المصباح الرهباني
الباب الاول: في الطاعة
– الطاعة عند أبائنا القديسين، هي الإماتة لهوى الرئيس ظاهراً وباطناً. وهي مرتّبة على قوله تعالى: إن شئت أن تكون كاملاً بِع ما لك وأعطه للمساكين واحمل صليبك وإتبعني. فقوله بِع ما لك وأعطه للمساكين، أي كن فقيراً. وقوله إحمل صليبك، أي كن طاهراً. وقوله إتبعني، أي كن طائعاً. إذاً هذه الفضائل الثلاث، حسب قول الرب، هي الكمال. والمتقدمة فيهنّ هي الطاعة بدليل قوله تعالى: طاعة أريد لا ذبيحة. وقال أيضاً القديس توما اللاهوتي في شرحه نذورات الرهبنة: إنّ الراهب يقدّم لله نذر الفقر ماله وبنذر الطهارة جسده وبنذر الطاعة ذاته كلها، أي جسده وإرادته وعقله. إذاً الطاعة هي الأولى والأعظم في سيرة الكمال. وقد ينتج من مضمون ما قلناه ثلاث نتائج:
– الأولى: إن الطاعة هي أكمل عبادة وأعظم تقدمة من الطهارة والفقر؛
– الثانية: إنّ الطاعة تُلزم الراهب من جهتي النذر والوصية، ومتى خالفها أخطأ ضدّ النذر وضدّ الوصية.
– الثالثة: إنّ الطاعة هي قائمة في ذاتها بثلاثة أصناف: أي طاعة الجسد وطاعة الإرادة وطاعة الرأي. فطاعة الجسد هي حركات جسدنا كما يريد الرئيس. وطاعة الإرادة هي ميل إرادتنا كما يريد الرئيس. وطاعة الرأي هي إقناع عقلنا بتصويب رأي الرئيس. وليس كل واحدة من هذه الطاعات هي الطاعة الحقيقية بل جملتهنّ هي الطاعة الحقيقية السابق تعريفها بالإماتة لهوى الرئيس ظاهراً وباطناً. فالإماتة الظاهرة هي الطاعة الجسدانية والإماتة الباطنة هي الطاعتان الإرادية والعقلية. فيكون تقدير القول إنّ جملة الطاعات الظاهرة والباطنة هي الطاعة الحقيقية، الواحدة في ذاتها، المنقسمة في صفاتها إلى ثلاث درجات:
– الدرجة الأولى: هي الإماتة لهوى الرئيس بتعب
– الدرجة الثانية: هي الإماتة لهوى الرئيس بقليل من التعب
– الدرجة الثالثة: هي الإماتة لهوى الرئيس من غير تعب.
– ولنتكلّم في واحدة فواحدة منها. فأولاً:
الدرجة الأولى:
وهي الإماتة لهوى الرئيس بتعب الإماتة لهوى الرئيس هي أربعة أعمال: الأول هجر المشيئة، الثاني بغضها، الثالث العمل بمشيئة الرئيس، الرابع الرغبة فيها. ولنتكلّم أولاً في:
– العمل الأول: هجر المشيئة
إعلم أنّ هجر المشيئة هو تعليم وتسليم إلهيّ لأنه تعالى قال:ما أتيتُ لأعمل مشيئتي. فهذا هو مبدأ وأساس عمل الطاعة وكلّ إماتة. ومن دونه لا توجد إماتة ولا تستقيم طاعة أبداً. وكما أنّ قلع العشب وطرحه يتقدّم زرع الحنطة وكل الحبوب، هكذا هجر المشيئة يتقدّم عمل الطاعة وكل فضيلة، وإلاّ فالطاعة تموت كالحنطة بين العشب ولا تصنع ثمراً.
وعن هذا المعنى نفسه قال القديس السلّمي:إن كنت قد تقدّمت للطاعة فبع ذاتك وخزّق في هذا البيع مسطور مشيئتك تخزيقاً. فإنك ما دمت جائلاً فيها فمن شأنك فيما بعد أن توكس الشراء الذي إشتراك له المسيح. وقال أيضاً: أنه سمع رئيس دير التوبة يقول:الأوفق أن يطرد المبتدئ بالطاعة من الدير من أن يبقى عاملاً مشيئته. ومضمون القول، إن من يبتدئ أن يبني بيت الطاعة بغير أساس هجر مشيئته، فبنيانه يكون لغير الطاعة. إن شئت الطاعة إبتدئ في أن لا تشاء شيئاً فتبلغ إليها. لا تتمسك بمشيئتك، ولو ظهر لك أنها صالحة. لأن العمل بخلاف المشيئة ولو كان أقل فضلاً، فهو أكثر نفعاً، كما إنتفع بطرس، بغسل قدميه أكثر من أن يعمل مشيئته ويمتنع من غسلها؛ العمل الواجب جداً.
قد نبّه على هذا المعنى القديس السلّمي حيث قال:إن من جحد اتّباع هواه جحوداً كلياً في العزائم والأفعال التي يظن أنها جيدة روحية مرضية لله، فذاك قبل سعيه قد وصل، أي بلغ العمل الأفضل. قد جاء في البستان عن الأب بيمين، أن رئيسه أمره أن يمضي كل يوم جمعة، صباحاً، إلى شجرة تين كانت قريبة منه ويأكل منها. والسبب في ذلك أنّه رآه يرغب الصوم كثيراً، فجعله لا يصوم يوم الجمعة، اللازم صومه، لينقض بذلك مشيئته ويعلّمه أن يبتدئ بالفضيلة من العمل بما يخالف هواه.
وقد ينتج لنا من ذلك أيضاً أمر آخر، وهو أنّ الراهب الطالب من رئيسه أن يفسح له ليعمل هواه، ليس هو بمستقيم السعي في الطاعة. وهذا أيضاً قد نبّه عنه القديس السلّمي حيث قال: ويوجد قوم من المطيعين قد ساتروا ذواتهم، حين شعروا بإسراع قبول الرئيس منهم موافقته أغراضهم، فاستماحوا منه أوامره بالخدم المناسبة مشيئاتهم. فمتى ما تقلدوها على هذه الصفة، فليعلموا أنهم قد سقطوا من سائر الجهات، خائبين من إكليل الإعتراف، لأن الطاعة الصادقة هي إغتراب فاعلها من المراءاة والهوى الذاتي. هذا هو أساس كل عمل صالح وبدء الطاعة وعملها الأول خصوصاً.
