المصباح الرهباني
الباب الرابع: في التواضع
التواضع، كما قال الرب، هو أن نعمل البرّ كلّه ونحتسب ذواتنا عادمين البرّ كلّه. وهذا الفضل، هو ضروري جداً لطالبي الكمال، من طريق أنه أساس الكمال، وأساس كل فضيلة، كما هو الرأي عند جميع الآباء والعلماء. والرب تعالى قال: أنه لا ينظر خاصة إلاّ إلى المتواضع. فمن قبل ذلك صار الجد والإجتهاد في تحصيل التواضع ضرورياً جداً.
ومن حيث أنه يتولد من المعرفة بالذات، وجب، أولاً، أن نعرف ما هي المعرفة بالذات، وإلى كم قسم تنقسم. ومثلها تنقسم درجات التواضع.
فالمعرفة بالذات هي أن يعرف الإنسان ذاته خاطئاً عاجزاً عن كل خير. وهذه المعرفة تنقسم عند الآباء إلى ثلاثة أنواع، كما يجيء بيانها. ومنها نتج أنّ درجات التواضع ثلاث:
– فالدرجة الأولى: هي إحتمال الإنسان الإحتقار من قبل معرفته ضعفه.
– والدرجة الثانية: هي رغبة الإنسان بالإحتقار من قبل تمكن معرفته ضعفه.
– والدرجة الثالثة: هي فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه. ولنتكلم في واحدة فواحدة منها. فأولاً:
الدرجة الأولى : وهي إحتمال الإنسان الإحتقار من قبل معرفته ضعفه
وسبب الإحتمال، من قِبَل هذه المعرفة، وهو أنّ الإنسان، إذا أدرك مقدار ضعفه وكثرة زلاته ونقائصه الفائقة العدد، ورأى مع ذلك جميعه، إعتداده بذاته، يبتدئ للوقت أن يخاف على ذاته من الهلاك ويطلب التحفظ والحرص. فإذا فاجأته الحقارة يراها كالمرهم، لإعتداده بذاته وغيرها من زلاته، ويرضى بها أتمّ الرضا. ههنا صار الدليل الصادق، عند الآباء، على معرفتنا ضعفنا، هو إحتمالنا الهوان من غيرنا، لا أن نحتقر ذاتنا بذاتنا. لأنّه يسهل على الإنسان أن يحتمل ذاته من غير معرفته ضعفه، لكن إحتماله غيره ليس يمكن إلاّ من قبل معرفته ضعفه، وهو الدليل عليها. وعن هذا المعنى قال القديس السلّمي: كلنا ندعوا أنفسنا خطأة، وربما نعتدها كذلك، لكنّ الهوان إمتحن قلبنا. أي إن أنت شتمت ذاتك وثلبتها بالخطأ، فليس ذلك بعجب. بل العجب إن ثلبَكَ غيرك وصبرت محتملاً، كما قال القديس إسحق: إنّ المحتمل الشتيمة كما يجب تعجب منه الملائكة.
فإن قلت أن كثيرين يحتملون الإهانة لغرض بشري وربما يسرون بها، إذاً هم متواضعون. أجبتك: كلا، لأن علامة الإحتمال المتولد من معرفة الإنسان ضعفه، هو المقترن ببغض المديح والهرب من الكرامة، كقول القديس السلّمي: إن من يقول أنه يحس بنسيم التواضع، ويرى قلبه في أوان المدائح متحركاً إليها، ولو تحريكاً يسيراً، أو متفهماً قوة أقوالها، فلا يضل، فإنه مخدوع. أي ولو كنت تحتمل الحقارة كالمتواضع، وقلبك يميل إلى المديح، فإحتمالك هذا فاسد، ولغرض آخر غير التواضع. لأن إحتمال المتضع مقترن على الدوام ببغض المديح. بل ولا يقدر أيضاً، المحب المديح، أن يحتمل الإحتقار. وإن إحتمل فلا يكون إحتماله دائماً ولا باطناً، بل ظاهراً فقط.
