المصباح الرهباني
الباب الثاني: في العفة
– يلزمنا قبل الكلام في العفة، أي الطهارة، أن نتكلم أولاً في حركات روح الزناء، لأن معرفتها تساعدنا على فهم معاني الطهارة.
– إعلم أن القديس السلّمي وغيره من الآباء قد وضعوا رسوماً وحدوداً لأنواع إنفعالات عقلنا للذّة النجسة، وأجمعوا جملتها بالعدد سبعة وهي: الحركة الأولى الساذجة، المقارنة، الصراع، التنازل، السبي، القبول الكرهي والقبول الإختياري.
شرح معاني الإنفعالات السبع
إعلم أن الشبح الفسقي، أي فكرة اللذة النجسة، قد يعرض على العقل، أما كعابر الطريق عبوراً ساذجاً، أما ينطرح عليه فيقترن به العقل بفعل التعقل والمناحات: فالأول هو الحركة الأولى الساذجة والثاني، أما أن يكون التعقل للشبح بسيطاً من غير ميل نحو اللذة، سواء كان الحس باللذة موجوداً أو غير موجود، أما يكون مع الميل نحو اللذة: فالأول هو المقارنة والثاني، أما أن يكون العقل، مع ما يحس بالميل نحو اللذة يسرع بالإعراض عنها حالاً. أما أن يثبت يناجيها مع الميل نحوها: فالأول هو الصراع والثاني، أما أن تكون المناجاة التي مع الميل إلى اللذة بجزء من العقل، أما العقل كله: فالأول هو التنازل والثاني، أما أن يكون العقل وقت الميل والمناجاة للذّة غير قادر على الإرتجاع عن ذلك، إمّا قادراً ولم ترجع إختياراً: فالأول هو السبي والثاني، إمّا أن يكون الإختيار بعدم الرجوع عن مناجاة اللّذة من قبل صعوبة العادة، أما من غير صعوبة العادة: فالأول هو القبول الكرهي المعروف عند السلّمي بالداء والثاني هو القبول الإختياري.
أما الحكم على هذه الإنفعالات السبع من حيث الخطيئة فقال القديس السلّمي ومعه علماء الذمة: إن القبول الإختياري والكرهي هما خطيئة ممية. والسبي خطأ عرضي، يعظم ويصغر، بالنظر إلى رتبة فاعله وبالنظر إلى المكان. ومثله أيضاً التنازل. أما الصراع والمقارنة والحركة الأولى الساذجة فمن ذاتها ليست بخطيئة البتة. فينتج من ذلك أن مجموع إنفعالات العقل ينقسم قسمين:
الأول أن العقل ينفعل من أربع إنفعالات تنجسه وهي التنازل والسبي والقبول الكرهي والقبول الإختياري.
والثاني أن العقل ينفعل بثلاث إنفعالات لا تنجسه وهي الصراع والمقارنة والحركة الأولى الساذجة.
في تعريف الطهارة وأقسامها
الطهارة عند آبائنا القديسين هي الإماتة عن حركات اللذة بالفكر والجسم. وهي مرتبة على قوله تعالى: إن شئت أن تكون كاملاً بِع ما لك وأعطه للمساكين وإحمل صليبك وإتبعني. فحمل الصليب معناه حمل نير الطهارة. ولذلك صارت الطهارة في ذاتيات الكمال، ومن يهينها يخطئ خطيئتين: ضد قوله لا تزن وضد نذر الكمال. وهي في ذاتها صنفان، أي طهارة نفسانية وطهارة جسدانية. فالطهارة النفسانية هي موت الأفكار النجسة، والطهارة الجسدانية هي موت حركات الجسم النجسة. والطهارتان هما الطهارة الواحدة الحقيقية. ويتقدم وجود طهارة النفس على طهارة الجسم، تقدم العلة على المعلول، كما أوضح ذلك القديس السلّمي، في تعريفه الطهارة الكاملة حيث قال: أنها موت الجسم من قبل فكر ميت عن الخطأ. وهي، بهذا الحد، تتميز من الطهارة الطبيعية كالتي للشيخ الهرم والأطفال، كما هو واضح. وقد جاء بذكر هذا المعنى أيضاً القديس السلّمي حيث قال: ليس من حفظ طين جسمه ناجياً من فساد ذاك طاهر، بل طاهر من قد أخضع لنفسه أعضاء جسده إخضاعاً تاماً.
إذاً قد إتضح أن طهارة النفس تتقدم طهارة الجسم وتكون علة لها وكلاهما معاً هما الطهارة الحقيقية الواحدة.
وهذه قد قسمها الآباء إلى درجات متعددة، وإختلفوا في ذلك. لكن بعضهم قد قسمها إلى ثلاث درجات:
فالدرجة الأولى هي الإماتة عن اللذة بتعب والدرجة الثانية هي الإماتة عن اللذة بقليل من التعب والدرجة الثالثة هي الإماتة عن اللذة من دون حس بالتعب.
وصحة هذه القسمة تستبين بالقياس إلى إنفعالات العقل السابق ذكرها. وذلك أن الطهارة، من حيث هي فضيلة، تقتضي أن تكون برية من التنازل والسبي والقبول الكرهي والإختياري. إذاً، بالضرورة، هي في حال الصراع والمقارنة والحركة الأولى الساذجة. وبحسب المناسبة إن إبتداءها، أي الدرجة الأولى، يُنسب للصراع ووسطها، أي الدرجة الثانية، ينسب للمقارنة، وتمامها، أي الدرجة الثالثة، ينسب للحركة الأولى الساذجة.
ولنتكلم في واحدة فواحدة منها.
الدرجة الأولى : الإماتة عن اللذة بتعب
فالإماتة عن اللذة بتعب تحتوي على معنيين: الأول طرح الأفكار النجسة والثاني قطع الحركات البهيمية. والكلام أولاً في:
طرح الأفكار النجسة:
إعلم أن طرح الفكر هو أن لا نقبل بدء الفكر ولا ننسبي له ولا نتنازل معه بل ندفعه ونمنعه عن عقلنا من أول مبادئه، كما قال الأب كسيانوس، في تفسيره الوصية القديمة التي أمرت الإنسان بسحق رأس الحية. قال: رأس الحية هو رأس الفكر الذي يجب أن نسحقه ولا ندعه يدخل في قلبنا لئلا بواسطته يدخل باقي جسد الخطيئة. وقال أيضاً مفسراً الجملة الداودية القائلة في أطفال بابل: الطوبى لمن يأخذهم ويضرب بهم الصخرة. قال: أطفال بابل هم رؤوس الأفكار الواجب ضربهم وقتلهم بالصخرة، أي بالتأمل الروحاني، قبل أن يكبروا فيؤذونا، أي نطرحهم قبل أن ننطرح لهم.
وقد أورد الأب زينن في هذا المعنى مثلاً مناسباً مفيداً حين سأله أحد الإخوة قائلاً: كيف حال الزنا عندك يا أبانا؟ فأجابه الشيخ: هو يقرع الباب وينصرف. فسأله أيضاً الأخ: وما معنى يقرع الباب وينصرف؟ أجابه الشيخ: إفرض أنه أتاك ذكر إمرأة. فتقول أنت حينئذ: واهاً! وما تخضع وتطرحه عن قلبك. أما الشباب فيخضعون. ومعنى كلامه أن ذكر الإمرأة، لما يدنو من حس القلب المعبر عنه بالباب، يقرع، أي يعرض باللذة. فإذا كان القلب طاهراً يهتف حالاً كالمنتبه على اللص ويقول: واهاً! وهي لفظة التوجع والشكوى. أي لا يقبل اللذة ولا يتنازل معها أصلاً. قال: أما الشباب فيخضعون. فالشباب يريد بهم غير الأطهار، وخضوعهم هو أنهم لا يطرحون بدء الفكر ولا يصارعونه عند قيامه مقابلهم، بل يقبلونه أو يَنسَبُون له أو يتنازلون معه. هذا ما قلناه في طرح الأفكار، المعنى الأول من الإماتة عن اللذة.
