أصفى الأصداء لصوت أب المؤمنين وأجدى المساهمات في إحياء الذكرى، لأنه من روح رجل أحبّ القديس أنطونيوس الحب العظيم، فاعتنق حياته الرهبانية وجدّد تنظيمها في لبنان والشرق، بتأسيس الرهبانية اللبنانية.
وأما مساعدة التجدّد الروحي، فقد إعتقدنا حصولها من وضع الكتاب بين أيدي أكبر عدد ممكن من طلاب الكمال، معتبرين أنّ كل تجدّد يرافقه رجوع إلى الأصول- وأصول الفضائل الرهبانية أو المسيحية الكاملة، تطلب، دون ريب، في حياة الرهبان الأولين العظام وتعاليمهم، كأنطونيوس، وباسيليوس وإفرام السرياني- إذا ما حصرنا النظر بالشرقيين منهم- غير أنه لا ضير إذا طلبت أنّى وجدت. وإنها لموجودة في كتابنا هذا، بشكل جامع، طلي، مسبوكة بقالب عبدالله ومحلاّة بروحه العذبة؛ تلك الروح التي ظهرت في مطلع القرن الثامن عشر، كالخميرة القوية، عصرت في ذاتها كل روحانية الرهبان الأقدمين، لتبعثها، من جديد، حيّة يانعة، في جسم الرهبانيات المارونية وسائر الرهبانيات الشرقية التي إقتدَت بها.
وأما المحافظة على روحانية المؤسس وإذكاؤها بإستمرار في جسم الرهبانية، فهو واجب بنوي على كل راهب ولا سيما الرؤساء. ويؤدى ذلك الواجب بطرق متعدّدة منها هذه، أي نشر تعاليمه بالشكل الواسع الجذاب، ليتسنى درسها وتمثلها، لأبناء الرهبانية كافة، في الحاضر والمستقبل. فيقبلون على تطبيقها في حياتهم العملية، ويكون من ذلك للرهبانية ما يجوز تسميته بروحانيتها الخاصة. ويتحقّق ذلك على وجه أكمل- بل لا يتحقّق على الإطلاق، إلا إذا إقتنع القائمون على توجيه النشء الرهباني، بفائدة التعرف إلى تلك الروحانية وتقديمها إلى طلابهم.
لكن هذا لا يعني إدعاءنا أنّ كل ما ورد في الكتاب لا يزال يناسب أحوال الرهبان في عصرنا الحاضر. فهناك شروح كثيرة لم يبقَ لها سوى قيمتها التاريخية الأثرية، تبعاً للفرائض القانونية التي تدور حولها. إذ أنّ القانون اللبناني القديم، أبدل، منذ إبتداء هذا القرن، برسوم جديدة، لا تزال هي أيضاً، حتى اليوم، قيد الدرس والإختبار، لإبدالها عند اللزوم. غير أنّ القسم الأكبر لا يزال مناسباً لأنه يدور على الفضائل الرهبانية الأساسية. وهذه لم تتبدّل والتمييز هو في غاية السهولة بين ما لم يبقَ له سوى القيمة الأثرية وبين ما لا يزال يفيد روحياً ورهبانياً.
هذه هي آمالنا، فعسى ألاّ تخيب ويقبل الكثيرون على مطالعة الكتاب والتعرّف إلى روحانية المؤلف وإستقصاء البحث عنها في ما بقي له من آثار!
نبذة وجيزة في سيرة المؤلف المطران عبدالله قراعلي
مصادر النبذة
– مذكرات المطران عبدالله قراعلي- نشرت بفقرات منفردة عن الأصل المحفوظ في دير مار أنطونيوس، روميه، للرهبان الحلبيين اللبنانيين، في:
– تاريخ الرهبانية اللبنانية المارونية، الجزء الأول- للأب لويس بليبل، البلدي اللبناني، سنة ١٩٢٤ مطبعة يوسف كوّى بمصر؛ وفي:
– اللآلئ في حياة المطران عبدالله قرألي- للخوري بولس قرألي- وهذا الكتاب يتضمن ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الراهب- ١٦٧٢- ١٧١٦؛ نشر تباعاً في المجلة السورية والبطريركية. مطبعة العلم، بيت شباب (لبنان) سنة ١٩٣۲؛
القسم الثاني: الأسقف- ١٧١٦- ١٧٣۲، المجلة البطريركية، السنة ١٢، الجزء الأول، المطبعة العصرية بمصر، سنة ١٩٤٦.
القسم الثالث: المصلح- ١٧٣۲- ١٧٤۲: المجلة البطريركية، السنة ١۲، الجزء الثالث؛ مطبعة لاباترى في القاهرة، سنة ١٩٥٠-
وسينشر هذه المذكرات بكاملها، نشراً علمياً، في:
– تاريخ الرهبانية اللبنانية بفرعيها الحلبي والبلدي، المعد للطبع، الأب بولس مسعد الحلبي اللبناني، مدير الأصول التاريخية.