– العمل الثاني: بغض المشيئة
أما العمل الثاني الذي للطاعة، أي الإماتة لهوى الرئيس، فهو بغض المشيئة. أي لا يكفي لمن باع نفسه للطاعة أن يهجر مشيئته فقط على بسيط الهجر، بل أيضاً أن يهجرها هجر البغض لها، بمنزلة رفض الشيء المضرّ المؤذي. وهذا البغض، فهو من تعليم الرب تعالى نفسه، لأنه عزّ وجلّ قال: من لم يبغض كل شيء له حتى نفسه، أي مشيئة نفسه، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً، أي طائعاً. ولما أبصر بطرس عظيم تلاميذه مستعملاً مشيئته، أظهر له البغض بقوله له: إذهب عني يا شيطان. وهذا لنا تعليم لنفهم قباحة حال المشيئة ونجدّ في بغضها. فمن لم يبغض مشيئته، وإن هو هجرها، فهو في خطر الرجوع إليها دائماً، لأنه تعالى قال: من ليس عليكم هو معكم. أيّ الذي لا تبغضه تحبه، أمّا الآن، أو فيما بعد. فإن أنت أبغضته، فتكون قد إستوثقت بعدم الرجوع إليه. قال القديس السلّمي: إنّ أحد الآباء المطيعين، لما كان يتكلّم معي كلام منفعة في معنى الطاعة، قال لي: إنزع مشيئتك كمن ينزع لباس خزي. فهذه العبارة تدلّنا على أنّ غرض الآباء هو أن نطرح مشيئتنا طرح البغضة، لا كيفما إتفق. وهكذا أيضاً قال القديس المذكور في تعليمه المطيعين مخاطباً إيّاهم: إعلموا أنّكم قد إعتزمتم أن تسلكوا طريقة وجيزة خشنة مقتنية فيها ضلالة واحدة فقط. وهذه الضلالة تُدعى إتباع أحدنا هواه. ودعاها ضلالة لكيما نبغضها، إذ الطبع من ذاته يبغض الضلالة ويحب الهدى. وهكذا طبع الطاعة يبغض المشيئة ويحب التبرّؤ منها. وهذا هو العمل الثاني للإماتة لهوى الرئيس.
– العمل الثالث: تتميم مشيئة الرئيس
أما العمل الثالث فهو تتميم مشيئة الرئيس. وهو أيضاً من تعليم وترتيب الرب تعالى لأنه قال: أتيتُ لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة من أرسلني. والشرح فيه يجيء في الفريضة الثانية في هذا الباب.
– العمل الرابع: الرغبة في كمال مشيئة الرئيس
أما العمل الرابع فهو الرغبة في كمال مشيئة الرئيس. وهذا أيضاً تعليمه تعالى ومرسومه الإلهي حيث قال:طعامي هو أن أعمل مشيئة من أرسلني. أي أنّ المطيع الحقيقي يرغب العمل بمشيئة رئيسه، كما يرغب الطبع الطعام. وهذه الرغبة قد مثّلها الرب بالعطش بقوله:أنه يعطي العطشان ماء الحياة. أي يعطي الراغب الفضيلة رغبته ونعمته. هكذا فسّر الآباء القديسون. إذاً، من حيث أنّ الطاعة فضيلة ونعمة من الله، فما لم ترغبها لا تعطاها. قال أحد القديسين:إنّ المطيع الحقيقي يتنبأ على مشيئة رئيسه ويفعلها. أي لشدّة رغبته في كمال الطاعة، يدرك مشيئة رئيسه من بعيد، وكأنّه يفعل قبل أن يؤمر، كما جاء في البستان عن الأب مرقس، الذي كان حاصلاً على هذه الرغبة وكان رئيسه الأب سلوان يحبه لوفور طاعته، أكثر من باقي أخوته. ولذلك صارت الرهبان تغار من مرقس وتتذمر على الرئيس. فبلغت هذه الأحوال مسامع بعض الآباء فأتوا إليهم ليتلافوا الحادث ويرفعوا السجس. وقبل أن يتكلّموا مع الأب سلوان، أخذهم ودار بهم على قلالي الأخوة. وكان يقرع باب واحد فواحد منهم، ويقول: يا فلان هلمّ واخرج إليّ. فلم يسرع إليه ولا واحد منهم كالواجب. ولما بلغ قلاية مرقس صاح: يا مرقس! فقط. وفي الحال أسرع إليه المطيع بتحقيق. فأرسله الشيخ في خدمة وإلتفت إلى الآباء وقال لهم: أين هم يا أبائي باقي الإخوة. ثم دخل بهم قلاّية مرقس فرأوا أنّه كان يكتب. ولما سمع صوت الرئيس بادر إليه ولم يكمل الحرف الذي كان يكتبه. ولما عاين الآباء هذا، قالوا للأب سلوان: إنّ الذي تحبّه أنت نحبه نحن أيضاً ، لأن الله يحبه.
فلنتأمّل كم يتعاظم كمال الطاعة في من يرغبها. وهذا هو رابع عمل الإماتة لهوى الرئيس، وتمام أعمال الطاعة السابق ذكرها، أيّ هجر المشيئة وبغضها والعمل بمشيئة الرئيس والرغبة فيها. فهذه بالضرورة توجد في كلّ راهب باع ذاته للطاعة، إن كان ترهب بحقّ. لكن هذا، منذ إبتدائه في هذه الأعمال، يوجد متعوباً في عملها، كما يقول القديس السلّمي: إنّ ابتداء إماتة المشيئة وأعضاء الجسم يُنتج لفاعلها وجعاً. وهذا الوجع هو تكليف الذات للعمل. وهذا التكليف يدل على الإماتة أنها غير كاملة، وهي خاصة أهل الصراع، العاملين في الدرجة الأولى من أيّ فضيلة كانت، وبالأكثر الطاعة، المعبّر عنها باسم الشهادة، لأنها تحتاج إلى تكليف الجسم والإرادة والعقل.
وفي هذا يقول القديس السلّمي: يا بني المطيع، لن تتعب سنين كثيرة لتصادف الراحة السعيدة، إن أنت بذلت نفسك في مبادئ زهدك، بكلية نفسك، لمكاره الهوان. ومعنى كلامه أنّ الإبتداء يحتاج إلى بذل النفس للهوان وتعبه، أي الصبر على كل ما يحزن وما يتبع المحزنات من الضجر وقساوة القلب والإسترخاء وما شاكل ذلك. وهذا التعب لا يدوم بل يتغير، لكنه يحتاج، لتغييره، الاحتمال العظيم والصبر الجسيم. فما دمت تحس بقتال المخالفة أو التراخي في عمل الطاعة وجذب ذاتك بعنف إلى تكميلها، فلا ترتاب أنك في الإبتداء، أنت، إن كنت خائباً من ثلم طاعتك. أما إن كنت مرة تطيع ومرة تخالف فلست تكون من المبتدئين بل من الخارجين عن حدود الطاعة. وإنما المبتدئ الساعي بالدرجة الأولى، هو الذي لا يخالف البتة، غير أنه يكلف ذاته لتكميل الأمر، ويتعب كما كان ذاك المطيع، الخادم رئيسه المريض المذكور في البستان، وكان فكره يقاتله ليترك ويهرب من الطاعة. لكنه لم يقبل بل ثبت يصارع ويجاهد إلى أن نظر الله صبره وشفى معلمه وفاز التلميذ بطاعته. وتلميذ آخر كان يقاتله فكره ليفرّ من تعب الطاعة. فكان يجيب فكره قائلاً: أنت عبد وقد بُعتَ فما الذي بقي في يدك. وبمثل هذا الصراع دام مجاهداً إلى أن غلب واستراح منتقلاً من الدرجة الأولى التعبة إلى الدرجة الثانية.