قطع الحركات البهيمية:
أما المعنى الثاني، الذي هو قطع الحركات البهيمية الفسقية، فهو عدم التنازل مع هيجان جسمنا، هذا الوحش، وعدم الخضوع لفعل السيلان النجس الفسقي، إذ هي عادة غير الأطهار أن يتنجسوا بصنوف الحركات والإستفراغات الممقوتة الكرهة، في حالة اليقظة والنوم معاً. أما المبتدئ بالطهارة صاحب هذه الدرجة، فهو يستعد دائماً لقطع هذه الحركات، من أول إبتدائها، بصنوف التأملات الروحية والحركات الموافقة الطهارة، الطاردة حس اللذة النجسة. وهذا، من قبل جهاده وتحفظه في النهار، يتحفظ أيضاً في الليل. وإن عرض له من حسد الشياطين منام نجس، فيقهره ويهزمه كما في اليقظة، ولا ينغلب له البتة.
وقد جاء بمثل ذلك عن القديس فرنسيس اليسوعي أنه بُلي مرة بمنام رديء. ولشدّة مقاومته له، لما إنتبه، بصق دماً. وكثير من الرهبان المجاهدين سمعهم الغير يخاصمون هذا الألم النجس في نومهم كأنهم في اليقظة. وفي هذا المعنى قال الأب كسيانوس: إن قدس النهار يهيّئ قدس الليل، أي المتحفظ نهاراً، ينحفظ ليلاً ولا تضره الأحلامات النجسة البتة. وهذا المعنى قد أكده لنا القديس السلّمي بأبلغ التأكيد حيث قال: إن إبتداء الطهارة فكر قد عدم أن يخضع لهواه وإستفرغات حادثة في أوقات خائبة من أشباح. أي إن اتّفق بعض الأحيان وعرض لصاحب الدرجة الأولى السيلان الليلي، فلا يكون إلاّ خائباً من الخيالات الفسقية، بحركة طبيعية فقط ساذجة فاقدة الحس. وهذا هو قطع الحركات البهيمية، المعنى الثاني من الإماتة عن اللذة.
وجملة ما قلناه هو إن الإماتة عن اللذة معناها قطع الأفكار والحركات النجسة معاً. وهذا القطع، حسب الحد السابق لهذه الدرجة، لا يكون إلاّ بتعب، أي لا يكمل إلاّ بالصراع والمحاربة المتعبة الموجعة، كما أوضح لنا ذلك القديس السلّمي، حيث قال: وأناس طوّبوا المولودين بالطبع خصياناً من طريق أنهم قد فُدوا من إغتصاب جسمهم، فطوبت أنّ أنا الخصيان الذين من عادتهم كل يوم أن يقطعوا ذواتهم بفكرهم، كمن يقطع بالسكين أطرافهم؛ أي مقدار التوجع الحاصل لأهل هذه الدرجة، في طرحهم أفكارهم وقطعهم حركاتهم، هو مقدار الوجع الحاصل لمن تقطع منه يده أو رجله. وقال أيضاً في مقالته الأولى: إننا نحتاج، على الحقيقة، تعباً متعباً ومرارة كثيرة غير ملحوظة، لا سيما نحن الجزيلة ونيتنا وتضجيعنا، إلى أن نجعل عقلنا الكلب، الواد القصابين المحب النتانة، محباً للعفة.
وقد نتحقق أيضاً هذا التعب من تأملنا الأطهار وأعمالهم وأفعال صراعهم، كيف بلغ من بعضهم أن يطرحوا ذواتهم في الثلج وفي النار، وبعضهم نزعوا ثيابهم وتقلبوا فوق الشوك ومنهم من يصرخ في محاربته بأعلى صوته كمن زاغ عقله أو كمن يطرد عدواً ملحوظاً مقابله، ومنهم من يلطم ذاته بيده وبالعصي والحبال ويشتمون عدوهم وذواتهم أنواع الشتم والمسبات. أما صعوبة صومهم وعطشهم وسهرهم وسجداتهم وخدمتهم وتذللهم ونومهم وإبتهالهم إلى الرب وباقي تخشعاتهم، فمن يقدر أن يصفها أو يدركها أو يصدقها بالتمام! وبعضها معروفة عند الكثيرين لا يلزمنا طول شرحها، إنما تأملنا فيها فقط يحقق لنا أن طرح الأفكار والحركات، في المبتدئ بالطهارة، لا يكون إلاّ بتعب، كما تأمل بذلك القديس السلّمي، وصاح على طبيعته كالمتحير المتلاوم وقال: قولي لي يا طبيعتي كيف أفلت من خطرك، كيف أقهر إغتصابك، كيف أقهر شيئاً من شأني أن أحبه بالطبع، كيف أبطل من هو قايم معي، كيف قد صارت عدو ذاتي وصديقها؟
وقد نستدل أيضاً على صعوبة هذه الدرجة من عبوسة وجوه أصحابها وتغربهم من الضحك وقطعهم الدالة وأفعال التودد وكل سبب يؤذي الطهارة. ويوسمون أيضاً بحدة الخلق والهرب من الناس. فإذا داموا في مثل هذه الأتعاب صابرين مبتهلين للرب مع النبي المرتل: أنظر إلى تواضعي وتعبي وارحمني، فهو تعالى يرحمهم لا شك وينقلهم من تعب هذه الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية، وهي الإماتة عن اللذة بقليل من التعب.
الدرجة الثانية : الإماتة عن اللذة بقليل من التعب
قد مضى الشرح في معنى الإماتة عن اللذة في الدرجة السابقة. أما معنى القليل من التعب فهو السهولة في عمل ما يناسب الطهارة وقهر اللذة. وهذه السهولة تُكتسب من ممارسة العمل وتسمى ملكة، ينعم الله بها على العاملين المتعوبين من إماتتهم عن اللذة. ولذلك يوجدون أكثر نشاطاً وأعظم فتكاً باللذة من الأولين. قال القديس السلّمي: إن الأولين يشبهون نجم الصبح والثانيين يماثلون البدر والثالثين يضاهون الشمس اللامعة. وكلهم في سماء الطهارة يسعون. فقد صحّ إذاً القول بأن الثانيين أكثر نشاطاً من الأوّلين وأشرق لميعاً. وقد نستدل أيضاً على سرعة جريهم وعظم نشاطهم من محاربتهم الأفكار بخلاف الأولين الذين خاصتهم الإبتهال لأجل الأفكار.
وإن أردنا نحن أن نستقصي ما معنى عمل هؤلاء المتوسطين في الطهارة، فمن الضد نفهم الضد. وذلك أن القبول الكرهي، المعروف عند السلّمي بالداء السابق ذكره في إفتتاح هذا الباب، قال فيه القديس المذكور: أنه ألم يعشش بإنقسام عزم في زمن طويل، وحاله حال من يسوقها فيما بعد إلى ملكته بالعادة، فتبادر مذ ذاك إليه بإختيارها على جهة المناسبة له. وهكذا بالتمام نقول نحن أيضاً في معنى الدرجة الثانية من الطهارة: أنها عفة تستقر في فاعلها بصحة عزم في زمن طويل، وحالها حال من تسوقه فيما بعد إلى ملكتها بالعادة فيبادر مذ ذاك إليها بإختياره على جهة المناسبة لها. ومضمون هذا القول أن هذه الدرجة هي كالأولى نوعاً، أي أن صاحبها يدافع الأفكار ويمانع الحركات ويلازم النسك وأنواع الإماتة والعبادات، لكنه لا يصارع كالأولين بل بسهولة المقارنة يفتكر باللذة ويهزم الألم بمنزلة من لم يحس بحركة الزناء في اليقظة والنوم معاً.