– تاريخ الرهبانية- مخطوطة منسوبة إلى القس جبريل فرحات( المطران فرحات) الراهب اللبناني، فالمدبر في الرهبانية اللبنانية، فالرئيس العام خلفاً للقس عبدالله قراعلي، فمطران حلب بإسم جرمانوس- تتضمن هذه المخطوطة تاريخ السنوات الأولى للرهبانية المذكورة- لها نسخة في دير سيدة اللويزه، ذوق مصبح، لبنان، والنسخة الأصلية في دير روميه المذكور.
– سيرة المطران عبدالله قراعلي- للقس توما البودي أو اللبودي، الراهب اللبناني. هذا كان تلميذاً للقس عبدالله وأمين أسراره ووكيله العام طول رئاسته العامة. ثم صار مدبراً فرئيساً عاماً على الرهبانية المذكورة. وقد نشر القسم الأول من هذه السيرة الأب أنطون رباط اليسوعي في مجلة المشرق، المجلد العاشر، سنة ١٩٠٧. ولم يجد القسم الثاني الذي لا يزال مفقوداً،
– برنامج أخوية مار مارون، الجزء الثاني- ليوسف خطار غانم- بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ١٩٠٣.
– إسترجاع كنيسة الموارنة في دمشق ١٧١٨- بقلم المطران جرمانوس فرحات- نشرها الخوري بولس قرألي في المجلة السورية، في سنتيها الأولى والثانية ١٩۲٦- ١٩۲٧.
– تاريخ الطائفة المارونية- للبطريرك إسطفانوس الدويهي- ص: ٢٥٦ و٢٦٢- ۲٧٧.
– تاريخ قزحيا- للأب نعمة الله الكفري، البلدي اللبناني- نشر في المشرق، ٤، ص:٣٦١?
– سيرة المطران جرمانوس فرحات. للقس جرجس منش. المشرق، ٧، ص٤٩، ١٠٥ و ۲١٠.
– الذكرى في حياة المطران جرمانوس فرحات- للأب بولس مسعد الحلبي اللبناني، مدير الأصول التاريخية. مطبعة المرسلين اللبنانيين، جونيه (لبنان) سنة ١٩٣٤.
– الأصول التاريخية، المجلد الثاني، الجزءان الأول والثاني- مطبعة سميا، بيروت سنة ١٩٥٦.
نشأة المؤلف
ولد المطران عبدالله قراعلي، ودعي بإسم عبد الأحد، في حلب، سنة ١٦٧۲، من أسرة مارونية نازحة من شمال لبنان (اللآلى، ص: ٧٣٦) عريقة في القدم والتديّن، غنية بالمال والجاه. فتربى أحسن تربية، محصلاً من العلوم ما كان ممكناً، متضلّعاً من أصول دينه وجاهداً في تطبيقها عملياً على أكمل وجه.
فاقتبس مبادئ اللغتين السريانية والعربية من المدرسة المارونية، وﭐطلع على آداب اللغة العربية متقناً قواعدها، في مكتب الشيخ سليمان النحوي الشهير (المشرق ٦: ٩٩)؛ ثم أخذ بدرس اللغة الإيطالية إطاعة لوالده الذي أراد بذلك أن يدفعه في سلك التجارة.
وتعلّم أصول الدين في المدرستين الوالدية فالمارونية، وتعمّق فيها من تأمّله سيرة الآباء مثل أنطونيوس ومكاريوس وأرسانيوس ومن ماثلهم ومطالعته المفضلة لكتب سلم الفضائل للقديس يوحنا كليماكوس أو السلمي، وبستان الرهبان وأباطيل العالم وكان له من بعض الرفاق، الذين تعرّف إليهم في مكتب الشيخ سليمان المذكور، وعرفنا منهم جبريل حوا ويوسف البتن وجبريل فرحات، أكبر مشجع على الإقتداء بأولئك الآباء، بممارسة دينية عميقة. (عن البودي وعن مذكراته هو)-
الدعوة الرهبانية
فشعر يوماً أنّ الله يريده في سلك آخر غير الذي يريده والده أي سلك الإنفراد والعبادة أو التجارة الروحية. فما كان إلاّ مفضلاً طاعته تعالى على طاعة الناس، وراح يبحث عن الوسيلة العملية تضمن تنفيذ الرغبة الإلهيّة. فوجد أنّ لا بدّ من الذهاب إلى لبنان موطن العبّاد والمتوحدين، آنذاك، في بلدان الشرق الأوسط.
وإذ بدأ يتردّد أمام الصعوبات التي ظهرت جمة، سمح الله بوقوعه، وهو في الثامنة عشرة من عمره، في مرض شديد أوصله إلى أبواب الأبدية، وأراه بوضوح أنّ الرهبنة هي الطريق الآمن التي توصله إلى الحياة السعيدة. فصمّم عندئذ على هجر الأهل والوطن، والسفر إلى لبنان، لتحقيق دعوته.
لكنه تريّث أيضاً ثلاث سنوات إندفع في أثنائها، دون إنحياز عن الهدف، مع الرفاق الذين ذكرنا، وراء تحصيل الفلسفة واللاهوت والشرع وفروعها، على الخوري بطرس التولوي الشهير (المشرق ٦: ٧٦٩). وإذ لاحظ، يوماً، في رفيقه جبريل حوا، ميلاً كميله، أطلعه على طوية نفسه. فألفاه مثله، شغوفاً بحب الله، تواقاً إلى الإنفراد في أحد أديار لبنان. فقرر الإثنان المبادرة إلى إستئذان الأهل وتذليل ما تبقى من صعوبات.