الدرجة الثانية:
– الإماتة لهوى الرئيس بقليل من التعب
الدرجة الثانية، السابق تعريفها بالإماتة لهوى الرئيس بقليل من التعب، لم تتميز عن الدرجة الأولى إلا بنقص التعب فقط. والقديس السلّمي قال: إن صاحب هذه الدرجة يحصل له أحياناً فقد الوجع. أي قد يحدث أيضاً للمتوسط في الطاعة، الضجر والحزن وقساوة القلب وما أشبه ذلك من أوجاع المبتدئين، لكن بعض الأحيان بنوع خفيف وتعب لطيف. وهذه الخفة واللطافة هي أولاً نعمة من الله تُعطي المطيع جزاء تعبه السابق؛ وثانياً من عمل الممارسة، كون ممارسة العمل تولّد سهولته. وفي هذه الدرجة يقول المطيع لله مع النبي: كم غموماً أريتني وعدت فأحييتني. وإن قلت لماذا لم يرفع الله عن هؤلاء التعب بالتمام، يجيبك الآباء: لئلا ينخدعوا قبل تمام تواضعهم، من التوهّم الباطل بذواتهم فيسقطون في الكبرياء ويُهملون من العناية الإلهية ويرجعون إلى الوراء رجوعاً منكراً، كما يقول القديس السلّمي، إنّ مرات كثيرة يحدث في المطيعين إنتزاع الأخلاق الصالحة بتدبير إلهي ليسبب لهم تواضعاً مكيناً رسوخه.
وهذا قد عرض للأب اسكندر تلميذ الأب أغاتون، على ما ذُكر في البستان: أنّ الأب اسكندر كان مطيعاً جداً، يحبّ التعب، باشّاً، طيب الأخلاق. وكان رئيسه الأب أغاتون يحبه جداً. فاتّفق يوماً ما، لما كانت الإخوة تغسل الكتان في النهر، وإسكندر يغسل معهم بهدوء كعادته، أن شكاه الإخوة للرئيس بزعمهم أنه كسلان في عمله. أمّا الشيخ، فلمعرفته بحال رهبانه كلهم، قال للأب إسكندر قدامهم: يا أخي اسكندر، إغسل جيداً لأنه كتان. فلما سمع إسكندر هذه الكلمة حزن وتوجّع. وبعد حين دنا منه الرئيس وقال له: هل ظننت أنني لا أعرف حسن عملك؟ لكن قلت لك ذلك لسماعهم لتسكين قلوبهم.
فهذا الأب إسكندر كان، على ما يرى، في الدرجة الثانية من الطاعة، وكانت محبة ذاته واقعةً عليه وقوع المقارنة لا المصارعة. ولذلك لما عرض له الحزن خلاف عادته الحميدة وأخلاقه الجيدة لم ينزعج له، لأن الألم، من حيث أنه نادر، كان خفيفاً لطيفاً. فالذين هم هكذا، إذا داموا برغبة السعي مجدين، لا يتباطأون كثيراً إلى أن ينتقلوا، بنعمة الله، من درجتهم القليلة التعب، إلى الراحة، أي إلى الدرجة الثالثة.
الدرجة الثالثة:
– الإماتة لهوى الرئيس من غير تعب
وهي الإماتة لهوى الرئيس من غير تعب البتة. لأن فكر محبة ذواتهم يمر عليهم كعابر الطريق فلا ينزعجون له أصلاً ويطرحونه من غير تعب ومن غير إحساس بالوجع على سبيل الإهمال والأهوان به. وهذه هي إماتة الذات الكاملة يهبها الله للذين مارسوا أتعاب الطاعة بكل قوتهم ويُسمّون أصحاب الحركة الأولى الساذجة. وفيهم قال السلّمي: أنهم لا يتوجعون إلا إذا فعلوا مشيئتهم فقط. وهذا هو تمام الإنسان الجديد المخالف العتيق بكل أحواله. لأن الناقص في الطاعة غير المطيع يتوجع إذا إنتقصت مشيئته ويستلذ بإتمامها. وهذا، فبالعكس، يستلذ إذا إنتقصت ويغتم إذا كملت. يرى المديح والكرامة تعباً؛ والتعب والشتم والهوان لذة.
وهذه الصفات والأحوال التي تخصهم قد سمعها وتحققها، بعد العمل بها، القديس السلّمي، من المطيعين الحقيقيين الذين وجدهم في دير التوبة، كما حرّر ذلك حيث قال من جملة ما قال: أني رأيت رجالاً قد لبثوا في الطاعة مدى خمسين سنة ولبثت أتضرع إليهم أن أعرف منهم أي سلوى إستفادوها من تعب هكذا تقديره عظيم. فمنهم من قال لي أنهم وصلوا إلى عمق الإتضاع الذي به فيما بعد يدفعون إلى الدهر كل قتال يدهمهم. وقال لي غيرهم أنهم قد حازوا، في ترادف القزف والمسبات عليهم، زوال الحس بها وعدم التوجع كاملاً. وقال لي آخرون: هلم هلم اسكن معنا! تعال إشرب كل ساعة الإستهزاء بمنزلة ماء حي! هذا ومثله قد ذكره القديس نقلاً عن أولئك الأبرار. والمضمون هو أنّ صاحب هذه الدرجة يطرح مشيئته ويبغضها جداً ويرغب مشيئة الرئيس ويكملها كما يرغب ويكمل أمر الله على السواء. ولكثرة تواضعه بذاته لا يحس بشيء من التعب والوجع الواصل إليه من الرئيس والمتقدمين أصلاً، كما كان الأب إسيدورس المحرر خبره في السلم. وفي خبره الكفاية لتعليم ورسم صورة درجات الطاعة الثلاث السابق ذكرها.
هذا المعظّم كان راهباً في دير التائبين. ولأجل حركات الكبرياء التي كانت تظهر منه في إبتدائه، أمره رئيسه أن يقف عند باب الدير ويسجد لكل إنسان يدخل ويخرج، سجدة واحدة. فأطاع الطالب خلاص نفسه رئيسه فيما أمره وبقي على هذا الحال سبع سنين وسافر إلى الرب مكللاً. قال القديس السلّمي: أني رأيت هذا المجاهد في أيام جهاده وسألته ما هو عمل عقله في مدة هذه السنين. فأجاب ولم يكتم المنفعة وقال: قد كنت في السنة الأولى أتذكر خطاياي وأسجد السجدة بكل مرارٍ وكلفة، وفي السنة الثانية زال عني الحزن والمرار وصرت متعزياً بالرجاء ونيل الثواب. ولما بلغت السنة الثالثة صرت أرى ذاتي غير أهلٍ لمعاينة الأخوة والمقام معهم ولا لتناول الأسرار الطاهرة ولا للنظر إلى وجه أحد مطلقاً، وصرت مومياً إلى أسفل بنظري منحنياً إلى عمق التذلّل بعزيمتي، ضارعاً إلى الداخلين والخارجين من أجل صلاة أستمدها بأخلص سريرتي.