وقد أوضح ذلك القديس السلّمي حيث قال: وسط الطهارة هو حركات جسم طبيعية متكوّنة من كثرة أطعمة فقط عارية من شبح فسقي ومخلصة من سيلان مَني. وقال أيضاً في المقالة نفسها: إن الأول قيّد الزناء من جهاداته والثاني قيده من تواضعه والثالث قيده بإستعلان إلهي. فمن هذه الأقوال نفهم أن أفكار الزناء وحركاته البهيمية موجودة هي في هذه الدرجة لكنها ضعيفة جداً والعمال ظافر بها بسهولة كأنه غير معتن بها، لكن مع تحفظه منها، كما جاء في البستان عن راهب سأل الشيخ عن قتال الزناء فأجابه الشيخ: هذا شيء ما قوتلت به قط. فحزن الأخ من هذا الجواب وذهب إشتكى لشيخ آخر وقال: إني قلت لفلان شيخ عن قتال الزناء فأجابني بما يفوق الطبيعة وشككت في كلامه. فقال له الشيخ: إن الأب القديس لا يكلمك جزافاً إرجع إليه وإستغفر منه واطلب منه أن يعرفك قوة الكلام. فرجع الأخ إليه وصنع كما أوصاه الشيخ، وسأل الأب ما معنى كلامه: أنه لم يقاتل بالزناء قط. فأجابه القديس قائلاً: أعلمك يا ولدي أني منذ ترهبت ما شبعت خبزاً ولا رويت ماء ولا تلذذت برقاد. وقد أشغلتني همة هذه الأعمال جداً فما أحسست بهذا القتال الذي ذكرته. إنتهى الخبر.
والظاهر لنا أن هذا الأب كان في الدرجة الثانية من الطهارة لأن تعبه هو السبب في قهره روح الزناء قهراً هكذا بليغاً حتى ما عاد يحس به، بخلاف المبتدئ بالطهارة، القاهر اللذة بالمصارعة الدائمة، وبخلاف الكامل القاهر اللذة بالإزدراء بها من غير إعتناء بالتعب، كما يجيء بيانه. وإن نحن تأملنا نجد في هؤلاء المتوسطين أشياء من تعب المبتدئين قليلة وهو عمل طرح الأفكار والإبتهال لأجلها ومجاهدة الحركات البهيمية، وأشياء من عمل الكاملين وهي محاربة الأفكار والإزدراء بها وإنقطاع السيلان عنهم. وقد يرتقون على المبتدئين بإنقطاع السيلان وينحطون عن الكاملين بالحركات البهيمية الخالية من اللذة، الشوكة الجارحة رسول الأمم.
وجملة الكلام أن عدوهم قد حصل في ضيق شديد تحت أغلال ثقيلة وقارب الموت لكنه لم يمت بالتمام. فإن دام العمال في سعيه الحميد حريصاً نشيطاً، فيقتل الله عدوه بالتمام وينقله من مقارنة اللذة المختصة بهذه الدرجة المتعبة قليلاً، إلى راحة الدرجة الثالثة.
الدرجة الثالثة : الإماتة عن اللذة بغير تعب
الدرجة الثالثة هي الإماتة عن اللذة من غير حس بتعب، لأن التعب مختص بعمل الإماتة غير الكاملة، ومن مات قام بالتمام وإنعتق من التعب، كما قال القديس السلّمي عن أحد الآباء الذي لما نظر وجه الزانية إرتقى بعقله إلى سموّ محبة الله الخالق وأهمل من عينيه قطرات الدموع. قال القديس المذكور: أن هذا الأب قد قام قبل القيامة المشاعة ولبس عدم الفساد، أي لم يعد يرى فساد اللذّة وتعبها، بل بقي سعيه بعمل الروحانيين، أي راحتهم وإقبالهم فيما هو لغير هذه الطبيعة الممتزجة بالثقل والوسخ، لأن لهم أيضاً عقل المسيح بإستعلان وإستشراق إلهي، ومنه وبه صاروا آلهة الشياطين ومرهوبين لديهم ومزدرين بأفكارهم ومتهاونين بهم وبكلما لروح اللذة كأنه لا شيء. وهذا هو حال الحركة الأولى الساذجة، أي أن الأفكار الرديئة لا تقوى على الدنو منهم، بل تمر عليهم كعار الطريق فقط. ويتهاونون بها على جهة الإزدراء بها.
وقد أثبت هذا القديس السلّمي حيث قال: إن المتوسطين بالطهارة قد يستعملون أحياناً الدعاء على الأفكار مثل الأولين إلاّ أنّ أصحاب الدرجة الثالثة قد بصقوا على الشياطين وتهاونوا بهم، كما حكي عن أبينا أنطونيوس، في بدء إرتقائه إلى هذه الدرجة، أنه عاين روح الزناء بشكل صبي حبشي كره المنظر جداً. ولما سأله من أنت وسمع منه أنه روح اللذة النجسة قال له الأب: منذ الآن لا أعتبرك شيئاً أصلاً. وهكذا قيل عن الأب موسى الحبشي بعد إرتقائه إلى تمام الطهارة، أنه كان يحتقر الشياطين كالذباب.
ولذلك يقال في هؤلاء السعداء أنهم يعاينون النساء كالرجال بالسواء، وعندهم الجميل والقبيح بمنزلة واحدة، ويتكلمون بما يخص اللذة كمن يتكلم بالتجارة والحجارة، ويختلون بالزواني فيجتذبونهن إلى التوبة. وإذا تعروا لا يعرفون خجل العري، وإذا لامسوا البشر فكمن يلامس الشجر. وبالجملة أنهم، كما قال الرسول: ماتوا بالمسيح، وبأوجاعه، وقاموا معه بمجده.
أما أعمالهم بلوازم العيشة، فلم يكن لهم بها الإهتمام إلاّ بما لا بدّ منه فقط. لكن لا لغرض قهر الذات واللذات، كغير الكاملين، بل لزهدهم بكلما هو أسفل، وشدة شوقهم إلى ما فوق، وكما أننا لا نهتم، عند طلوع الشمس، بالسراج والمصابيح هكذا، ولا هؤلاء، يهتمون، لحال وثيق طهرهم، بشيء من عمل قهر الذات واللذات، لأن هذه الصخور للأرانب، أما الأيلة، فلها الجبال العالية. والأليق أن نقول: إن هذه الشمس، هي من مطلع ذاك الفجر، أي من عمل تحفظهم وتواضعهم، بلغوا إلى كمال الطهارة وامتلكوها، كما قال المختبر ما قال بالعمل، أي القديس السلّمي. قال: أني رأيت المنافق يتعالى فيّ هائماً مثل أرز لبنان، ثم جزت به بضبطي هواي، أي بتحفظي وإمساكي، وإذ غصبه ليس كما كان أولاً. وطلبته لما ذللت فكري، فلم يوجد عندي مكانه أو أثره.
فهذا هو تمام الطهارة اللازم كل راهب قد نذر الطهارة، كما هو معلوم، ولأجله وضع القانون الوسائط المتضمنة التحفظ والتواضع، المساعدة على البلوغ إلى هذا التمام، وهي الفرائض الآتي ذكرها وعددها خمس.
الفريضة الأولى: يجب على الراهب قمع الحواس مطلقاً
قمع الحواس معناه التحفظ بالحواس وكفّها عن ملامسة ما يؤذي الطهارة. والغرض بالحواس ههنا، الظاهرة الخارجة لا الباطنة؛ لأن حفظ الحواس الباطنة قد مرّ ذكره في تعريف الطهارة، وهو نفس الطهارة. والغرض ههنا، الوسائط الموصلة إلى الطهارة لا ذات الطهارة، أي التحفظ بحواسنا الخارجة فتنحفظ الحواس الباطنة.