إختبار الحياة الرهبانية في أديار لبنان القديمة
وكان جبريل حوا السبّاق في الحصول على سماح والده والسفر إلى لبنان، حيث وصل في تشرين الأول من سنة ١٦٩٣. ولحق به عبدالله، عن طريق القدس، في الربيع التالي من سنة ١٦٩٤، يرافقه يوسف البتن، الذي علم أخيراً بعزم رفيقيه وطلب الإنضمام إليهما. وشاءت العناية الإلهيّة أن يلتقي الثلاثة في زغرتا، لبنان، يوم عيد الجسد الإلهي، ويتمكّنوا من الصعود فوراً إلى الكرسي البطريركي في قنوبين، ويعرضوا على البطريرك إسطفانوس الدويهي رغبتهم في الترهّب، ملتمسين مشورته وبركته. فأجابهم أولاً هازئاً: أنتم أناس ذوو تنعم ومعاش الجبال قشب والحروب في البلاد، وسفك الدماء متصل. هل يمكنكم إحتمال هذا وإكمال مطلوبكم؟! والحال أنكم عاجزون عن شغل الفلاحة والزراعة وأنتم ناظرون معاش الرهبان وسيرتهم في هذه البلاد. فقالوا أننا نستطيع. وأضافوا إن مرادنا أن نجمع قانوناً من رسوم الآباء أنطونيوس وباسيليوس وغيرهم، وننشئ طريقة لنا ولغيرنا. فصفق البطريرك ضاحكاً لكنه عاد فانعطف إلى مطلوبهم بشرط أن يختبروا أولاً بأنفسهم طريقة رهبان البلاد ويختاروا الدير الذي يلائمهم (عن البودي).
فامتثلوا أمره. ولبّى عبدالله مع رفيقه يوسف، بعد موافقة أخيهما جبريل الذي فضّل البقاء في قنوبين، دعوة المطران جبرايل البلوزاوي أسقف حلب ومنشئ دير طاميش، وذهبا يختبران في ذلك الدير طريقة رهبانه. ومكثا هناك ما يقارب الثلاثة أشهر. فوجدا ترتيبهم كباقي رهبان البلاد، لا ينذرون النذر الرهباني، إنما يلبسون زي الرهبانية في أي يوم إتفق كنحو رأي المتقدّم في الدير وعلى الغالب كانت المطارين تُلبِس الإسكيم الرهباني لا رؤساء الرهبان. وكان إلتزامهم بنذورات الرهبنة شكل تسلّم ومفهوم العقل فقط من غير إقرار النية. والرئيس الذي يرأسهم في غياب المطران لم يكن إسمه عندهم رئيس بل يدعونه بإسمه.
وهكذا رؤساء كل الديارات لم يكونوا يدعونهم إلا بإسمهم قس فلان. وكلمة أبونا الريس لم يكن لها وجود في بني مارون أصلاً ولم يكن عندهم أيضاً حدود لتجربة المبتدئين ولا حركات سجدات الرهبان للرؤساء وقوانين التأديب الرهباني، بل كانوا سائرين بسذاجة صالحة للصالحين وخطرة لغير الصالحين وكان مطبخهم وكرارهم وغسل ثيابهم والخياطة بيد الراهبات الساكنات بحذائهم في مكان عزلة، كما هي عادة بلادهم. والكنيسة مشتركة بينهم. (مذكرات المطران عبدالله قراعلي في اللآلئ ص: ١٧).
إلاّ أن حياة أولئك الرهبان النسكية القشفة إستهوتهما، فمال خاطري، يتابع عبدالله في مذكراته، وخاطر أخي يوسف، للسكن عندهم بعد مشورة أخينا جبريل المقيم في دير قنوبين، بشرط أن يُخرج المطران الراهبات من الدير، لأننا رضينا بمعاشرة الرهبان دون مساكنة النساء ، (اللآلئ، ص: ۲٣) آملين التوصّل، عن طريق المثل الصالح، إلى إدخال الحياة النظامية إليهم.
تأسيس رهبانية جديدة ورئاسته العامة عليها
وإذ لم يقبل المطران بفصل الراهبات، فضلا، هما، الإنفصال للبحث عن مكان جديد وطريقة جديدة. وعندما تمّ لهما الإجتماع مجدداً برفيقهما جبريل، في دير مار سركيس، إهدن، صيف سنة ١٦٩٥، قرّر الثلاثة أن يقيموا معاً، في دير مرت مورا، نزولاً عند رغبة السيد البطريرك، ويجربوا الطريقة الرهبانية التي يصبون إليها ولم يجدوها في أديار لبنان القديمة. وإستمروا هكذا كل ذلك الصيف. فسام البطريرك الدويهي، في غضون ذلك، جبريل حوا، كاهناً؛ وعبدالله، شماساً إنجيلياً، ثم ألبسهما مع رفيقهما يوسف، الإسكيم الرهباني، على الطريقة القديمة، في العاشر من تشرين الثاني، سنة ١٦٩٥، بينما كانوا ملتجئين إلى دير قنوبين، خوفاً من الطائفة الحمادية، حاكمة البلاد. ففكروا على الأثر بإقامة رئيس عليهم، وإختاروا القس جبريل لأنه كان كاهناً، (بتصرف عن مذكرات المطران عبدالله). مؤلفين هكذا نواة رهبانية جديدة دُعيت حلبية نسبة إليهم.