والسبب في عدم إستطاعته الإحتمال كما يجب، هو خضوعه لشهوة المديح. لأنّ الشهوة، من طبعها، متى فُقدت من الإنسان الجاهل ضعفه، تقلقه وتحركه إلى الغيظ، كما قال الأب وغريس: إنّ الغيظ كالكلب ناطور الشهوات، ومتى دنا منا غريب ليسلبنا إياها، نبح عليه وتحرك وإختبط. وهكذا أيضاً قال يعقوب الرسول: من أين تأتي الفتن والحروب؟ أليس من الشهوات التي تقاتل في أعضائكم؟ فقد صح إذاً القول: إنّ إحتمال الهوان الحقيقي، هو ما كان مقترناً بعدم الميل إلى المديح الناتج عن معرفة الإنسان ضعفه، ويطلق القول على صاحبه: أنه متواضع.
وهذا واضح لكل متأمل، من حيث أن الإنسان، إذا اعتدّ ذاته أنها ليست بشيء، على جهة الهوان بها، فحينئذ لا يحزن فيما بعد على إهانتها، إذ كان هو المستهين بها أولاً، قبل مُهينه. وهذه الإهانة بالذات قد جاء بها القديس يعقوب الملفان بنوع آخر وقال: أني لست شيئاً ولا إثمي أيضاً بشيء. فهذه هي أيضاً معرفة ثانية للذات على جهة الإزدراء بها. ومن قبل هذه المعرفة أيضاً، لا يتجه لنا البتة تحريك الغيظ على من يحتقرنا أبداً، كما أن من يسلب منك شيئاً لا قيمة له عندك، لا تغتاظ عليه، فهكذا العارف أنه ضعيف وعاجز، لا يغتاظ على من يحتقره. ومن ها هنا حكم مفسّرو الإنجيل على الإمرأة الكنعانية بأنها متواضعة، ولم يسندوا إثبات قولهم إلاّ على أنها إحتملت التسمية بالكلبة ولم تغتظ البتة.
ثم، ومن خواص المتواضع أيضاً، أنه يكون ساكناً، هادئاً، بهياً، وديعاً، طائعاً، رحوماً، وفي مثل هذه المحامد مستمراً، ثابتاً، لا متغيراً. لأنّ المتصف بصفات التواضع، وقتاً دون وقت، فذاك ليس بمتواضع، كما عرض لأحد الرهبان الذي كان متصفاً بأعمال الفضائل، ومشهوراً عند الرهبان بالتواضع والقداسة، وكانوا يمدحونه عند أبينا أنطونيوس. فلما حضر هذا الراهب، يوماً ما، عند أبينا المذكور، على جهة الزيارة، أحبّ القديس أن يمتحنه، فرشقه بنوع من الثلب. فلما رآه قد تغير منظره، وظهرت عليه علامات الغيظ والحزن، قال للرهبان: هذا الأخ يشبه قرية ترى من البعد ومن الخارج، عامرةً، وهي من داخلها خربة خاوية، ومأوى للصوص.
فهذا الراهب كان له إحتمال كثير مع جملة فضائل كانت تدعو الرهبان إلى الشهادة له بالفضل، لكنه لم يكن حقّاً متواضعاً، كونه لم يظهر بما هو عليه، وما هو فيه من الإحتمال والوداعة، دائماً، إذاً، علامة التواضع هي الإقتران بصفاته دائماً. والعلامة الخصوصية لدرجته الأولى، هي الرضى بالإحتقار من غير أن يلحقه من قبله غيار، ولا من المديح أيضاً، كقول من يقول: لا في المديح لذة ولا في الهوان شدة. هكذا جاء عن الأب يوحنا القصير. حين شتمه أحد الرهبان، وسماه زانية تتصنع للناس لتكثر لها الأصدقاء. فأجابه الأب: نعم يا أخي، هكذا أنا بالحقيقة. وبعد قليل سأله أحد الرهبان: هل تسجست يا أبانا من الشتيمة؟ فأجابه الأب لا، بل كما كنت في الخارج، هكذا كنت في الباطن. فهذه صورة المتضع بالدرجة الأولى بالتمام.
الدرجة الثانية : هي رغبة الإنسان بالإحتقار من قبل تمكن معرفته ضعفه
تمكن معرفة الذات، هو أنّ الإنسان يستغرق في معرفة ضعفه، حتى يعود يرى ذاته، بعد إمتلاكه الدرجة الأولى من التواضع وحسن فضائلها، أنه مشرّف، من قبل ضعفه، على العطب العظيم الذي يلزمه لأجله الإعتناء الكلي لأجل الخلاص منه، كما كان يراه الرسول بنفسه حيث قال: أني أقمع جسدي وأستعبده حذراً لئلا أنا، الذي بشّرت آخرين، أنفى وأُرذل. هذا هو التمكن بمعرفة الضعف لأنّ الرسول، بعد تمكنه بمعرفة جهاده الحسن، الذي جاهر به برسائله، كان أيضاً يرى ذاته، لإستغراقه بمعرفة ضعفه، أنه مشرف على السقوط، المقدار الذي يلزمه أن يتحذر منه بالإعتناء والإجتهاد.