وقد مدح الآباء القديسون هذا العمل كثيراً. منهم القديس إسحق قال: إن المساعدة في التحفظ هي أفضل من المساعدة بالعمل، أي التحفظ بالحواس هو أنفع من كل عمل صالح مع إطلاق الحواس. وقال جمهور الآباء: إن نفسنا تتشكل بأعمال جسدها، أي تتحفظ بتحفظه وتنحل بإنحلاله. وقالوا أيضاً: إن العمل الجسداني يتقدم الروحاني كتقدم العلة على معلولها وكتقدم الصلاة اللفظية على العقلية والخروج من العالم بالجسم على الخروج من العالم بالفكر. وهكذا يتقدم قمع الحواس الخارجة على الباطنة. وقال مار إسحق قيامة الحواس الخارجة هي موت العقل؛ وحياة العقل، موت الحواس. وقال بعض الآباء: إنحلال الحواس دليل على عدم الفضائل كلها. ومن هذه الشواهد نكتفي فهماً وإقناعاً بأن حفظ الحواس هو لازم ضروري لكل راهب راغب كمال الطهارة.
والحواس بالعدد خمس: اللمس، النظر، السمع، الشم، الذوق. فلنتكلم في واحدة فواحدة منها. فأولاً:
– الحاسة الأولى وهي اللمس
اللمس أكثر تأثيراً من باقي الحواس وأكثف حساً. والسلوك في تحفظه يجب أن يكون بحرص زائد.
قال القديس السلّمي: إحذر من لمس طبيعتك وما ليس لطبيعتك. أي إحذر لا لمس الناس فقط، بل أيضاً البهائم والكلاب والقطاط وكل حيوان على الإطلاق، إذ اللذة من عادتها، بعض الأحيان، أن تتحرك من لمس هذه وملاعبتها. بل ربما نحس أحياناً بالضرر من لمسنا الأشياء الناعمة الليّنة، العديمة النفس، كالكسوة والفرش اللينة وما شاكلها كما يقول القديس أفرام: إن الفراش اللين يضرم الشهوة إضراماً ليس بيسير.
إحذر أيضاً من ملامسة الأهل والأقارب، كون الشيطان يخدعنا بحجة النسب، كأن الأمر ليس هو شيئاً. لكن نحن يجب علينا أن نتذكر ذاك الأب الكبير، الذي لف المنديل على يده، عندما عزم أن يدفعها لأمه العجوز، وقت عبورهما النهر. وكذلك نحذر الخديعة من لمس الأطفال وتقبيلهم، بقولنا أنهم أطفال. وكذلك لمسنا وخدمتنا المرضى يجب أن تكون بخوف الله وإفراز. ولنذكر ما يقول القديس السلّمي. قال: رأيت قوماً يصلون على أصدقائهم ويدعون لهم من صميم أنفسهم. وإذ حركهم إلى ذلك الزناء، ظنوا أنهم يكملون ذكر الحب وتمكينه. إنتهى قول القديس.
فإذا كانت الصلاة تُصنع للمريض بالغش، فكم بالحري الخدمة واللوازم الضرورية! وهذه قد أوصى بها القديس أفرام وقال: إن أنت أكملت خدمة ودهنت العليل بزيت، فاحفظ ناظريك ويديك ولسانك لئلا تطفر خارج حدود العفة. ضع يديك على أعضاء قريبك بخوف ورعب، كمن يلمس الأشياء القدسية نفسها. إنتهى قول القديس.
وجميع ما قلناه من لمسنا غيرنا، يفهم أيضاً لمس غيرنا لنا بالسواء. أما القول في لمسنا ذواتنا، وبالأكثر في الأماكن التي يستحى منها، فيجب الحرص في ذلك كثيراً لأن هذا، بغير الضرورة، لا يخلو من الضرورة. وجيد هو أن يفتكر الراهب ها هنا في خبر العامود الساقط. ومن حاز عقلاً يدرك فليدرك.
– الحاسة الثانية وهي النظر
قال القديس السلّمي: عظيم المحل من يلبث، عند لمسه ناجياً من أسقام عزمه. وأعظم منه من بقي عديماً أن يوجد جريحاً من نظره. ومعنى كلامه: إن وجود من لم ينجرح قط من نظره هو أعظم وأعجب من الذي بلغ طهارة اللمس. والسبب في ذلك هو لأن سرعة إنفعال عقلنا من نظرنا لا تكاد تلحق أو تدرك. ومن عادة الناس أن يقايسوا الشيء السريع بالنظر، بقولهم: سريع كلمح النظر، كون النظر يجرح الموجوع قبل أن يدري ولا يعرفه إلاّ وقد مرّ وفات وخرق بلطافته حشاشة القلب وأقصاه. ومن أجل ذلك يحذرنا الآباء القديسون منه كثيراً. وهكذا سعوا قدامنا، كما جاء عن بعض الآباء، أنه كان له تلميذ وبقي يخدمه سنتين، ولم ينظر الشيخ وجهه أبداً ولا عرفه أهو جميل الصورة أم قبيح الصورة. وقيل عن أحد الأساقفة، أنه مكث يسمع إعتراف النساء نحو ثلاثين سنة ولم ينظر وجه إحدهنّ قط، سوى واحدة نظر إليها، ليعرف عجوز هي أو لا، حين دعته ضرورة الإعتراف إلى ذلك.
وهذا التحفظ ضروري هو لدفع اللذة وللتبرّؤ من دنسها، كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: أنه لا يحل النظر في الشيء المحرم إشتهاؤه؛ أي لا يحل لك أيها الراهب أن تنظر إلى وجوه النساء والصبيان ولا أن تتبحر بشيء من عطفات أجسادهم. والحذر الأعظم هو النظر إليهنّ في الأماكن التي يستحى منها. لا النساء فقط، بل الرجال أيضاً، ثم الأطفال والبهائم والحيوانات وفي ذاتك نفسك، حتى والشخوص والتماثيل والصور. فهذه جميعاً لا يحل للراهب أن ينظر إلى عريها وعوراتها. وكذلك يجب الهرب من معاينة مباضعة البهائم ومجامعات كل جنس الحيوانات البهائمية الطبيعية. وكذلك لا يجوز النظر إلى حركات المستهزئين والمدكلزين (؟) البرية من الحشمة. وربما يلحقنا الضرر من معاينة زينة النساء وكسوتهنّ الخصوصية. وجيد هو أن نتذكر ذاك الأب القديس الذي غطى أثر أقدام الراهبات في الرمل. ولما سئل عن السبب أجاب: لئلا من معاينتها يلحق بعض الرهبان قتال. فإذا كان النظر إلى أثر قدم الإمرأة يؤذن بالخطر، فكم بالحري كسوتها!
– الحاسة الثالثة وهي السمع
قال القديس أفرام: لنحترس بالأكثر من النظر والسمع. فقد وضع السمع مع النظر ليدلنا على شدة بأسه وكثرة مضرته. وهذه الوصية مشهورة عند الكل. ولذلك لزم أن نهرب من كل سمع كلام يخص اللذّة مطلقاً، أي الذي معناه يقصد اللذة أو يسببها، مثل سماع كلام النساء ولو كان محتشماً، كقول القديس السلّمي: لنفرّن من إستماع ألفاظهنّ.
وكذلك يجب أيضاً أن نتجاوز سمع بعض كلام الكتب الروحانية المضر الطهارة. أما الكتب البرانية التي تؤذي الطهارة، فتلك محرمة على الرهبان تحريماً.
ثم لنهرب من إستماع الأغاني والنشائد، المختصة بعشق الأجسام، والتي بخلاف ذلك مطلقاً. وربما بعض الأحيان تضرنا الألحان والتراتيل الكنائسية والروحانية، كقول القديس السلّمي، إذا تجاوزت الحد وكانت في غير حينها. قال: أنها تساعد على حب اللذة. أما إستماع تلحين النساء، فما أكثر ضرره. وإذا كان يضرنا صوت كلامهنّ، فكم بالحري صوت ترتيلهنّ.
ويجب الحذر أيضاً من أصوات آلات الطرب والموسيقى. ولا يحتج بأن البيعة المقدسة سمحت بإستعمالها في الكنيسة، وأليشع النبي حركه صوتها إلى عمل الصلاة. فأجيبك: أنت راهب غير كامل، رتبتك قهر الذات، لا خلاف ذلك. إذاً ليست لك هذه الآلات الموسيقية، ولا سمعنا أيضاً عن أحد القديسين النساك أنه إستعملها أو رغب سمعها.