ولما كان دير مرت مورا زائد البرد في الشتاء، رأت الرهبانية الحديثة أن تقبل من أهالي بشري دير مار أليشاع المنزوي على أقدام تلك البلدة في الوادي المقدّس. فنقل إليه الرئيس البعض من الرهبان الجدد مع الشماس يوسف البتن بمنزلة رئيس عليهم، في غيابه، لأنه إحتفظ لنفسه بإدارته، ووكّل دير مرت مورا إلى عبدالله الذي دعي، في عيد الصليب من السنة ذاتها، إلى قبول درجة الكهنوت المقدّس، من يد المطران جرجس يمين، مطران إهدن. فكان عبدالله، بالإضافة إلى أعمال الإدارة، يعلّم أحداث البلدة بنفسه، أصول القراءة والكتابة والديانة. (عن مذكرات المطران عبدالله).
وإستمر في هذا العمل إلى أن إستبدله الرئيس العام بغيره، مستدعياً إياه إلى دير مار أليشاع، لكي يهتموا معاً بجمع القانون وترتيبه. فأتمّوا ذلك سنة ١٦٩٧، جامعين كتاباً قسموه إلى إثنين وعشرين باباً، وحدّدوا فيه شكل إدارة الرهبانية ومفهوم النذور وكيفية سلوك الرهبان. فقرّروا إقامة أربعة مدبّرين تختارهم الرهبانية ليشتركوا مع الرئيس العام في تدبيرها وإختيار رؤساء الأديار. وحُدّدت مدة الرئاسات بثلاث سنوات ينعقد في نهايتها المجمع العام، في العاشر من تشرين الثاني، تذكار إنطلاقة الرهبنة.
وفي العاشر من تشرين الثاني من سنة ١٦٩٨، إنعقد المجمع العام. فأثبت القس جبريل حوا في الرئاسة العامة وأقام معه أربعة مدبرين كان عبدالله وجبريل فرحات (الذي لحق برفاقه سنة ١٦٩٦) ويوسف البتن، من جملتهم. ومجمع المدبرين عيّن عبدالله رئيساً على دير مار أليشاع. فظهر، حسب فرحات والبودي، رجلاً مفعماً من الله حكمة وإفرازاً ونسكاً؛ ذا عقل ثاقب وعلم راسخ، فصيح اللسان بليغ المعاني، محبوباً من كل من يراه.
فهذه الصفات أهّلت عبدالله لأن يتدارك الخلاف الذي نشب، تلك السنة، بينه، ومعه أكثر الرهبان، وبين جبريل حوا، الرئيس العام، على معنى سيرة الرهبنة و مفهوم وظيفة المدبرين، حسب تعبيره في مذكراته. فالرئيس العام صار يريد الرهبنة للوعظ والتبشير؛ ورئاستها مطلقة، مؤبدة، على مثال اليسوعيين؛ وعبدالله وأغلبية الرهبان، إستمروا يريدونها نسكية، تأملية، لا تتعاطى الرسالة إلاّ عند الحاجة وقدر الإمكان؛ ذات رئاسة موقتة، تبقي على وظيفة المدبرين. فكثر السجس وكادت تتفكّك أوصال الرهبانية الناشئة.
ولم ينته ذلك الخلاف إلاّ بتنحية القس جبريل عن الرئاسة وإسنادها إلى القس عبدالله في مجمع عام، إنعقد قبل الأوان، سنة ١٧٠٠، دون إستشارة الإثنين. ولم تعفُ آثاره إلاّ عندما قبل الرئيس العام الجديد أمر البطريرك بقسمة الرهبانية بينه وبين سالفه- الذي أعطي دير مرت مورا- وتخيير الرهبان بينهما. فلم يلحق القس جبريل إلا إسكيمي واحد وبعض المبتدئين. وهذا القليل لم يبلغ نهاية السنة حتى تبدّد. وبقي القس عبدالله وحده، في دير مار أليشاع، يرعى رهبانيته بعناية أبوية، ساهراً على حفظ الإنسجام بينه وبين المدبرين، إحتراماً للقانون الذي كان له اليد الأولى في جمعه وترتيبه، والحصول، بعد محاولات عديدة فاشلة، على تثبيته من السيد البطريرك، في ١٨ من حزيران، سنة ١٧٠٠، بعد أن حوّره واختصره في خمسة عشر باباً١ ففرح الرهبان كثيراً وقبلوا أن ينذروا بموجبه، إمتثالاً لرغبة أبيهم عبدالله. وكانوا إثني عشر ما عداه. (مذكرات عبدالله).