فلنتأمل كيفية تقلب سيرة هذا السعيد، لأنها مفيدة جداً لمقصودنا. فالسنة الأولى كان عمله في الدرجة الأولى، والثانية، في الثانية؛ ولما بلغ السنة الثالثة غاص في لجة التواضع وخنق فيها كل حس وجع وتمرمر يحدث من قبل الطاعة خنقاً هذا مقداره حتى صار لا يرضى بالتعب فقط بل ويرى ذاته غير مستحق التعب.
هذه هي راحة الدرجة الثالثة من الطاعة اللازمة كل راهب، من قبل نذره الطاعة. لأن نذر الطاعة معناه نذر كمال الطاعة. ولما كان ذلك ضرورياً وهكذا لازماً، وضع لنا القانون وسائط تساعدنا عليه وهي الفرائض الآتي ذكرها وعددها عشر.
الفريضة الأولى: يجب على الراهب أن يتخذ رئيسه بمنزلة المسيح مع قطع النظر
واسطة أولى لامتلاك الطاعة، هي هذه الفريضة، من حيث أنها تحتوي على معنى الأمانة بالرئيس. ومن المعلوم أن أفعال الأمانة لها التقدم على جميع الأفعال. والرسول يقول: كل ما هو ليس بإيمان هو خطيئة، أي ليس بكامل. والقديس السلّمي يقول: إنّ الراهب متى ما عثر بحجر عدم الأمانة برئيسه سقط فلذلك رسم لنا القانون هذه الفريضة قبل باقي الفرائض لنتعلم أن نتخذ رئيسنا بمنزلة المسيح، أي نائب المسيح. ومن هذا الإيقان نقوى على أن نتمكن بعمل الطاعة، لأن النائب هو في مكان من أنابه، مكانه بالسواء. وهذا التعليم هو لربنا لأنه تعالى قال: من سمع منكم فقد سمع مني ومن خالفكم فقد خالفني. إذاً، إن نحن أنقصنا إعتبارنا للرئيس عن إعتبارنا للمسيح، فقد خالفنا المسيح وأضعنا الطاعة وتعسر وجودها علينا.
الأب ردريكوس اليسوعي قد أتى بمسألة في هذا المعنى وقال: ما السبب في أنّ البعض من الرهبان نراهم يستمرون في الطاعة كثرة من السنين ولا يمتلكونها، مع أنّ الحكم عند الفلاسفة أنّ الملكات تمتلك بالممارسة وتكرار العمل؟ فيجيب الأب المذكور ويقول: لأن هؤلاء الرهبان يميزون ما بين الرئيس والمسيح ولا يعتبرون كلام الرئيس ورأيه أنه كلام المسيح ورأيه، فلذلك يطول زمانهم في الطاعة ولا يمتلكونها.
فيقول قائل: قد أرى في الرئيس نقائص وغلطاً واضحاً فكيف يمكنني أن أتخذه كالمسيح. فنجيبه أنّ عاقتك عن إتخاذك له كالمسيح ليست هي من نقائصه بل من نقصك ومن ضعفك في حفظ رسوم القانون. ألم يأمرك القانون أن تتخذ رئيسك بمنزلة المسيح مع قطع النظر، أي من غير إلتفات إلى أعماله، أي أن تضع عليه صورة المسيح وتتضع له وتحبه هيبة لصورة المسيح. فلو تهتم أن تفعل هكذا لهان عليك أن تعتبره كالمسيح. لأن هذا هو معنى قطع النظر في إتخاذك رئيسك كالمسيح وهذا هو غرض القانون. أما أنت، فلكونك ناقصاً في حفظ غرض القانون، فنقصك يشغل أفكارك بنقائص الرئيس وتصعب عليك الطاعة. وهذا هو القول المشهور عند الآباء: إنّ الراهب القديس يرى أخاه كالقديس، والإبليس يرى القديس إبليساً. فإذا كان هذا حال النظر في الأخ فلو كنت أنت قديساً كم كنت ترى الرئيس قديساً! قال القديس السلّمي: إنّ الرب يحكّم ألحاظ المطيعين بفضائل مرشدهم، والشيطان بالضد، يظلم أبصارهم بنقائص معلمهم. ومعنى ذلك أن الرئيس، من حيث هو إنسان، قد يوجد فيه بعض نقائص، ولا بدّ أن يوجد فيه جملة فضائل. فالراهب المنغلب لوسوسة إبليس يصغي للشر ليتفهم نقائص الرئيس. والراهب العمال، يسعى بعدم الشر وسلامة القلب، فترسخ بفطنته فضائل الرئيس. فهذا إلهام ونعمة من الله وذاك وسوسة وطغيان من الشيطان.
قال الرب في إنجيله المقدّس: من كان من الله يسمع لكلام الله. ومن موجب كلام الله، الرئيس هو مكان المسيح ويجب إعتباره كالمسيح. إذاً الذي هو من الله يعتبر رئيسه كالمسيح. قد أخبرنا القديس السلّمي عن راهب يسمى لفرنيتوس كان مقيماً في الطاعة نحو ثمان وأربعين سنة؛ هذا دعاه رئيسه وقت جلوسهم على المائدة. فأسرع إليه. فتركه الرئيس منتصباً أمامه ولم يخاطبه بكلمة ما البتة. وبعد فراغ المائدة، أطلقه لقضاء خدمة. قال القديس السلّمي الذي كان حاضراً هذا المشهد: أني خجلت من وقوف الراهب القس الكبير في العمر لأنه كان قد بلغ الثمانين سنة. فسألته فيما بعد ماذا كان يفتكر في مدى وقوفه أمام المائدة زماناً هذا مقداره. فأجابني: أني وضعت على الرئيس صورة المسيح وما إفتكرت قط أني أمرت من إنسان بل من الله. ولم يخطر لي بالكلية نحو الرئيس، ولا فكرة واحدة رديئة، لفرط أمانتي وحبي إياه، لأن الرسول قد قال: إن المحبة لا تفكر بالشر. بل واستيقن، يا أبانا، إنّ أحدنا إذا بذل ذاته إلى البساطة ومباينة الشر طوعاً فلن يجد الخبيث أيضاً عنده وقتاً أو مكاناً قط. إنتهى الخبر.
أفهمت أيها الأخ الحبيب أن عدم أمانتك في رئيسك ليس من نقائص الرئيس بل من عدم البساطة، ومن خبثك بإختيارك. فلو فعلت كما فعل الراهب المقدم ذكره، وسعيت بسلامة القلب وخوف الله، لما وجد الخبيث عندك وقتاً أو مكاناً قط نظير هذا البار.
فإن قلت: أنا ضعيف ومالي قوة أن أعمل مثل هذا العمل. فأجيبك إسمع القديس السلّمي، فهو يرشدك إلى العمل الذي تبلغ به عمل لفرنيتوس المقدم ذكره. قال القديس: متى ما أهجس لك فكرك أن تبحث عن مرشدك أو توجب الحكم عليه، فأطفر منه كما تطفر من فكر الزناء ولا تخول هذه الحية فسحة البتة، ولا موضعاً ولا مدخلاً ولا مبدأ، وقل للتنين: يا مطغياً محتالاً، لست أنا الذي تقلدت الحكم على رئيسي، بل هو تقلد الحكم علي. إنتهى قول القديس.