– الحاسة الرابعة وهي الشم
قد أخبرونا عن أحد القديسين اليسوعيين أن جسده، بعد موته، وجد غير بال، ما عدا منخريه فقط، فسدا وبليا بالتمام. وقالوا أنّ السبب في ذلك هو لأنه كان مولعاً بإشتمام الزهور الذكية رائحتها. فأحب الله أن يعلن لنا هذا الحادث، من فساد منخريه، لنتحقق مضرة عدم التحفظ بالمشم. وقد جاء عن راهبة من رهبنة الكرمل أنها، بعد موتها، ظهرت لأختها وهي معذبة بعذاب المطهر، ولون منخريها مسودّ جداً وقالت أنّ الإلتذاذ بالروائح الطيبة صار لها سبباً لعذاب المطهر. وكان عذابها أنها لم تزل تشم رائحة منتنة في الغاية.
وقد نهى الآباء كثيراً عن تلذذ هذا الشم المنقسم. ومضمون كلامهم أنه لا يليق بالراهب إستعمال روائح المسك والعنبر وأنواع الطيوب، والإهتمام بالورد وأنواع الزهر وماء الورد وماء الزهر. وما أقبح الراهب المحتوي على مثل هؤلاء في قلايته وفي ثيابه. فما هذه إلاّ إشارة إلى قلب منتن بحب اللذة النجسة. وقد نتحقق ذلك من تأملنا حال الزواني كيف يحملن الروائح الطيبة الذكية، بغرض إستجذاب العشاق إليهنّ. إذاً من الواضح أن قطع وبعد الرائحة اللذيذة يعين ويناسب الطهارة.
وجيد هو أن نتأمل بذاك الراهب الملائكي، الأب أرسانيوس، كيف أنه لم يكن يغير ماء الخوص إلا بعد أن ينتن جداً. ولما سئل عن السبب أجاب: إن هذا عوض الرائحة الذكية التي تلذذت بها في العالم. فقد حكم القديس على شم الرائحة الذكية بوجوب التوبة. إذاً هي خطيئة.
ولنتأمل أيضاً لعل وضع النتن في المنخرين هو نوع لاحق بهذا. وقد أخبر القديس السلّمي عن موضع الرهبان التائبين المعروف بالحبس، أنه كان كله منتناً. وقد حُكي عن أحد الرهبان في البستان أن فكره كان يقاتله بذكر إمرأة، كان أبصرها في العالم. ولما سمع أنها قد ماتت، سار لوقته إلى قبرها ومسح بخرقة الصديد والنتن الذي صار على جسمها وجاء بالخرقة إلى قلايته، ووضعها مقابله. وكان كلما قاتله الفكر بالإمرأة يهزمه بشم النتن الذي في الخرقة وبهذا هزم شيطان الزناء وفاز بالراحة.
– الحاسة الخامسة وهي الذوق
لذة الذوق وشهرته أضاعت بكورية ألعيس الحنجراني. وقبله إغتالت أمنا حواء وأسقطتها. أما عند الرهبان فأضاعت طهارة كثيرين بلا عدد، وهدمتهم هدماً تاماً. ولأجل ذلك دعي الحلق، عند الآباء، باب أسقام العزم. وما أكثر ما أوصونا وحذرونا منه، وكم عملوا قدامنا من التحفظ منه! ولنعرض عن ذكر أقوالهم وأعمالهم الكثيرة التي في هذا المعنى، هرباً من طول القول، إذ كان معروفاً عند الجميع أنّ نسكهم وتحفظهم من الحنجرة والبطن فاق الطبيعة.
ولنكتف بكلمة واحدة من كلامهم، وهي للشيخ المعروف بالشيخ القديس وغيره فقالوا: من أكل شيئاً بلذة فقد تنجس. والدليل على ذلك هو أن حركة اللذة عند الآباء سجس العقل، فلذلك صار الهرب من اللذة واجباً لازماً لئلا، إذا أظلم عقلنا، نصاب مثل الكثيرين، لأن الوحوش ترصد الظلمة لتخطف وتقتل.
إذاً مرذول هو ترويق وتنميق الطعام، وإستعمال البهار والبزور وفنون تلطيف المرق والمشروب، ومضر هو كل نوع من الأعمال لأجل التمتع باللذة. ومن هو الذي ينكر مضرة الخمر ولذته للشباب خاصة؟ وما أشنع منظر الراهب الشارب التتن؟
والحريص هو الذي ينتبه لشر هذه اللذة الخبيثة في حين المرض، إذ حجج الجسم حينئذ تكون واضحة. إلاّ أنّ شيطان الزناء لا يرحم مريضاً ولا يستحي من محاربته عليلاً. وقد نبه القديس السلّمي على هذا، حيث قال: إذا مرض جسمنا فليست حاجتنا إلى الإفاقة حينئذ قليلة. وهذا المعنى يجيء شرحه في باب المرضى. وأهل التحفظ لا يغبى عنهم ما قلناه.
وهذا تمام ما شرحناه في معنى التحفظ بالحواس، حسبما رسمت هذه الفريضة: أنه يجب على الراهب قمع الحواس مطلقاً.
الفريضة الثانية : أن يعتزل عن النساء حتى الأهلين
الإعتزال عن النساء هو الكفّ عن مخالطتهنّ وقطع الإتصال بهنّ مطلقاً لأن ذلك يضر ضرراً ثقيلاً، كقول القديس باسيليوس، قال: فلنهرب يا أحباي من الإختلاط بالنساء والحديث معهنّ، فإن حديثهنّ ضرورته أكيدة. وقال القديس أفرام: أنّه أمر غريب غير موافق للراهب أن يكون له صحبة مع إمرأة، أما مع بتول، فلا يدنُ من ذلك أبداً. وقال القديس السلّمي: فلنهربن هرباً سريعاً من ألاّ ننظر إلى الثمرة التي قد أوثق علينا إقرارنا وعهدنا أننا فيما بعد لا نذوقها، ولنفر من سماع ألفاظها لأني أعجب إن احتسبنا ذواتنا أوفر قوة من داود النبي؛ التوهم الممتنع جداً.
وما أكثر الرهبان المعرقلين في هذه الشبكة الذين إقتنصهم إبليس بطرحهم ذواتهم في خلطة النساء فقط! وبعضهم هلكوا بالتمام وبعضهم بصعوبة وتعب رجعوا إلى التوبة، وما كانوا فقط من الأدنياء والأصاغر في الفضيلة، بل أكابر وقديسين، مشهور فضلهم، الذين لا يمكننا أن نقصّ أخبارهم في هذا المختصر، بل جملة أخبارهم مشهورة عند الكثيرين، ولم يزل يوجد، في كل زمان، مَن هذا المصاب مصابه اليوم.
الحريص هو الذي يماثل في تحفظه من النساء ذاك الأب القديس الذي فيما كان يصلي في قلايته، في البرية، أطلعت عليه إمرأة، من طاقة القلاية. فمع ما لمحها، سقط على الأرض، ووجهه على التراب وقال لها: لا أرفع رأسي حتى تنصرفي. فلما وقفت الوقحة زماناً، ورأته لا يرفع رأسه، خجلت وانصرفت.
إن هذا الحرص هو بعيد من المسترخين المتهاملين بالطهارة المنحلين في التحفظ. وقد سمع بعضهم، من جملة إحتجاجهم برخاوة التحفظ، يوردون الخبر المنقول عن الراهبين اليسوعيين اللذين أقبلا مرة مع عروس أحد الملوك، في النواحي الغربية. ويقولون أنهما كانا في سنهما شباباً وفي منظرهما أعفاء أهل ورع. إلاّ أنّ الناس كانت تفكر وتتكلم في أمرهما وكيف يقدران على الطهارة في مثل هذا الحال. فاتّفق مرة أنّ الملك سأل أحدهما هذا السؤال، قصده أن يمتحن حالهما. قال: قد سمعت يا أبانا أنّ الرهبان اليسوعيين يحملون حشيشة تفيد الطهارة. هل هذا الخبر حق أم لا؟ فأجابه الراهب نعم، حق هو. فقال له الملك: إذاً أخبرني أيّ حشيشة هي. فأجابه الراهب: هي حشيشة خوف الله.