نموّ الرهبانية الجديدة وإنتشار طريقتها
ومذ ذاك الحين أخذت الرهبانية الجديدة تسير ثابتة في طريق النموّ والكمال، لأن عبدالله، كما يقول فرحات في تاريخه، كان يسوسها أحسن سياسة ويرعاها بمروج عمله. وذاع صيتها وفشى خبرها، فتوارد نحوها التوابون يدخلون في نيرها السهل والليّن العريكة، قادمين من حلب ودمشق ومصر وبيت لحم وصيدا، كما يستنتج من سجلات الرهبانية. ولم يكونوا من الموارنة فقط، بل من السريان والأرمن والروم والأقباط واليهود واللاتين. وإذ ضاق بهم دير مار أليشاع وتعذّر توسيعه، فكّر عبدالله بفتح أديرة جديدة في مناطق أخرى. وجاء إضطهاد الحماديين لمنطقة الجبة وأديارها، يحثه على الإسراع في تحقيق ما فكّر به. فأسس من سنة ١٧٠٦ إلى سنة ١٧١٢، الأديار التالية:
مار يوحنا، رشميا: ١٧٠٦- مار أنطونيوس، سير: ١٧٠٧ سيدة اللويزة، ذوق مصبح: ١٧٠٧- مار أنطونيوس قزحيا، الوادي المقدس: ١٧٠٨- مار بطرس ومرشللين، روميه: ١١٧٠٨ مار بطرس كريم التين، بيت شباب: ١٧١٢.
وكان كلما دعي إلى إستلام دير جديد، يستشير أولاً المدبرين. ثم يطلب من واقفي الدير إثباتات شرعية تضمن للرهبانية حرية التصرف به وبأرزاقه. وكان يعمد، بعد ذلك، إلى ترميمه وتوسيعه وتأثيثه وتعيين الرهبان الذين سيسكنونه مع الرئيس الملائم، متابعاً، قدر الإمكان، الإشراف عليه بنفسه، إلى أن يتثبّت من مقدرة سكانه الجدد على القيام وحدهم بكل ما تفرضه الطريقة الجديدة من محافظة على القانون وأمانة للنظام اليومي.
ولم يكن ذلك النموّ لينحصر في الرهبانية الجديدة ولا في الطائفة المارونية وحسب، بل إمتدّ إلى مختلف الطوائف الكاثوليكية، وظهر فروعاً مستقلّة في جمعيات رهبانية لا يزال أكثرها، حتى اليوم في تقدّم وإزدهار.
وهذه الجمعيات هي الرهبانيات: الأنطونية المارونية أو رهبانية مار آشعيا؛ والباسيلية الحناوية، المنقسمة اليوم كالرهبانية اللبنانية، إلى حلبية وبلدية أو شويرية؛ والأنطونية الأرمنية والأنطونية الكلدانية. وجميع هذه الرهبانيات إقتدت برهبانية عبدالله وإستعانت بقانونها وفرائضها في سنواتها الأولى، ثم إتّخذت قانوناً ثابتاً لها، أما القانون ذاته الذي رتبّه عبدالله لرهبانه، وأما قانوناً مقتبساً عنه٢.
سياسته للرهبانية الجديدة وتسميتها باللبنانية
وإن دلّ نموّ الرهبانية الجديدة وإنتشار طريقتها، على شيء أكيد، فعلى حيوية زاخرة، فيّاضة عن ينبوع أصيل يتصل خزانه بالله، المعين الوحيد الذي لا ينضب؛ وإلاّ لما كانت تدفقت هكذا، إلى البعيد، عبر المكان والزمان. وما ذلك الينبوع غير القس عبدالله، المؤسس والرئيس، الذي كان يقتبل من الله كل ما كان يفيض على رهبانه من حيوية، بسياسته الرحبة الصدر وأعماله المثالية وتعاليمه المبنية على تلك الأعمال.
فقد كان شديد الحرص على المساواة الأخوية بين رهبانه وعلى نزع النعرات والفروقات الطائفية منهم- وقد مرّ بنا أنهم كانوا يأتون من طوائف ومذاهب مختلفة- فطلب إلى الجميع أن يتبعوا الطقس الماروني، لا تعصباً ضيقاً، بل منعاً للتشويش في إقامة الإحتفالات الدينية وتلاوة صلوات الفرض (الخورس)، التي كانت أساسية في القانون الجديد ومحواً لأثر كلّ إختلاف مذهبي، حتى لا يراعي، في توزيع الأعمال، إلاّ الكفاءات، ويمكّن الجميع من الترقي في سلم الوظائف الرهبانية والطائفية.
وقد حفظت لنا، فعلاً، سجلات الرهبانية، أسماء العديدين من اللذين تولوا وظائف عُليا فيها وفي الطائفة، دون أن يكونوا من أصل ماروني، نذكر منهم على سبيل المثل: أرسانيوس عبد الأحد وتوما العاقل السريانيي الأصل، اللذين إنتخبا للرئاسة العامة في الرهبانية، ورُقّي الأول منهما إلى أسقفية دمشق المارونية، ويواكيم بلاديوس بليط، المؤلف الشهير١، وبطرس ساعاتي الأرمنيين، وبولس يونان الرومي الأرثوذكسي، وموسى هيلانه الشامي الرومي الكاثوليكي الذين تولوا وظائف مدبرين في الرهبانية وأسس الأخير منهم رسالة الرهبانية في دمياط، مصر، سنة ١٧٤٥٢.