فإن عملت أيها الأخ بموجب هذا التعليم أمكنك أن تدفع عنك شر الشياطين وغشهم وتقبل إلهامات الله وتحظى بنعمته بالأمانة برئيسك وتتخذه كالمسيح مع قطع النظر وتفوز بسهولة عمل الطاعة من قبل هذه الأمانة.
الفريضة الثانية: ويقدم له الطاعة في كل شيء دون الخطيئة
من عادة الراهب الفاتر أن يعتفي مرات كثيرة من عمل الطاعة بحجة أن الأمر ثقيل لا يقوى عليه أو أنه غير مفيد أو غير موافق زي الفضيلة. فلكي يقطع القانون هذه الحجج المعيقة الطاعة، رسم بلزوم الطاعة في كل شيء دون الخطيئة. وهذا وضع إلهي وإمتثال له تعالى، الذي أطاع حتى الموت. وهو واسطة جيدة للتوجه نحو الطاعة من غير إلتفات وتبرم.
وفي هذا المعنى يقول القديس أفرام: أيها الحبيب إذا جلست في طاعة أب روحي لا تضع لك حدوداً وتقول ما يمكنني أن أعمل هذا أو ذاك. فإنك إن لم تعمل ما تؤمر به، لا تُفلت من مداينة المعصية. وقال القديس باسيليوس: إذا كان الذي دفع ذاته إلى تعليم صنعة من الصنائع هذه، الحقيرة، التي إنما تنفعنا زماناً يسيراً، في حياة هذا العالم الحقيرة، يسمع من معلمه في كل شيء ولا يجاوبه ولا يفترق عنه، فكيف لا ينبغي للذين يتقدمون إلى تعليم العبادة أن يظهروا لرئيسهم كل طاعة! وقال أيضاً: يجب أن يكون المطيع مع رئيسه كالآلة في يد الصانع. فكما أنّ الآلة لا تطلب من الصانع أن يستعملها في عمل دون عمل ولا تقول له لماذا أمرتني كذا ولم تأمرني كذا، كما لم يعترض إبراهيم لأمر الله، حين أمره بذبح ابنه إسحق، الفعل المستصعب على الطبع جداً- ولا قال لله، أنت وعدتني أن بإسحق يكون لك الزرع، وأنت الآن تأمرني بذبحه، بل أسرع بتكميل الطاعة بشجاعة لائقة. وهكذا جاء عن الأب يوحنا القصير حين أطاع معلمه بسقي العود اليابس كل يوم، وكان الماء بعيداً منه، ومكث على هذا العمل ثلاث سنين. فنبت العود وصنع ثمراً وسمي شجرة الطاعة. وحكي عن أبينا أنطونيوس أنه أمر أحد الرهبان أن يتعرى ويحمل لحماً على منكبيه ويعبر وسط القرية لتلحقه الكلاب فتجرحه وتضحك عليه الناس، وأطاعه الراهب وأكمل أمره بالتمام. وما أكثر فعلة الطاعة بمثل هذا وأكثر. هذا هو تمام غرض القانون بقوله: يجب على الراهب أن يطيع في كل شيء.
فيقول قائل: لا ألتزم بالطاعة إلا بموجب قانوني لا أكثر. فنجيبه: ونحن معك في ذلك ولا نريدك تطيع إلا حسب القانون، أي في كل شي، لأن القانون هكذا رسم. وهكذا أنت ملزوم بطاعة مطلقة إلا الخطيئة الواضحة فقط، إذ المشكوك فيها تلتزم أيضاً بالطاعة فيها لأن إفراز الرئيس يجب عليك إتباعه أكثر من إفرازك. لكن الخطيئة الواضحة يلزم فيها حفظ قول بطرس الرسول القائل: إن الله أولى بأن يطاع أكثر من الناس. وعن الطاعة المشكوك بها يقول القديس باسيليوس: إذا ما أرسل الأخ ليمضي إلى غربة- ولو أنه سفر بعيد- يقول أني أتأذى ويخالف ولا يمضي، فليعلم هذا أنه بعد لم ينظر إلى إفراز الطاعة ولا نظر إلى القديسين كيف أكملوا الطاعة ولم يجاوبوا في شيء عندما أمروا به، ولو كان تعباً عسراً، وليتشبه بهم. وإن كان الراهب يتأذى بالحقيقة، أي يحس بقتال الخطيئة حساً واضحاً، فليطلب من جماعة الأخوة أن يصلوا لله عنه ويسأل الله، برجاء ثابت من غير تشكيك، في أن يعينه ويجعله إناءً مختاراً، في الأعمال الروحية والجسدانية التي يضطر إليها. فبالحقيقة أن الله، محب البشر، هو الذي يقبل من يغار على فعل الخير وينعم عليه بقوة يكمل بها مطلوبه ويخلص من الشر. إنتهى قول القديس.
وقد جاء مثله بالتمام في الأخبار العملية. وهو أن أحد التلاميذ كان يرسله شيخه إلى القرية ليبيع عمل أيديهما. وكان عند معاينته النساء يتأذى من القتال؛ فشكى ذلك إلى شيخه زماناً فلم يقبل شكواه. فضجر التلميذ وعزم على ترك معلمه والإنطلاق من عنده. لكن لم يشأ أن يفعل ذلك بغير مشورة بل ذهب إلى شيخ كان يجاورهم وكشف له أفكاره. فقال له الشيخ: لا تفعل هذا يا ولدي، بل إثبت في طاعة معلمك واسمع مني ما أقوله لك: إذا داهمك الشيطان في القرية بأفكار الزناء فإدفعه أنت بهذه الكلمه الواحدة، وقل: يا إله أبي خلصني. فلي الرجاء بالله إنك تغلب الأفكار، ولا يؤذيك شيء. فقبل الأخ المطيع بتحقيق مشورة الشيخ وثبت في طاعة أبيه. ولما أرسله إلى القرية كالعادة لم يحس بالقتال البتة، وذلك أنّ الطاعة هزمت عنه الشياطين. فلما رأى العدو أنه قد إنغلب للأخ ذهب إلى إمرأة كان الأخ أولاً يُقاتل فيها. فوسوس لها اللعين محبة التلميذ ومالت الشقية إلى هواجسه وحضرت للوقت تدعو التلميذ إلى بيتها كأنها تريد أن تبتاع منه زنابيلا. ولما دخلت البيت أغلقت عليه الباب وإبتدأت أن تظهر له حركات سريرتها. فحس التلميذ بالمكيدة الشيطانية وذكر كلمة الشيخ وهتف لوقته بأمانة: يا إله أبي خلصني. فلم يشعر بذاته إلاّ وهو قائم عند باب قلايته، في البرية. فشكر الله وحمده وتمسك مذ ذاك بطاعة أبيه بزيادة.