ثم يبني الرهبان المسترخون في الطهارة، على هذا الخبر المضطرب، بنايات واهية لا قوام لها، يوسعون بها لأنفسهم ولغيرهم طرق الهلاك ويختدعون كثيرين. ولم يذكروا القائل: الويل لمن يسقي أخاه مشروباً كدراً ويجعل الظلمة نوراً. ولم يفطنوا أنّ طبع خوف الله يقتضي التحفظ لا الإنحلال والمخاطرة.
ونحن نخاطب القائلين بهذا الرأي الوخيم، كلمتين فقط، ونقول لهم: ماذا تزعمون يا هؤلاء؟ هل التحفظ من خلطة النساء غلط أم لا؟ فإن قالوا لا، فقد حكموا بأنّ رأيهم بعدم التحفظ غلط. وإن هم قالوا: إنّ التحفظ الكثير ليس بلازم، فنجيبهم أنّ الحكم بجنونكم لازم، لأنكم حكمتم ضدّ جميع الآباء القديسين. وما أحسن ما يستهزئ بهؤلاء القديس باسيليوس حيث يقول: إنّ من يزعم أنه يخاطب الإمرأة ولا يتأذى، فلعل هذا ليس له طبع الذكور.
وحتى لا نطيل الخطاب مع المسترخين بالطهارة، إذ الكلام معهم يفيد نادراً، فلنرجع إلى مخاطبة من يؤثر العفة ويرغبها ونقول: إنّ الراهب، بما أنه راهب، ملزوم بحفظ قانونه الذي يأمر بالتحفظ من النساء والإعتزال عنهنّ وقطع الخلطة معهنّ، لا على القرب فقط، بل على البعد أيضاً، أي بقطع كل عمل الوداد والمعاملات الخصوصية والتي ترى كالضرورية في لوازم العيشة، كالخياطة وغسل الثياب وغير ذلك من عمل الخدمة. فهذه وأمثالها يجب البعد عنها. أما أن يراسل الراهب الإمرأة وتراسله بالمكاتبة والهدايا، ولو كان مما تخصّ العبادة كالمسابح والصور وأمثالها، فهذا العمل هو صنارة اللذّة، وأعظم خطراً من ذلك هو، إذا كانت هذه الأحوال ما بين راهب وراهبة.
ولنتأمل كيف لما عزم القانون على قطع هذه المخاطرة قطعاً كلياً قال: ليعتزل الراهب عن النساء حتى الأهل والأقارب، أي لا يكفي الراهب أن يتحفظ من مخالطة النساء الغريبات الجنس فقط، بل أيضاً من النساء الأقارب والأخت والأم. وهذا التحفظ ليس هو بغريب عن سيرة الرهبنة، بل هو المعتاد عليه. وذلك واضح من وصية الآباء لنا، بأن نبتعد من خلطة أهلنا الرجال، فكم بالحري النساء.
ومعروف هو عند الكل، أنّ كثيراً من ألاباء النساك أحزنوا والداتهم وأقاربهم لما لم يسمحوا لهم بمخاطبتهم، ولا أيضاً بالنظر إليهم، فضلاً عن مخالطتهم ومعاشرتهم، كما هو مشهور من سيرة الأب القديس، سمعان العامودي، والأب بيمين وإخوته، وغيرهم بلا عدد.
فإن قلت: إن هؤلاء القديسين هربوا من أهلهم وأقاربهم لا خوفاً من اللذة، بل بغرض قهر المشيئة، أجبتك أن من لم يقوَ على قهر المشيئة فهو بالأكثر لا يقوى على قهر اللذة، لأن العمل الثاني أصعب من الأول. إذاً إن كنت لا تقوى على قهر مشيئتك، بهجر أهلك وأقاربك، فأنت بالأكثر لا تقوى على محاربة فكر اللذة في خلطة النساء منهم. ولأجل ذلك أوصانا أبونا أنطونيوس وقال: لا تنظر والديك وأقرباءك الجسدانيين، لأن ذلك فساد لنفسك. والفساد، وإن لم يكن من جهة اللذة، ينتهي أخيراً إلى شر اللذة؛ أي إن مخالطة الإمرأة، ولو كانت أمك، فإنها ترسم في العقل رسوماً تنتهي إلى تحريك اللذة. وجيد هو أيضاً أن نتذكر ذاك الراهب الطاهر الذي نصب له الشيطان الشرك بإمرأة أخيه، ولولا نعمة الله لكادت الشقية أن تسقطه.
وهذا هو المقول من القديس باسيليوس، قال: إن كنت يا هذا لا تتأذى من الإمرأة، فمن أين تعلم أنها هي لا تتأذى منك؟ ولا تقل لي إن الإمرأة صالحة، فأجيبك إنّ أمنا حواء، قبل أن تخطئ، كانت صالحة. والصالح، إذا لم يسقط بالفعل، مع أي من اتفق، فممكن أن يسقط، عند التهاون، بالفكر. ومن كان له معرفة برصد أفكاره، ذاك يفهم ما قلناه. إذاً جيد هو أن نتمسك بكلمة الأب توما الكمبيسي القائل: لنستودع الله كافة النساء الصالحات.
فيقول أحد الرهبان: كيف أعمل الآن والرئيس رتبني في وظيفة تخالط النساء، أقارب وأباعد؟ فأجيبه: إن كانت الخلطة قليلة ولأجل إصطلاح الجمهور، فالطاعة تعصمك من الخسارة كما عصمت تلميذ الشيخ البائع الزنابيل، في القرية، وقد مرّ خبره في الفريضة الثانية من باب الطاعة. وقولنا الطاعة تعصمك بشرط أنك تكون متحفظاً. قال القديس أفرام: إن كنت يا هذا تعمل ما تعلمه لأجل الطاعة، فأنت بلا ذنب، بشرط أن تصنع ذلك بخوف الله، إذ قد يوجد قوم يكملون شهواتهم بحجة الطاعة.
فمن كلام القديس نفهم أنّ مخاطبة الإمرأة يلزمها شرطان: الطاعة وخوف الله معاً. وقد زاد القديس باسيليوس شرطاً آخر، وهو أن يكون معك آخر غيرك، لأن الواحد وحده أضعف من الذي معه آخر. ومن دون هذه الشروط الثلاثة، يحرم عليك أيها الراهب مخالطة النساء حتى الأهلين.
الفريضة الثالثة : لا يسمح بدخول إمرأة إلى ديره أصلاً
هذه واسطة ثالثة لحفظ الطهارة، وهي ألاّ يساكن الراهب إمرأة ولا يسمح بدخولها داخل ديره أصلاً. وهذه وصية أبينا أنطونيوس. قال: لا تدنُ من الإمرأة ولا تدعها أن تدخل ديرك. فالدير معناه كلما هو داخل السور والكنيسة معاً. وقد حصر القانون هذه الفريضة بلفظة أصلاً، أي لا تدخل الإمرأة الدير بنوع السكنى ولا كعابر الطريق ولا بحجة زيارة وتبريك ولا لأجل عمل الطب والرحمة ولا لتعطي الدير صدقة ولا لأي سبب كان مطلقاً، لأن تردد النساء إلى الدير يضر أكثر من مخالطتهنّ خارج الدير، من حيث أن الأشياء المناسبة طبعنا، يعسر علينا بغضها، عند قربها، أكثر من بعدها. وأيضاً، إن سمح الراهب بدخولهنّ مرة واحدة، لأجل عارض يعرض لغرض صالح، فيتصل ذلك فيما بعد إلى مرات متعددة، ويبلغ إلى أن يرقدن في الدير لمداهمة المساء أو لعلة أخرى تحدث ضرورية، وينتهي الحال أخيراً إلى أن يمكثنّ في الدير، كالساكنات فيه، كما يوجد في بعض الأديار. فاطفر أنت يا هذا من هذا الدير ولا تلبث، وإلاّ فتمضي عمرك كله ولا تقدر أن تصلي صلاة نقية. وما عدا ذلك يُسكت عنه.