قال القديس السلّمي: إنّ الإنسان المسارع إلى إمتلاك التواضع لم يزل يتفطّن في سيرة يستسير بها، ويتحيل حيلاً يخترعها، ويبدع سجايا وأقوالاً وأفكاراً وعزائم وإستبحاثات، ويقدم نذوراً وصلوات، إلى أن يعتق سفينة نفسه، بطرائق أوفر تذللاً وهواناً، وبإسعاد الله، من بحر التعظم الدائم شتاؤه. ومن هذا القول ندرك نحن معنى هذه الدرجة بالكفاية، وذلك أن الساعي بالدرجة الأولى، لما حس بالمنفعة الواصلة إليه من الإحتقار، وهي نوع تنظيفه من إعتداده بذاته، حصل، من قبل هذا التنظيف، على صفاء بصيرة بزيادة عن الأول. ومن قبل زيادة صفاء بصيرته، حصل على معرفته ضعفه أكثر، ورغب الإحتقار أكثر، وصار، كما قال القديس المقدم ذكره، يخترع الحيل والسجايا والصلوات ليتقدم بالتواضع إلى قدام.
والأمثلة في هذا المعنى كثيرة جداً. ولنكتف نحن بذاك الراهب الذي لما رأى رئيسه وإخوته لا يشبعونه هواناً، طلب أن يذهب إلى حيث يُهان أكثر. ويوحنا صاحب السيق، المذكور خبره في السلم، تظاهر بالجنون رغبة بالهوان. وهذا دليل واضح على أنّ هؤلاء فقدوا غضبهم بالتمام، وقبله، قد فقدوا الميل إلى المديح بالكلية. وهكذا قال الآباء: لولا موت الغضب والشهوة لما وصلوا إلى رغبة الإحتقار وملكوا درجة التواضع الثانية.
الدرجة الثالثة : فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه
كثير من الآباء قالوا: إنّ كمال التواضع لا يعرف بالكلام، غير أن علاماته معروفة، وهي بمنزلة التعريف له. وهذه هي التي أتينا بها وقلنا: هي فرح الإنسان بالإحتقار من قبل يأسه من ضعفه. فالفرح هنا يدل على أنّ الكامل بالإتضاع، ليس فقط لا يحس بتعب الإحتقار، كصاحب الدرجة الثانية، السابق شرحها، بل أيضاً يصير يحزن بالكرامة، ويضجر ويملّ عند عدمه الإحتقار. ولذلك يفرح بوجوده، كما كان القديس مكاريوس يحزن، لما يسأله أحد الإخوة مسألة لنفع النفس، بإكرام وإحترام، ولا يجيب الأخ. ولما كان الإخوة يسألونه بنقص إكرام وعدم إحترام، كان يظهر لهم المحبة ويجيبهم بفرح. قال القديس السلّمي: إنّ كمال الكبرياء هو أن يتظاهر الإنسان، لأجل التشريف، بفضائل بعض الناس، كذلك كمال التواضع يتشكل صاحبه، بحضرة بعض الناس، لأجل التذلل، بعيوب ليست فيه. ثم أورد القديس المذكور، لإثبات كلامه، خبر الأب سمعان الذي جلس عند باب قلايته، وقت وصول القاضي لزيارته، وأخذ يأكل خبزاً وجبناً، بمنزلة راهب قليل الحشمة والعقل. وبهذا العمل، جعل القاضي ومن معه أن يرجعوا عن الوصول إليه والسلام عليه، مستخفين عقله، محتقرين قدره. وهذا الإحتقار، كان لذيذاً عند الأب القديس مفرحاً له. وهذا الفرح يتولد في المتواضعين من قبل يأسهم من ضعفهم.
فإن سألت: وما الذي يراه المتواضعين في أنفسهم حتى ييأسون منها؟ يجيبك الآباء: أنهم متأملون فيها تأملين:
الأول أنهم يرون ذواتهم ليس هم شيئاً، ولا لهم قوة على عمل شيء.