ولكي يعطي عبدالله المثل بذاته على روح التجرّد هذه التي كان يطلبها من بنيه، أبدل إسم الرهبانية التي كانت تُعرف بالحلبية، نسبة إليه وإلى رفاقه المؤسّسين الحلبيين، بإسم الرهبانية اللبنانية، نسبة إلى جبل لبنان الذي نشأت فيه. ولنسمعه يعلّل لنا ذلك في مذكراته. قال:وفي هذه السنة (١٧٠٦) تحسّن عندي أن أدعو رهبنيتنا بإسم الرهبنة اللبنانية وتلقيب الرهبان باللبنانيين نسبة إلى جبل لبنان كما يسمى رهبان الكرمل بالكرمليين. وسبب ذلك أني عرفت بالرمز أن بعض الأخوة لم يستحسنوا إسم الرهبنة الحلبية لأنه إسم مشترك مع سكان حلب. ولما دخلت سنة ١٧٠٧، طلبت من السيد البطريرك أن يسمينا باللبنانيين. فإرتضى وصار يكاتبنا به.
سيرته الروحية والرهبانية
وما كان عبدالله ليكتفي بأن يسوس رهبانه بسلطته وحسب، وإن أبوية حكيمة، بل كان كالمصباح أمامهم ينير لهم السبيل وكالقائد الشجاع يلهب منهم القوى. وأننا لنعرف أعماله المثالية من أعمال رهبانه الأولين- إذ من ثمارهم تعرفونهم- ومن الشهادات المباشرة عن سيرته الشخصية.
أما الرهبان الأولون فقال عنهم فرحات في تاريخ الرهبانية أنهم كانوا حريصين جداً على حفظ قانونها. أما الطهارة فكانوا بها غنيين جداً وقطعوا كل سبب يؤذيها، ومنعوا النساء عن دخول أديرتهم ولم يكن يتكلّم راهب منهم مع إمرأة وحده أو يمشي في طريق دون رفيق
وحدّدت هذه الرهبنة أن للرئيس أن يوبّخ الأخ ويميته بحق وبغير حق، سواء كان مبتدئاً أو ناذراً أو كاهناً. وما سمع فيهم أن أحداً خالف أمر رئيسه إلا وهماً أو نسياناً، حتى أنهم كانوا يلزمون أنفسهم بطاعة بعضهم بعضاً. ومن جهة الفقر ما كان أحد يقول أن ثوبه له أو يستقني في قلايته شيئاً خاصاً، كما أن أمر الفضة كان مجهولاً عندهم لا يعرف شكل معاملتها إلا الرؤساء والوكلاء.
وكانوا مرتبطين بمحبة بعضهم بعضاً كأنهم جسد واحد ونفس واحدة. وإذا شعر أحدهم أن أخاه مغتاظاً منه، كان يسجد له ويطلب منه المغفرة، كما كان من عادتهم، إذا أبصر أحدهم نقصاً في أخيه، أن يخبر به الرئيس، حباً له، لكي يهذبه.
أما على المائدة فكانوا يأكلون وهم سكوت يسمعون إلى القراءة. فمنهم من كان يميت نفسه فلا يشبع، ومنهم من كان يأكل الأدنى أو يقتصر عن كثرة الألوان أو الفواكه أو الحلوى وشرب الخمر. ومنهم من كان يمارس العطش، أو يصوم كثيراً ويأكل قليلاً، أو يسهر طويلاً وينام قليلاً. ولم يكونوا يفطرون ويتكلمون بعد صلاة نصف الليل إلا في عيدي الميلاد والقيامة.
وما كانوا يكنّون من عمل اليد، مثل فلاحة الأرض والكروم والقز والبستنة وغيرها، ولا يخلون من مؤاسات الغرباء والمساكين من كدّهم؛ وفيما تبقى لهم من وقت، كانوا ينكّبون على مطالعة الكتب الروحية، وقطع اللذة من كل نوع، أنقياء اللسان والأفكار، التي كانوا مواظبين على كشفها لرؤسائهم كل ليلة تقريباً. (بتصرف عن تاريخ فرحات. اللآلئ ص: ٦٤- ٦٥).
ويزكّي اللبودي، بالأمثال، شهادة فرحات. معدّداً أسماء البعض من أبناء عبدالله الذين إرتقوا إلى درجة سامية في الكمال. فيذكر القس يوسف البتن، رفيق عبدالله وتلميذه، الذي بلغ درجة تواضع عميق. فكان الرؤساء الذين تناوبوا على الدير، وكلهم أحدث منه في الرهبنة، يأمرونه أكثر، الأحيان، بالركوع على المائدة حتى نهاية العشاء، لتمكينه من فضيلة التواضع والطاعة، وإعطائه مثلاً صالحاً لبقية الرهبان. وكان يضنك نفسه في خدمات الدير الدنية، وينظف قلالي الرهبان في غيابهم ولا ينفك عن ملاحظة أمورهم الروحية وراحتهم. ثم يذكر:أنطونيوس، من دلبتا، الذي جاهد في محبسة مار بولا، جهاداً كان يرى فيه الرهبان ما يقرأونه في كتاب بستان الرهبان، عن الآباء الأولين الحبساء والقس باسيل الهدناني والقس سليمان الشننعيري والقس حنا زوين والقس حنا الباني وغيرهم ممن كانوا مثالاً للقداسة والورع والتقشف. وكلهم تلاميذ القس عبدالله. (المشرق١٠: ٧٢٦، ٧٣٨ و ٧٩٨)؛ اللآلئ ص ٧٣).