وهذا الخداع منذ القديم زرعه الشيطان الماقت الطهارة في بعض الأديار غرباً وشرقاً، كما تحققناه من الكتب الكثيرة. وعلى ما سمعنا، أنه الآن قد بطل هذا الغلط الكبير من الأديار الغريبة، وقادر الله على إبطاله من كنيسة المسيح جميعها. والآباء منذ القديم، لم يزالوا يوصون ويحرصون وينهون عن ذلك، كما يقول أحد الشيوخ في البستان: لا تصاحب أخاً له أخت، أي أخت ساكنة عنده لأن صحبة هذا تضر، ولذلك لا تجوز. فلنتأمل إذاً، كم يكون ضرر الساكن معها!
ومن هو الذي لا يرتعد خوفاً من سمعه خبر يعقوب الناسك؟ قال المخبر بذلك، إن هذا البار كان ناسكاً عظيماً وبلغ إلى كمال أعظم، وعمل العجائب. فأتوه مرة بجارية بتول، بها شيطان. فصلى عليها القديس وإنعتقت من إبليس. فصار أنّ أباها خاف عليها، لئلا يعاودها الشيطان، فتركها عند القديس، وأخوها معها، مدة من الزمان، لتتحصّن بصلوات البار. فلم يفطن المغبوط بأنّ التحفظ من معاشرة النساء لازم، بل إنخدع متكلاً على ذاته، واثقاً بنفسه. فلم تلبث الصبية عنده قليلاً حتى سقط القديس معها بالخطيئة. ولئلا يشتهر أمره، قتلها وقتل أخاها، ويئس من ذاته. لكن الله المتزايدة رحمته، لم يشأ أن يتركه للغاية. ولكي يجعله مثلاً مفيداً للتحفظ من مساكنة النساء، سمح بسقطته ثم أعاد إليه النعمة، وإستفاق من سكرته وتاب توبة بليغة، يصفها كاتب خبره.
فإذا كانت هذه مصيبة مساكنة النساء مع القديسين، فكيف هي معنا نحن البعيدين كثيراً من مشابهة القديسين.
وجيد هو التأمل في خبر الأب توما، القديس المذكور في البستان، الذي لم يسمح، بعد موته، بأن يضعوا معه في القبر إمرأة، بل طرحها مرات عدة. فالقديسون لم يحتملوا سكن الإمرأة معهم في القبر، أفتحتملها أنت معك في ديرك!
إذاً من الضرورة أن نسلم لقول القانون ولا نسمح بدخول إمرأة إلى ديرنا أصلاً.
الفريضة الرابعة : ولا يساكن صبياً. وإن قصد التعليم، فناحيةً عن الدير
واسطة ضرورية جداً لإكتساب الطهارة هي هذه الفريضة بأن لا نساكن صبياً. فلفظة صبي ههنا، فيها غموض وإبهام. والظاهر من غرض القانون، على جهة مناسبة الطهارة، هو كل غلام لم يلحق بالرجال والذي أيضاً لحق بالرجال وصورته صورة النساء ولم يخط عارضه. ولما كان يوجد أيضاً من لم يخط عارضه، وعليه سمة الرجال، فلهذا صار التحرير في المعنى المقصود مشكلاً، وصعباً هو أيضاً الإفراز في هل نقتبل الطالب الرهبنة ونسعفه على خلاص روحه، حسب وصية المحبة، أو لا نقبله، لأجل تقويم كمال الطهارة.
ولكيما نوجه هذا الأمر المشكل إلى ما فيه التدبير والإصلاح نقول، مما تعلمنا من ممارسة العمل والسياسة، إن هذا الأمر يلزم لتدبيره أمران:
الأول أن يكون في رسوم الرهبنة حد محدود لعدد سنين الداخلين معنا، بالنظر إلى الزمان والمكان.
الثاني أن يطلق للرؤساء، متى أرادوا، أن لا يقبلوا من قد بلغ الحد المحدود. فلعل بهذا ينقطع شر هذه البلوى المحدقة بجماعات الرهبان، إن أمكن إنقطاعها.
ومن هذا يفهم الراهب أنه لا يجوز له الإعتراض لتدبير الرئيس، متى رآه لا يقبل بعض الطالبين الرهبنة، ويجب أن نفطن بأنّ شرّ مساكنة الشباب الحسنة صورتهم، عظيم جداً وإن الحذر منه ضروري جداً.
وقد أخبر الأب أمون عن نفسه وقال: أني لما نزلت إلى برية الأسقيط وأنا شاب، وكان يومئذ يسكنها الأب بفنوتيوس البسيط، فلم يتركني أن أسكن هناك. وقال: لن أترك في أيامي شاباً يشبه وجه النساء، أن يسكن الأسقيط، من أجل قتال الشياطين التي تقاتل القديسين. وقيل عن الأب مكاريوس أنه كان يقول لرهبان الأسقيط: إذا رأيتم برّيتكم تسكنها الأحداث خذوا رحلكم واهربوا. وقال أحد الآباء: ليس الله يأتي بالأحداث إلى الرهبنة، بل الشيطان. فهذا ما قلناه في الأحداث الطالبين الرهبنة.
أما الأحداث العالميون، فمساكنتهم معنا لا يجب إحتمالها البتة. وإن إتفق ودخل أحدهم ديرنا، أو أدخله راهب من الرهبان الواهي تحفظهم، فلنجتهد بكل دربة وحكمة أن لا ندعه يبات عندنا من دون أن يكون معه رجل من أقاربه. وليكن موضع رقادهم ناحيةً عن قلالي الأخوة. والحذر أن يسرقنا العارض بحجة الرحمة، في معنى أنّ الغلام يتيم أو خائف الله محتشم، ونعطيه السبب أن يعود يتردد إلينا. وجيد هو أن نفطن بذاك القديس الذي لم يشأ أن يدخل يبات في الدير الذي فيه الصبي مع أنه كان لا يخاف القتال. ولما سئل عن سبب إمتناعه، قال: ما لي ولقتال بطاّل.
ومن هذا نفهم أنه ولا الخلطة بالصبيان خارج الدير تجوز لنا كما مرّ شرح ذلك في فريضة حفظ الحواس.
قال القانون: وإن قصد الراهب التعليم، أي تعليم الصبيان، فناحيةً عن الدير. فالظاهر أن هذا التعليم ليس هو غرض القانون لأنه لم يقل: أن التعليم ليكن كذا وكذا، بل قال: إن قصد الراهب التعليم، أي أن دعت الحاجة إليه، لإصلاح حال الجمهور، فمسموح به، لكن ناحيةً عن الدير. وكما أن طلب الصدقة لا نسمح به في المدن والقرى، إلاّ للضرورة، وأن يكن المستعطي كفوءاً لذلك، وأن لا يكون وحده، بل مع غيره، كذلك تعليم الصبيان لا يكون إلاّ للضرورة، ويكون معلمهم كفوءاً لذلك، ولا يكن وحده، بل معه آخر لأن الواحد وحده، على ما يقول القديس باسيليوس، تصديق ما يقال فيه سهل. ولا يُسمح لأحد الصبيان أن يرقد مكان التعليم، بل ينصرفون قبل صلاةالغروب، إلى منازلهم ويأتون غدوة، بعد حضور القداس الإلهي. ومن لم يقوَ على الإنصراف مساءً والمجيء غدوةً، كما ذكرنا، بل يشاء أن يرقد في مكتب التعليم، فلا نعلمه. ولنفطن أنّ شرّ اللصوص مختص بالليل أكثر من النهار؛وأني لأرغبُ ألا يكون هذا التعليم في أديارنا أبداً. وإن صار لضرورة أوجبت ذلك، فليكن، كقول القانون، ناحيةً عن الدير.