الثاني يرون أنّ أعمالهم كلها معابة مرذولة من قبل نقصهم وزلاتهم الكثيرة والمتصلة دائماً. ولنتكلم قليلاً في:
– التأمل الأول
نقول أن المتواضع الحقيقي يرى ذاته ليس هو شيئاً البتة، بدليل قول أب الآباء عن نفسه: أنه تراب ورماد، وما قاله أيضاً أيوب عن نفسه: أنه ورقة ينسفها الريح. وقال النبي عن نفسه: أنه دودة ليس بإنسان. ولا شك في أن من عرف نفسه، وإعتبر ذاته أنه تراب ورماد وورقة ودودة، فهو يرى ذاته ليس هو شيئاً، طبق قول الرسول القائل: أن من ظنّ بنفسه أنه شيء وليس هو بشيء، فإنه يضل نفسه. وإذا كان الإنسان، حسب صدق المقولات، ليس هو بشيء، فهل يمكنه الإستطاعة على عمل شيء؟ فالقول إذاً حق والتأمل به صحيح، وهو أن الإنسان ليس هو بشيء ولا يقدر على شيء، أي لا يقدر، من ذاته، على عمل فضيلة ما البتة. والرب تعالى قد أثبت صحة ذلك بقوله: إذا عملتم البّر كله، قولوا نحن عبيد بطّالون.
فيقول قائل: كيف هذا وها الرب يقول عملتم البر؟ إذاً يوجد للإنسان عمل ليس هو باطلاً، إذ الواحد وحده، لا يقال عليه أنه بطال وعمال معاً.
فنجيبه: إنّ البطالة والعمل، لا يقال علينا بالسواء فالبطالة تختص بنا قولاً ومعنى، وذلك لأنها خطيئة محض، والخطيئة ما لها مصدر ومبدأ إلاّ منا، بدليل قوله تعالى، على لسان النبي: إنّ هلاكك معك يا إسرائيل. أما عمل الخير فهو من الله، لا منا، بدليل قوله تعالى: بغيري لا تقدرون على شيء. وقال الرسول: إن الكل منه وبه وإليه. فيتضح من ذلك، أن قوله تعالى عملتم معناه: أنا عملته بكم. وإلاّ فيكون الرب أمر بالكذب عن ذلك، لأنه قال: قولوا نحن بطالون. فمن حيث هو تعالى صادق وعين الصدق، فلا بد أن نكون بطالين، كما قال، ولو عملنا البرّ كله، إذ نحن لم نعمله، إنما هو تعالى عمله بنا. فحقيقة العمل له، والإسم لنا. وهذا قد تكلم به الرسول وأوضحه بالتمام حيث قال: أنه تعب أكثر من باقي الرسل. ثم قال: لست أنا بل نعمة الله.
وليس عملنا العملي فقط هو لله تعالى، بل عمل أفكارنا وإرادتنا الصالحة، هو أيضاً منه، بدليل قول الرسول: أننا لا نقدر أن نفكر فكراً من قبل أنفسنا كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله. وقال أيضاً: أن الله هو الذي يعمل معنا أن نريد. والنتيجة من كل شيء قلناه، هي إنّ الإنسان ليس هو شيئاً ولا يقدر أن يعمل شيئاً. وهذا هو التأمل الأول المختص بالمتواضعين الحقيقيين، ومنه يتولد فيهم اليأس من ضعفهم ويحتقرون ذواتهم كثيراً.
– التأمل الثاني
هو أنهم يرون أعمالهم كلها معابة مرذولة من قبل نقصهم وهفواتهم الكثيرة المتصلة دائماً.
والدليل على أن الإنسان هو تحت النقص دائماً، فهو قوله تعالى على لسان النبي إنّ البار يسقط في اليوم سبع مرات. وقال المرتل لله أنه يتزكى أمامك كل حي. وقال الرسول لست أعرف بضميري منكراً ولا أتزكى بهذا. والقديس السلّمي لما تأمل بكلمة الرسول: لا أتزكى إستنتج منها عمل هذا التأمل نفسه وصاح قائلاً: أن من هذه الجهة ينبغي لنا أن نوجب الحكم على أنفسنا دائماً ونذمها لنطرح بتذللنا الطوعي خطاياها الكثيرة. وإن لم نفعل ذلك فنحاسب عليها عند خروجنا من الدنيا أصعب محاسبة إضطراراً إنتهى كلام القديس.