فكما تكون الشجرة الصالحة! هذه هي الثمار وكلها نضج وجمال، وكما يكون المعلم، هكذا هم التلاميذ وكلهم جهاد رهباني وسعي وراء الكمال.
لكن هل يجوز أن نكتفي بالإستنتاج ولنا شهادات مباشرة في مترجمنا، من مذكراته هو، ومن القس توما البودي المذكور، الذي قال: وما أقوله أنا المسكين بسيرتي الواهية قد تحققته أولاً من الرهبان الذين كانوا معه. ولما دخلت الرهبنة، وكان ذلك في ١٠ آب سنة ١٧٠٦، رأيت كل ذلك بنفسي. فلننظر ما رأى بإختصار.
رآه يتقشف في جميع حركاته. ينام سنتين من غير فراش على عرزال من عيدان الحطب والقش، تحت غطاء يدفئ لا غير. فينعقر ويوجَع كثيراً. لكن مالي أقول ينام؟ لقد كان بالأصح يعطي جسمه راحة في الرقاد وهو جالس إلى نصف الليل، مسنداً في البدء، ظهره إلى الحائط، ممتنعاً عن ذلك فيما بعد، مدة أربع عشرة سنة، إلى أن إرتسم مطراناً.
وكان يمتنع عن كل شيء يعرف أنه يتلذذ به، حتى في المرض يأكل في اليوم مرة واحدة في العشاء. ثم أخذ يزيد يوماً فيوماً في تقشفه حتى أصبح يصوم يومين. فبلغ من الضعف حداً أعجزه يوماً عن رفع ثلاثة أرطال بيديه. وإذ خاف بعض الآباء فَقْدَ الرهبانية له عرضوا إلى البطريرك لكي يمنعه عن الصيام يومين. فأطاع عبدالله، لكنه باشر بتقشف صارم جداً بغير نوع، حتى ندم الذين قدموا العريضة وتمنوا لو بقي على صيامه.
أما صلاته العقلية فكان، في أول مبتداه، يصرف فيها ساعة صباحاً ونصف ساعة بعد صلاة السواعي وساعة عند المساء. وكان يسبق الجميع إلى الكنيسة لأجل صلاة الفرض. فكان يبدأها بهدوء، عندما يتم إجتماع الرهبان، مرتلاً بنوع خشوعي يحرّك طبعاً، للعبادة، قلوب الحاضرين. وبعد إنتهاء صلاة الليل وإنصراف الرهبان إلى مراقدهم، كان يظل في الكنيسة حتى صلاة الصباح، تارة جاثياً، وطوراً واقفاً كصنم لا يتحرّك؛ وأحياناً منكباً على وجهه راشاً التراب والرماد على رأسه. ومن كثرة المطانيات التي كان يستعملها في الكنيسة، ليلاً، تكلكلت ركبتاه وأصابعه التي كان يستند عليها في السجود والقيام.
وأما غيرته على حفظ الطهارة فيكفيكم أن تتمعنوا بكلامه عنها في شرح القانون كي تعرفوا إلى أيّ حد بلغ في هذه الفضيلة الملائكية.
وكان سلوكه بكل وداعة وحلم وطول أناة، مع أنه كان من ذات طبعه مسودناً عصبياً عنيداً برأيه. لكنه، متى إكتشف الحقيقة، كان يرجع عنه ويقرّ معترفاً بخطأه بكل تواضع. وقد حكم عليه مجمع المدبّرين مراراً، في أمور تتعلّق بسلطته، زاعمين أنهم يفعلون ذلك لخير الرهبنة. فكان يطأطئ رأسه خاضعاً لقولهم بارتياح، مع أنهم جميعهم تلاميذه وهو الذي أقام مجمعهم. (بتصرف عن البودي؛ اللآلئ، ص: ٦٦- ٧٠).
وعن هذا الخضوع لمجمع المدبّرين يشهد هو نفسه في مذكراته. قال: وجاء عندي (القس جبريل حوا، على أثر خلافه مع مطران إهدن وتشتت رهبانه) وجرى بيني وبينه خطاب ومذاكرة طويلة إنتهت إلى أنه يترك ديره (مرت مورا) ويجيء يسكن عندنا كواحد منا، من غير نذر. ثم سرت إلى إخوتي المدبّرين وشاورتهم في هذا. فأبوا ذلك وقالوا: لا نقبله ما لم ينذر مثلنا ويكون مرتبطاً بالقانون كواحد منا فصرت أنا حينئذ مستحياً من القس جبريل لأنني سبقت ووعدته بأن أقبله. خاب رجاؤه وظهر حانثاً بوعده، لكنه لم يقاوم إرادة المدبّرين. وكذلك فعل يوم أجبروه على إستجابة القس جبريل حوا نفسه وإرسال كاهنين ليقيما مع هذا في روميه، في الدير الذي إستحصل عليه، من البابا إكليمنضوس الحادي عشر، بإسم الرهبانية اللبنانية. قال في مذكراته: فاغتاظ بعض المدبّرين مني، وشكوا فيّ شكاً قبيحاً لأنهم تخيلوا أني لا أريد شركة القس جبريل، لئلا يوجد في الرهبنة أكبر مني، بما أنه كان رئيساً قبلي. فلما عرفت ظنهم وسمعت كلامهم أنهم راغبون في شركته، أطلقت لهم الحرية في ذلك وأرسلنا القسيسين. (اللآلئ ص ٦۲و ١۲٣).