فهذه المعاني ومثلها كثير سطرها الآباء تعليماً في أن نطيع رؤساءنا في كل شيء دون الخطيئة الواضحة، وخصّوا هذا العمل بإسم الطاعة العمياء وقالوا: كما أنّ الأعمى يسعى في طريقه لا يقف إلاّ عند الحفرة الواسعة والمانع الكبير، هكذا يجب على الراهب أن لا يقف في تكميل أمر رئيسه، إلاّ عند الخطأ الواضح، كما رسم القانون.
فإن قلت: وإن أمرني أمراً يفوق قوتي على التحقيق ماذا أفعل؟ فيجيبك القديس إفرام ويقول: إن عرض لك أيها المطيع أن تؤمر بما يفوق قوتك، فلا تقاوم ترتيب الرئيس بغضب، بل بتواضع وتوسل وصوت منخفض، عرّف رئيسك بالأمر. إنتهى كلام القديس.
ومثله يجب أن نفعل عندما يغلط الرئيس ويأمرنا أمراً خطأ مخالفاً للناموس. فلا تتجاوز أيها الأخ حينئذ حدود الأدب بغيرة حمقة، صبيانية، وتتوهّم أنها محبة لله، وتجيب الرئيس بغضب، فتنسرق من الميامن وتخطئ من حيث تصيب، بل جاوبه بوداعة وقل: يا أبانا، هذا الأمر الذي تأمرني، هو، على ما أرى، خطيئة لا يمكنني فعلها. وما قلناه فيه الكفاية لإيضاح ما تضمنته هذه الفريضة بأن يطيع الراهب رئيسه في كل شيء دون الخطيئة.
الفريضة الثالثة: وليبالغ في كرامته ومحبته ظاهراً وباطناً
من جملة الحقوق الواجبة للآباء على الأبناء، روحيين كانوا أو جسدانيين، هي الكرامة والمحبة. ولم يكتف القانون بلفظ الكرامة والمحبة كيف ما تفق؛ بل قال: وليبالغ في الكرامة والمحبة. أي أن تكرم وتحب رئيسك بكل قوتك.
وعن هذا الغرض قال أبونا أنطونيوس: يجب ان تحب أباك الروحي أكثر من أبيك الجسداني. والسبب لهذا هو لأن الطاعة لا تتم بدون الكرامة والمحبة للرئيس. وبقدر ما تكون الكرامة والمحبة له، بقدر ذلك تكون الطاعة له. وقد نستدل على ذلك من قول الله تعالى: من يحبني يحفظ وصاياي ومن يحفظ وصاياي ذاك يحبني. وقال القديس السلّمي: إن النفس التي لم ترتبط وتتبجن بحب راعيها وتلاصقه إلى الدم فإنها تعبر مقامها في الدير باطلاً وطاعتها مصنعة منخدعة. هذا عن المحبة.
أما عن الكرامة قال القديس أفرام: أكرم أباك بكل طاقتك. وحكي عن الأب بيمين أنه كان يكرم أخاه الأب أنوب ويحترمه جداً وفي حين الكلام بحضرته كان يصمت ولا يجيب من ذاته إجلالاً له لأنه أكبر منه. وحكي أيضاً عن جملة رهبان كانوا مجتمعين عند أبينا أنطونيوس. فسألهم الأب واحداً فواحداً عن كلمة، وصار كل واحد منهم يقول جوابها، بقدر فهمه. في الآخر وصل سؤال الأب أنطونيوس إلى الأب يوسف فأجابه: لا أعلم معناها. فالتفت الأب أنطونيوس إلى باقي الرهبان وقال لهم: جميعكم ما عرفتم معنى الكلمة غير الأب يوسف وحده، أي أنه ما أراد يظهر ذاته بشيء من المعرفة قدام الأب أنطونيوس. وعمل بهذا الواجب والصواب، إذ لا يوجد في عمل المطيع صواب مثل إحترامه وإكرامه رئيسه.
أرصد تجد الراهب المهتم بإكرام رئيسه هو الناجح في الطاعة. وبالعكس، المتهاون بإكرام رئيسه، هو المنحط في الطاعة. قد جاء في البستان عن أحد الرهبان أنه دخل كعادته قبل النوم يكشف أفكاره لرئيسه. وقبل أن يأخذ صلاته نام الرئيس وكره التلميذ تنبيهه لإحترامه إياه، ولم يشأ أيضاً أن ينصرف بغير صلاته. وبقي على هذا الحال إلى أن ضُرب الناقوس إلى صلاة نصف الليل. فنهض الرئيس ورأى التلميذ ساجداً أمامه فقال له: ما بالك يا ولدي؟ فأجابه: ما هويت أن أنصرف بلا صلاتك وكرهت أن أنبهك. وكان الرئيس قد رأى في الحلم سبعة أكاليل منحدرة على رأس التلميذ، فسأله أيضاً: ماذا كنت تصنع في مدة نصف الليل؟ فأجابه: كان يقاتلني فكري أن أنصرف بغير صلاتك وهزمته سبع مرات. فعلم الرئيس حينئذ أنّ السبعة أكاليل هي السبع غلبات للفكر ومجازاتها من الله. فصلى عليه وصرفه ولم يخبره شيئاً مما رأى. وحكي أيضاً عن تلميذ آخر كانت نفسه تهوى الشهادة وكان يومئذ زمان الإتضهاد وكان يطلب من معلمه أن يسمح له بذلك ولم يكن المعلم يهوى فرقة الأخ. وأخيراً سمح له. فعلم التلميذ أنّ الشيخ سمح بذلك بغير هواه. ولأن التلميذ كان لا يهوى أن يحزن معلمه، ولمحبته له، أجابه: ولو صرت يا أبي فوق الشهداء لما فارقتك. وفي الحال أتاه صوت من السماء يقول: لأنك نيحت أباك، فمع الشهداء أجعل حظك. فلنتأمل من هذه المقولات كم تتعاظم الطاعة والعمال بها من عمل الكرامة والمحبة للرئيس!
الراهب المحب رئيسه والساعي لإكرامه هو الذي يحزن لحزنه ويفرح لفرحه ويحب من يحبه ويهرب ممن لا يكرمه ولا يحبه. واعرف أيضاً ذاتك، لا من هذا فقط، بل أكرم كل من انتسب لرئيسك من أيّ جهة كانت، دون الأمر المضاد مشيئته. قد جاء عن القديس بولس البسيط تلميذ أبينا أنطونيوس أنه أعطي موهبة إخراج الشياطين، وكان لما يسمع الشياطين تشتم معلمه يغتاظ أكثر من سماعه تجاديفهم المريعة كلها.
فهذا هو الزي اللائق بالمطيعين بالحقيقة. ومن لم تحركه سيرة القديسين ونصائحهم إلى إكرام ومحبة رئيسه، فأقلّه ليرتعد من الزجر الإلهي المكتوب في الناموس: ملعون من لا يكرم أباه.
وما قد قلناه فيه الكفاية لإيضاح لزوم المبالغة في محبة الرؤساء وإكرامهم كما رسم القانون..