وكأنه يقول أن إحتقارنا ذواتنا ومذمتها هو أمر لازم ضروري لئلا نسقط تحت خطر دينونة الله من قبل أنّ الرسول الذي لم يعرف بضميره حس الخطأ يقول أنه غير بريء من النقص، لا يتزكى، فكيف نحن؟ لنفرض أننا أبرار أهل قداسة فما هو برّنا وقدسنا بالنسبة إلى برّ الرسول؟ فإذاً قد صح أننا خطأة وتحت العيوب الكثيرة لا وقتاً دون وقت بل دائماً من قبل أنّ البار يسقط في اليوم سبع مرات أي كثيراً كقولك مثل كلام بطال وأفكار قليلة بطالة وكسل خفيف في ما هو فرض لازم أو لازم من غير فرض كصرف الزمان ومودة الأخوان وغيره.
ولنعرض عن التأمل بالكثيرات ونفطن في محبة الله فقط هذه التي تلزمنا أن تكون من كل القلب والقوة. والحال كما قال كثير من العلماء أن هذه الوصية لا تكتمل في هذه الدنيا ولا بد من أن ننقص بها ولو كنا أبراراً. إذاً أين الفضيلة التامة أين القداسة؟ حقاً إنّ قول النبي صادق وهو صرنا جميعاً كالنجاسة وكل برّنا كخرقة الحائض. وقال القديس غريغوريوس الكبير أنّ كل عمل صالح نعمله أن حكم الله عليه بصرامة عدله يثبت إثماً لا برّاً والذي نكون توهمناه يستحق ثواباً يستحق عقاباً فهذه هي معرفة المتواضعين ذواتهم وهذه هي تأملاتهم طبق ما قاله فيهم القديس السلّمي أنهم يحتسبون كافة الصالحات التي يعملونها لا شيء وكأنها رذالة ويتوهمون أنهم كل يوم يزيدون في خطاياهم وأنّ زيادة مواهب الله زيادة دينونة لهم إنتهى كلام القديس.
وجملة معناه أنّ المتواضعون لا يرون في ذواتهم إلاّ النقص والعيب فقط وفهمهم ذلك صحيح، وغير ممكن أن يرى المتواضعين غلطاً أو يتأملون عبثاً إذ المفهوم عند العلماء قاطبة أنّ الإفراز هو للمتواضعين دون غيرهم وقد يقتضي إفرازهم أنه ليس فقط لا يوجد في الإنسان إلاّ النقص والعيب بل ولا يمكن أيضاً للإنسان أن يدرك نقصه وعيبه كله لشدة قبحه وعظمه. والكلام في إثبات ذلك عندهم كثير، غير أنّ البرهان فيه واضح وهو أنه لا يقدر أحد يقول أني أدركت دناءة نفسي وشناعة عيوبها مثل الله.
فيقول قائل إذاً ليس في القديسين برّ ولا فضل البتة.
فيجيبه الأب ردريكوس ويقول من هنا وقعت الصعوبة في تعريف كمال التواضع لأنّ حقيقته تقتضي أنّ ليس للإنسان عمل البتة والإنسان يقتضي أنّ له عملاً ونحن نقول أنه لا يليق بالقليلي المعرفة مثلنا أن يتفهم إلاّ أن معرفة المتواضعين ذواتهم وتأملاتهم كلها تنحصر في التأملين السابق شرحهما أي أنّ الإنسان ليس هو بشيء ولا يقدر على شيء وأن أعماله كلّها معابة ومرذولة من قبل زلاته الكثيرة المتواصلة.
وقد جاء الأب ردريكوس بلفظتين يتضمنا معنى التأملين المذكورين بالتمام وقال أنه من المحقق أن الإنسان ليس هو سوى العدم والخطأ. فالعدم يختص له التأمل الأول والخطأ التأمل الثاني، أما برّ القديسين وفضلهم فمن حيث هو نعمة فليس هو لهم بل لله بدليل قول الرسول أنّ نعمة البرّ لو تكون من قبل الأعمال لما كانت نعمة لأن النعمة هي ما كانت مجاناً. إذاً البرّ والفضل لله والعدم والخطايا للإنسان وأفكار المتواضعين لم تزل تفكر بهذا وعقولهم تتأمل به وهم دائماً يائسون من ضعفهم كما سبق القول في تعريف هذه الدرجة.