الراهب الأسقف
وقد ثابر على هذه السيرة حتى رقّي إلى الدرجة الأسقفية في ١٧ من أيلول سنة ١٧١٦.
وفي حياته الأسقفية لم يغير من تلك السيرة إلاّ ما كانت تقتضيه أعماله الرعائية وما إضطرته إليه صحته الضعيفة والطاعة للبطريرك. فبدأ في نومه يتكي رأسه على المخدّة، بدلاً من أن ينام قاعداً، إنما لابساً ثيابه بموجب القانون. وصار يأكل اللحم أحياناً، لأن الغيورين على صحته، من رعيته، أخبروا البطريرك وطلبوا منه أن يلزمه بذلك. ومع هذا كله فجميع الذين كانوا يراقبونه، حين أكله، من رهبان وعلمانيين، كانوا يرون منه قناعة بهذا المقدار حتى كأنه ما كان يأكل شيئاً. وإذ لم يكن له كرسي أسقفي معيّن، كان يقيم في أديار رهبانيته، ولا سيما في دير سيدة اللويزة الذي كان في رعيته. فكان إذ ذاك يعيش عيشة رهبانية مثل ما كان وهو راهب. يطيع الرؤساء العامين الذين أُقيموا بعده، ويعمل كل ما كانوا يطلبونه منه، بحسن قلب وبسرعة أعظم من سرعة المبتدئين في الرهبنة، غير متميّز عن الرهبان إلاّ بثوبه البنفسجي. (بتصرف عن البودي، اللآلئ ۲٩۲).
وقد شهد بذلك أيضاً الأب بتيكوه اليسوعي الذي زار دير قزحيا سنة ١٧۲١ وتعرّف فيه إلى مترجمنا. قال: يسكن هذا الدير ثلاثون راهباً حلبياً بينهم إثنا عشر كاهناً ويقيم فيه مؤسّسهم، الأسقف عبدالله، الرئيس الأول عليهم قبل تسقيفه، والذي قبلنا ببشاشة عظمى. إنّ هذا الحبر يحيا في هذا الدير حياة قداسة حقة، كأبسط الرهبان، وعيشة أضيق من عيشتهم الشظفة، لا يتميّز عنهم إلاّ بثوبه البنفسجي (اللآلئ، ١٦٣؛ المشرق ۲٩: ۲٩۲- ۲٩٧).
وعندما أسند إليه، سنة ١٧۲٥، أمر تدبير راهبات دير مار يوحنا المعمدان، حراش ، إشترط لقبول ذلك، إعطاءه كل سلطة، لكي يتمكّن من جعله مثالاً حياً لأديرة الراهبات المنظمة، ويحقّق- ولو جزئياً- الشطر الثاني من هدفه في الإصلاح الرهباني الشامل. فجعل فيه مقرّ سكناه الدائم.
بسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد
المصباح الرهباني في شرح القانون اللبناني
الحمد لله الذي تفضّل على الإنسان بنعمتي الوجود والنطق ثم بعد أن إستعبده الشيطان والموت إفتقده تعالى بنعمتي الإفتداء والعتق. نشكره شكراً يليق بشأنه ونسأله التوفيق لطاعته ورضوانه.
وبعد، فيقول الحقير في الرؤساء عبدالله، أسقف بيروت اللبناني، أنه لما سألني البعض من إخوتي أن أشرح لهم القانون، ليتّضح للكل مكنون فرائضه وتتسهّل المعرفة بغوامضه، رأيت أنّ طلبتهم صائبة وأنّ إجابتهم واجبة. ولذلك بادرت إلى العمل حسب مسألتهم مستنجداً نعمة الله بصلواتهم. وما قصدي بهذا الشرح خاصة إلاّ المطابقة ما بين فرائض القانون وما رسمه الآباء المتقدمون، حتى يكون أساس الكتاب متوطداً على الصواب. وسميته المصباح الرهباني في شرح القانون اللبناني، من حيث أنه وضع لفائدة الأخ الضعيف الغشيم، لا العلاّم الفهيم. لأن المستضئ بشمس المعرفة، وعمل النجاح، لا يحتاج إلى المصباح. فعليك، أيها المتسكّع بظلمة نقص المعرفة، الأنس بضوئه والتأمّل برسومه ومدلوله. فإنك تجد فيه كفايتك الملائمة رتبتك، ومنه تتنسم نسيم الرهبنة، وتطلع على ما يلزم غايتك. ثم تعرف أن تجيب لمن يتفق ويسألك: ما هي الرهبنة وما هو قانونك، فتقول: هذه هي الرهبنة وهذا قانوني. وهو يحتوي على مقدمة وثمانية عشر باباً وخاتمة:
Discussion about this post