الفريضة الخامسة : وليقطع كل سبب يؤذي الطهارة
الأسباب التي تؤذي الطهارة، على ما يعلمنا آباؤنا القديسون، كثيرة هي، غير التي ذكرناها في الفرائض السابقة. منها العجب، الإفتخار، التعظيم، الإعتداد بالذات، المقاومة، إجتناب الطاعة، الدالة، الضحك، المزاح، الفرح الباطل، البطالة، الراحة، الرخاوة، الكسل، معاشرةالمسترخين، الشبع من الأكل والشرب والنوم، المواكيل المقوية، الخمر، كثرة الدفء، قساوة القلب، عدم الحس، كثرة الكلام، دينونة القريب، الحزن الزائد عن الإعتدال، الغم البهيمي، قطع الرجاء، نقص الأمانة بمواعيد الرب. وقديوجد غير هذه يجدها من يبحث عنها.
لكن المطلوب، مع هذا، هو أن يكون الراهب منتبهاً مراقباً ذاته بتفحص بليغ، ويقطع السبب الذي يدله عليه ضميره مما يؤذي طهارته سواء كان من التي ذكرناها أو لم نذكرها، من التي تختص بألم اللذّة، أو الغريبة منه، لأنّ شرّ شيطان الزناء يتحرك أحياناً من أفكار وأحوال غير مناسبة اللذة.
وهذا التحذير قد نبه عنه القديس السلّمي وقال: شاء أن تستضيء بأقاويل عافية نفسك، أكثر مما تستضيء بمصاحفها. وقد أوضح هذا المعنى الأب وغريس حيث قال: من يشاء أن يقف مقابل الشيطان بقوة، فلا يكفيه فقط، أن يغلق أبواب حواسه، بل أن يقيم عقله أيضاً دياناً على أفكاره، أي لا يكفيك أيها الراهب، لحفظك الطهارة، أن تتحفظ من الأشياء التي ذكرناها في هذهالفريضة وفي الفرائض السابقة فقط، بل يلزمك أيضاً أن تستعمل الإفراز في ذاتك بذاتك، وتميز ما الذي يضر طهارتك فتبعده، وما الذي يقوّي طهارتك فتقرّبه.
وإن قلت أنك لا تقدر أن تدرك هذا، وتطلب الأشياء التي، بنوع العموم، تفيد الطهارة وتبعد اللذة، أجيبك أنّ الذي جاء ذكره في كتب الآباء مصرحاً واضحاً، هو هذا: الصوم والسهر والصلاة، قطع المشيئة، الهوان،الصعلكة، إحتقار الذات، الخدمة وخدمة المرضى؛ التأمل في آلام الرب وآلام والدته وشهدائه والإلتجاء والتعبد للبتول خاصة، وللملاك الحارس والقديس الذي نحبه، زيارة القربان المقدّس، حمل ذخائر القديسين، ملازمة الإعترافوكشف الأفكار، التحفظ من الدالة والصحبات الخصوصية، النوح، ذكر العواقب الأربع: الموت والحساب والنعيم والجحيم، قراءة الكتب الروحانية والنسكية خاصة، وبعض الأحيان، يفيد الترتيل والصمت والإنفراد والتأمل في الخطايا السالفة، دون الفجورية، التأمل في الضعف الإنساني وشقاوته. وبعد هذا كله يلزم عمل اليد الذي من دونه لا يقوى على قهر اللذّة إلاّ الكاملون بل الكاملون أيضاً إحتاجوا إليه في بعض الأحيان.
فهذه التي عددناها إجمالاً، تفيد كل واحدة منها، فاعلها، المساعدة على قهر اللذة وقطع ورودها. فمن حس في ذاته بنفع واحدة، وأهملها، وانطرح من قبل إهمالها لإنفعال اللذة، فقد أخطأ الخطأ العظيم، وصار نظيرمن سبب لنفسه العثرة. وعن هؤلاء الجالبين لأنفسهم العثرة يقول القديس باسيليوس: يجب أن نهرب من الأشياء التي يجذب التقرب إليها إلى أفكار الأوجاع، ويقم الحروب في أنفسنا، لأن الحرب الذي يدخل إلينا ضرره بغيرإرادتنا، يلزمنا أن نحتمله ونجاهده، أما أن نجلب علينا وحدنا حرباً بإرادتنا، فهذه شقاوة. أي إن أنت لم تقطع السبب الداعي إلى حرب اللذة وتحريك القتال، فتكون كمن دعيت القتال إليك بإختيارك وصرت شقياً برضاك.
وكذلك السبب المشكوك به يجب أيضاً الهرب منه، كما يقول فيه القديس إسحق: لا تجرب فكرك، لكي تختبره، بالنظر النجس على سبيل التجربة، وتظن أنك لا تنغلب. فكثير من الحكماء إضطربوا ها هنا، وجهلوا. وهذا متفق عليه عند علماء الذمة جميعاً: إن المخاطرة بالخطيئة خطيئة. إذاً قطع السبب على الإطلاق، ضروري هو، سواء كان مشكوكاً به أو محققاً.
أما الأسباب الكرهية المداهمة غصباً وقسراً بغير إرادتنا، فكما سبق القول من القديس باسيليوس: يلزمنا أن نحتملها ونجاهدها. والمجاهدة لها لا يمكن وصف كيفيتها، لأن الله يمنح للمجاهد مخرجاً منها بقوته القاهرة. لكن القول فيها على الإطلاق هو أن يختار الراهب الموت ولا ينحني لعدوه منهزماً، كما صنع ذاك البطل، يوسف الصديق، وشوشان العفيفة، ومثلهم الكثير من القديسين الذين بلغوا سفك الدم ولم يدنسوا طهارتهم.
وقد يوجد أيضاً نوع آخر لمصادمة هذا العارض الكرهي، وهو إن كان عندنا دربة وحكمة، فلنخترع صنفاً من الخداع، مع من يشاء أن يخدعنا، كما صنع الكثيرون، منهم القديس برنردينوس. هذا الطاهر، لما دعته الزانية إلى بيتها مخادعة إياه، وأغلقت عليه الباب وإبتدأت أن تغتصبه لعمل النجاسة والفجور، فإذ لم يمكنه الفرار من يديها خوفاً من الفضيحة والتهمة الباطلة، أمرها، الحكيم في فهمه، أن تتعرى، كأنه يريد أن يطاوعها حسب هواها. فلما تعرّت الوقحة كما أمرها، أخذ لوقته يجلدها بالحبل المزنر به جلداً عنيفاً لا رحمة فيه وصارت اللعينة لا تقدر أن تهرب أو تصرخ خوفاً من العار والفضيحة، وما عاد أمكنها غير أنها توسلت إليه بدموع وزفرات أن يتركها ويمضي في حال سبيله. وبمثل هذه الحكمة خرج البار الطاهر من بيتها وفرّ من شركها الطاغي القاسي.
وقد حُكي أيضاً عن إمرأة طاهرة وقعت ما بين الفسقة. ولما تحققت المصيبة، سبقت فوضعت في عبها لحماً. ولسخونة جسمها إنتن اللحم. وعندما كان يبلغ إليها الفاسق، كانت تقول له: لا تتنجس بي يا سيدي، لأنّ فيَّ وجعاً كريهاً يؤذيك. ولما كان يستنشق الزاني رائحة النتن، كان يفرّ منها. وهكذا بجودة فهمها خلصت من المصيبة المرة التي داهمتها كرهاً. فهذا ومثله هو عمل الأطهار القاطعين كل سبب يؤذي الطهارة.
وجملة ما قلناه في باب الطهارة هو أنّ الراهب يلزمه أن لا يتنازل لحركات اللذة أبداً، لا بالعمل ولا بالفكر ولا إهمالا بقطع السبب.
Discussion about this post