الفريضة الرابعة: ولا يعقد أمراً إلاّ عن إذنه
كل شيء يفعله الراهب في غياب الرئيس، عند الضرورة، على تقدير الظن أن الرئيس يهوى ذلك، فهو جائز، إلاّ الأمر الذي فيه الربط والعقد. فإن ذاك وحده لا يجوز، ولو شك الراهب أو توهم أن الرئيس يهوى ذلك. والسبب في عدم جواز الوهم هو ربما أنّ الرئيس لا يهوى ذلك فيحصل ترجيع الأمر على الرئيس ممتنعاً أو مستصعباً وتضعف الطاعة.
والذي قلناه يفهم على الأمور الروحية والجسدانية معاً، ولذلك لم يعين القانون في هذا شيئاً مختصاً بالروح أو بالجسد بل قال على الإطلاق: لا يعقد الراهب أمراً، أي لا روحياً، شكل شرط على صلاة وعبادة أو عمل رحمة أو شركة في وردية أو حمل ذخيرة قديس أو خير رهباني غير رهبنتنا أو رهبنتنا دون العبادات المشاعة؛ وبالجملة: أي عمل صالح كان، فلا يجوز للراهب إستعماله بشكل العقد والنذر على نفسه البتة. قال القديس باسيليوس: إنّ الخضوع الحقيقي الكامل هو للذين يتتلمذون لمهديهم ويظهرون هذا، ليس بأن يبتعدوا فقط من الشر، كما يأمرهم، بل الخير أيضاً لا يعملونه دون مشورته وتدبيره. أي لا تقول: إنّ هذا الربط والعقد هو خير والرئيس لا يكره الخير، كما يقول أيضاً القديس إفرام: لا تربط ذاتك بعهد مع الأخ بل لتكن لك إلفة بمخافة الله. أي بمشورة رئيسك يجوز لك أن تأتلف مع غيرك في العبادةو من غير رباط وعقد، لأن هكذا تقتضي مخافة الله عند المطيع بتحقيق.
والذي قلناه على الروحيات مثله نقول أيضاً على الجسدانيات. وشرح ذلك يجيء في باب الفقر، في منع كل عمل يخص البيع والشراء وأمثاله دون مشورة الرئيس. والشرائع العادلة تمنع أيضاً الراهب عن كل أخذ وعطاء من قبل ذاته. ولا تجوز كفالته وضمانته ولا هبته ولا شيء من معاقداته البتة، دون مشورة رئيسه. إذاً هذه الفريضة واجبة التسليم والقبول وهي أن لا يعقد الراهب أمراً إلاّ عن إذن الرئيس.
الفريضة الخامسة: ولا يفحص مدققاً عن تدبيره في أمر الإخوة
أي لا يفحص الراهب عن تدبير رئيسه لا بقوله ولا بفكره. إذ من عادة الخبث والكبرياء أن يجذبا الراهب إلى التفتيش عن هذا. قال: لماذا هذا الأخ مقدم عند الرئيس وذاك مهاب وفلان إنتدب للكهنوت وذاك وكيل وهذا لواحدة من الوظائف متسلّم. ثم يتعاظم هذا الطغيان في عقل الراهب ويتداخله التفتيش على الرئيس نفسه وتدبيره ذاته ويبدأ في أن يفكر ويتكلم: لماذا يصلي الرئيس في هذا المكان ويجلس في ذاك المكان ويأكل هكذا ويلبس ويقدّس هكذا. ومثل هذه الملاحظات التي لا ينتج منها إلا الظنون الغلط وضرر الطاعة. ويلبث المفتش على رئيسه بمنزلة من يلعب بالرماد والشيطان كالريح ينسف ويعمي عينيه. ولذلك نهى الآباء عن هذا الفحص.
منهم القديس نيلوس قال: لا يجب أن يستبحث الراهب عن سياسات رئيسه وتدابيره، بل أن يعمل ما يأمره به فقط. قال القديس باسيليوس: يجب على الراهب أن يطيع رئيسه طاعة الخراف راعيها. أي كما أنّ الغنمة لا تعترض للراعي بشيء غير أنها تتبعه فقط، هكذا الراهب لا يجب أن يعترض: لمَ هذا ولأي سبب ذاك. كما أننا لم نسمع الرسل أنهم إعترضوا للرب في تدبيره ولا قالوا له لماذا عظّمت بطرس ولماذا ذهبت بثلاثة أنفار منا فقط إلى طور طابور ولم تأخذنا، ولماذا سلّمت يهوذا النفقة. وقد أخبرنا القديس السلّمي عن رئيس دير التوبة أنه كان يجلس عند المساء على كرسي ويجلس أمامه رهبانه يسمعون تعليمه وبعد التعليم قبل أن يصرفهم كان يأمر بعضهم بقراءة بعض مزامير وغيرهم بدرس الكتب وغيرهم بصلوات معينة وآخرين يحد لهم سجدات وغيرهم يأمرهم بالصيام والبعض يأمرهم أن يناموا جلوساً، والكلّ كانوا يستمعون كلامه كأنه من فم الله من غير أن يتعارضوه أو يقولوا أو يفكروا في أمر تدبيره شيئاً.
وإن نحن إستقصينا معنى الفحص عن تدبير الرئيس فلا نجده إلاّ شوقاً إلى الرئاسة وكرهاً للطاعة. لأن كيف يتجه للمطيع الذي محله ومعناه طرح مشيئته وعمل مشيئة رئيسه، إن شاء طرح مشيئة رئيسه وأن يعمل مشيئة نفسه. لأن هذه هي نتيجة الفحص عن تدبير الرئيس، كون الرئيس لا يشاء أن يعرّفك تدبيره وأنت تشاء أن تعرفه وتفحص عنه مدققاً. ولشوقك معرفة ذلك تجذب غيرك معك بخديعتك إياه ليستقصي أوهام ومقاصد الرئيس. فكيف الذي هذا المعنى معناه لا يكون مشتاقاً إلى الرئاسة والتدبير.
ومن كان كذلك كم يكون تلف طاعته! قال القديس جيرونيموس: إحذر من أن تفحص عن أوامر رؤسائك: لماذا أمروا بكذا، أو تحكم: بأنّ الأليق لو فعلوا كذا. لأن هذا التفتيش هو لرتبة الرؤساء لا للمرؤوسين. وهذا كان عمل الشقي يهوذا الذي أتلف طاعة معلمه ومعلمه معاً. قال لِمَ أُتلف هذا الطيب؟ أو ما كان الأوفق أن يباع ويدفع ثمنه للمساكين؟ والإبن الكبير، أخ الإبن الشاطر، تذمّر على أبيه لذبحه العجل المسمّن لأخيه، ولأنه لم يذبح له جدياً واحداً.
قال القديس السلّمي: إن المفتشين عن غوامض الأحكام هم في سفينة تشامخ الظن سائرين. وقال أيضاً: رأيت إثنين يتخاصمان لدى قاضٍ وافرة حكمته. فسامح الظالم لأجل نقص فضيلته، وجار في الحكم على المظلوم، لأنه كان قوياً في الفضيلة، وصرفهما. ثم قال لكل منهما بمعزل على إنفراده ما يلزمه، وعرّفه حاله. تأمّل يا هذا كم تعثر ها هنا أرجل المفتشين على تدابير الرؤساء وقس على هذا.