ومن قبل هذه التأملات يحصلون في أغرب حال وأعجب مثال وهو إجتماع الضدّين فيهم معاً أي يحصلون في الفرح والحزن والخوف والسلامة معاً لأن معرفتهم ذاتهم تغيصهم في الحزن والخوف فتشمئز ذاتهم من ذاتهم وتخاف نفوسهم. لكن هذه المعرفة وهذه الحالة تجعلهم أن يهربوا إلى الله ويطرحوا ذاتهم عليه. ولأن الله كما قال النبي لا يخيب المتكلين عليه يمنحهم إنعامه التي تفيدهم الإطمئنان والسلام والفرح ويجيبون ربهم بتمجيد وشكر متواضع قائلين من أين لنا أن تأتي نعمة ربنا إلينا.
ولممارستهم هذه التأملات وهذه الأحوال وإعتيادهم عليها تصير فيهم ملكة وتثبت معهم إلى الموت كما صار بالأب بيمين والأب سيصويس وغيرهما.
فالأب بيمين قال في ساعة موته الصالحة أنه ذاهب للرب مثل المبتدئ بالتوبة.
والأب سيصويس قال أيضاً في ساعة موته للرهبان الذين حوله أنه عاين جماعة من الرسل والأنبياء والأب أنطونيوس حضروا عليه ليأخذوه فطلب منهم أن يمهلوه قليلاً ليتوب فقال له الرهبان أنت يا أبانا لا تحتاج إلى التوبة فأجابهم القديس ما علمت بنفسي قط أني إبتدأت بالتوبة كما يجب.
فمثل هؤلاء يُرى فيهم ما قلناه بالتمام أي الخوف والطمأنينة والفرح والحزن.
فالفرح والطمأنينة من حيث أنهم عارفون بمضيهم إلى الملكوت صحبة القديسين.
والحزن والخوف من قبل معرفتهم ذاتهم وضعفهم.
وقد شبههم أحد الآباء بغلام حاف عريان يحمله والده على ساعديه ليجتاز حقلة مملوءة شوكاً وحسكاً مسماً. أما الغلام فمعرفته عريه وعاره والخطر القريب إليه إن طرحه أبوه عن ساعديه فيطرح ذاته بكل قوته على صدر أبيه ويلصق به بوجهه ويديه ورجليه وحينئذ فمن جهة ذاته يكون خجلاناً حزيناً مرتعداً. ومن جهة ثقته بشفقة أبيه عليه يكون مطمئناً فرحاناً، ومن هنا ينفتح له باب الحب نحو أبيه، الذي هو الله تعالى، وتنهزم أسقام عزمه، حسبما يقول القديس السلّمي وغيره: إنّ كثرة التواضع إبتداء الحب وزوال أسقام العزم إذاً درجات التواضع يبلغ كل منها مبلغاً من إبتداء الحب وزوال أسقام العزم بحسب اعتبارها.
وقد أوضح لنا أبونا أنطونيوس تمييز هذا الإعتبار والتفاوت والفرق الذي فيه وجملة معاني درجات التواضع السعيد وصفة فاعليه ومفعولاته بوجيز من الكلام يتضمن كل معنى قلناه وسبق الشرح فيه. وذلك مما جاء عنه في البستان أنّ يوماً ما زاره بعض الرهبان بقصد المنفعة حسب عادتهم وسألوه أن يفيدهم تعليماً. فقال لهم القديس الإنجيل المقدس يقول من لطمك على الخد الأيسر حول له الأيمن فأجابوه الرهبان لا نقدر على ذلك فقال لهم الأب إن كنتم لا تقدرون على هذا فأرضوا باللطمة الواحدة فأجابوه ولا على هذه نقدر فقال لهم إن كنتم ولا على هذه تقدرون فلا تطلبوا أن تستوفوا عوض اللطمة فأجابوه ولا على هذه أيضاً نقدر فالتفت الأب إلى تلميذه وقال له أطبخ لهؤلاء عدساً وأطعمهم لأنهم مرضى. ثم قال لهم إن كنتم ولا على هذه تقوون فاعلموا أنكم تحتاجون صلاة كثيرة ، إنتهى الخبر.