إحذر أيها الأخ لئلا يجذبك الشيطان إلى هذا الطغيان بحجة الشفقة على الأخ المظنون منك أنه مظلوم. فإن كنت تقول أنك ترحم المحزون خاطبه بما يعزيه بخوف الله ولا توسوس لأفكاره بما يزيده تعباً وخطأ عظيماً.
أتشاء أيها المطيع أن تعرف كم هو عظم خطيئة من يفحص على تدابير الرؤساء؟ إسمع ماذا يقول القديس السلّمي. قال: متى أهجس لك فكرك أن تفحص عن رئيسك أو توجب اللوم عليه فاطفر من هذا كما تطفر من فكر الزناء. أي إنّ الخطأ فيه عظيم جداً.
ولا تقل لي إنّي أفحص لأعرف فقط، لا لأثلم وأدين. فأجيبك إن الخائن في القليل هو خائن أيضاً في الكثير. فإن كنت لا تهاب رئيسك في فعلك الفحص عن أحواله وتدبيره المناقض مشيئته، فأنت أيضاً لا تهابه في ثلبك تدبيره. فإن آثرت أن تحقق عندي عدم ثلبك تدبيره فارجع عن فحصك تدبيره.
وما أكثر الضرر اللاحق بإخوتك من فحصك تدبير رئيسك. رأيت راهباً قد فحص عن تدبير رئيسه أحد الأخوة، واستدل بمكره، على حال الأخ؛ فسبب له حزناً عظيماً، إذ توهّم ذاك بأن الرئيس أباح سره للراهب المفتش، وعزم على أن، فيما بعد، لا يكشف أفكاره لرئيسه أبداً. فالذي هذا عمله في الدير الجامع، لا فرق بينه وبين الشيطان البتة؛ لأن الشيطان لا يجتهد على ضرر الرهبان بشيء مثلما أن يمانعهم عن كشف أفكارهم لرؤسائهم ويفتن بينهم، كما يتضح ذلك في الفريضة الآتية. إذاً جيد هو لعمل الطاعة أن لا نفحص عن تدابير رئيسنا كما رسم القانون.
الفريضة السادسة: وليطلعه على جميع تصرفاته وما يعرض له من صالح وطالح
واجب هو على الراهب أن يطلع رئيسه لا على جميع تصرفاته فقط، أي عوائده وأخلاقه وكيفية عزمه، بل أيضاً على ما يعرض له من صالح وطالح، أي من فضائل ورذائل تعرض له إتفاقاً. وهذا الكشف يجب أن يكون بتمام الكمية والكيفية. أي تكشف أفكارك لرئيسك كما هي وكم هي ولأجل أي غرض هي. فمتى ما كان الكشف ناقصاً عن هذه الثلاث صفات فهو غير تام
وليكن غرضك بهذا العمل غرض راهب. أي لا تقصد أن تكشف أفكارك على جهة الكشف فقط، بشكل أنها سيرة الأخوة هي. ولا أيضاً لخوفك من الرئيس، لئلا يبغضك ويحتقرك؛ ولا لكيما تعظم في عين الأخوة والرئيس، بشكل أنك راهب عمال. بل ليكن غرضك في ذلك أن تستمد علاجاً لأوجاعك وغفراناً لزلاتك وقمعاً لآلامك ونموّاً وإقبالاً لأعمالك الروحية، موقناً بكلية نفسك أن، من غير إعلامك الرئيس بأحوالك الصالحة والطالحة، لا تقدر البتة على الخلاص، كما يقول القديس باسيليوس: ينبغي للرهبان بأن يظهروا لرئيسهم كل طاعة ويقنعوا عقولهم بأنهم لا يستطيعون أن يتعلموا التعليم الذي تقدموا إليه إلاّ منه وبإستماعهم له. فهذا هو الغرض الرهباني الذي يجب خصوصاً أن يكون في الراهب، في كشفه أفكاره لرؤسائه. وهذا هو من نوع إفراز كشف الأفكار الواجب على الذي يكشف أفكاره.
أما بيان وجوب هذا الكشف، فقد جاء كثيراً في وصايا الآباء. منه قول أبينا أنطونيوس: يجب على الراهب أن لا يخطو خطوة ولا يتحرك حركة إلاّ بعلم رئيسه لتنفعل أفعاله كلها بالطاعة. وقال القديس باسيليوس: كل واحد من الذين تحت يد الرئيس. إذا كان له إهتمام أن يظهر نموّ الفضيلة كما ينبغي للدعوة، ويستحق الحياة التي وعد بها ربنا يسوع المسيح، يجب عليه أن لا يخفي شيئاً من أفكاره، بل يظهرها ويكشف خفايا قلبه للذي إؤتمن عليه. وقال الأب كسيانوس: مثلما أنّ الحية وحشرات الأرض متى ما كشف عنها الغطاء وصارت في الضوء هربت، هكذا الأفكار والأعمال القبيحة، من قبل تواضع الكشف، تبطل. وقال القديس السلّمي: مثلما أن البيض الذي يتخبى في الزبل تعيش أفراخه، كذلك الأفكار التي لا تظهر، تخرج إلى الأفعال.
وحكي عن الأب سرافيون أنه في إيتداء رهبنته كان لما يضع المائدة يسرق منها بقسماطة؛ ودام في هذا العمل زماناً، وصار مغلوباً للعادة وكان يستحي أن يكشف هذا الزلل لمعلمه. فاتفق أنّ بعض الرهبان زاروا معلمه وطلبوا منه كلام منفعة. فأخذ يعلمهم ويقول لهم: لا شيء يفرح الشياطين ويضر الراهب مثل أن يخفي أفكاره عن أبهاته. فلما سمع الأب سرافيون كلام رئيسه ظن أن الله كشف له عمله. فرجع إلى ذاته وندم على ما كان يفعل. ولفرط ندامته أخرج البقسماطة من عبه وطرح ذاته على قدمي رئيسه طالباً الغفران. فقال له رئيسه: يا ولدي، من غير أن أصلّي عليك، قد أعتقك الرب، من أجل إفرازك بإقرارك وكشف زللك. ولما كان الشيخ يتكلم بهذا خرج من عب الأب سرافيون مثل لهيب النار وإمتلأ منه البيت رائحة منتنة. فقال له الشيخ: هوذا قد حقق لك الله قولي، ورأيت إبتعاد الشيطان منك عياناً. ومنذ الآن ما عاد يرجع إليك بسبب فضحك إياه وهكذا صار.
وحكي أيضاً عن الأب مكاريوس، تلميذ أبينا أنطونيوس، أنه رأى الشيطان مرة فسأله كيف حاله مع رهبانه. فأجابه أنه بحالة تعيسة، قال: لأنّهم يكشفون أفكارهم جميعها لرئيسهم.
No Result
View All Result
Discussion about this post