ومنه نأخذ رسوم درجات التواضع بعكس الترتيب أي الأولى والثانية والثالثة الأولى لأن الدرجة الأولى من شرحنا السابق تختص بأفعال الإحتقار والثانية بالرغبة وتمام الرضى بالهوان والدرجة الثالثة تختص بالفرح وتحويل الخد الآخر وقت اللطم والهوان. وهذا على التقريب رسم مفيد. فمن كان خالياً من هذه الصفات الثلاث إجمالاً قال أبونا القديس فيه أنه مريض أي سقيم بالآلام النفسانية ومشرف دائماً على خطر الهلاك ومحتاج إلى صلاة كثيرة ليفلت من الهلاك. هذا على قول أبينا القديس وتسميته له بالمريض على أنّ المريض أقرب من الموت إلى الصحة.
وهكذا من لم توجد فيه واحدة من هذه الدرجات هو أقرب للهلاك من الخلاص.
ولما كان ذلك كذلك رسم لنا القانون وسائط تساعدنا على إقتنائها وهي الفرائض الآتية وعددها ثلاث.
الفريضة الأولى : يجب على الراهب أن لا يطلب التقدم في شيء ما البتة بل يرغب في أن يتقدمه غيره في الرتبة وأن يكون الأدنى في المقام.
قال الرب من أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن للكل خادماً أي من أراد أن يتقدم بالفضل فليتأخر بالمنزلة فيعظم على الكل محلاً لأن من يتضع يرتفع الذي معناه من يتضع أكثر يرتفع أكثر.
والآباء القديسون قد حقّقوا لنا هذا بأقوال كثيرة لا تعد كثرتها وأثبتوا صحة تعليمهم بعملهم لأنهم كانوا يتطايروا هرباً من كل تقدمٍ ورفعةٍ منزلة ورتبة مطلقاً حتى أنّ بعضهم تركوا ما كانوا فيه من سموّ الرتب وهربوا إلى حيث لا يُعرفوا وسلكوا بمنزلة الخدام والصعاليك رغبة في دناءة المقام والرتبة.
والكتب الروحية مملوءة من مثل هذه المعاني والأخبار.
فيقول قائل أننا وجدنا البعض من القديسين قد طلبوا لذواتهم المقام الرفيع وأمروا أيضاً بطلبه كما جاء عن آشعيا النبي أنه قال للرب هوذا أنا أرسلني والرسول قال من إشتهى الكهنوت فقد إشتهى عملاً صالحاً.
فنجيبه أولاً أن المقام السامي المختص بالله مثل الرسولية هو من ذاته صالح جليل ومفيد جداً لمن يخدم به أكثر مما سواه من الحالات لأنه درجة الرسل القديسين الأشرف حسب قول الرسول أن الله وضع في بيعته أولاً الرسل أي أن الرسل والمدبري الأنفس هم أشرف من المدبَرين منهم. لكن هذه الدعوة ليست للكل بل للمدعوين لها فقط والدعوة صنفان:
فالصنف الأول هو من دعاه الله بنفسه مثل موسى أو بواسطة غيره مثلما دعى هارون بواسطة موسى. والصنف الثاني هو من دعاه الناس على تقدير دعوة الله. فالصنف الأول طاعته لازمة بمعزل عن الشكوك والصنف الثاني يلزمه الإفراز لوقوع الشك فيه من حيث أن كثيراً من الرؤساء يدعون الذين تحت يدهم إلى قبول الرتب بالغلط وبغرض بشري لا إلهي.
فإن قلت وما هو الإفراز الواجب فعله في مثل هذا العارض متى عرض؟ أجبتك أن التعاليم التي أوردها الآباء في إفراز هذا الأمر تنحصر في أربعة أفعال:
– الأول أن لا نطلب التقدم لذاتنا بذاتنا.
– الثاني لا نختلس التقدم بواسطة أحد أو بالحيلة مطلقاً.
– الثالث أن نعتفي في التقدم ونعتذر بضعفنا متى دعينا إليه كما يليق بشكل التواضع.
– الرابع أن نقرّ ونشهّر لدى داعينا خفايا الضعف والموانع التي فينا المانعة لنا عن قبول التقدم بالتمام والكمال. فإن أنت كنت فاعلاً هذه الأفعال الأربعة وأمرك بعدها الذي له الحكم عليك بالتقدم وقبول أي رتبة كانت فاعلم أن دعوتك صادقة لا شك فيها ولست بطالب الرفعة لنفسك ولا مخالفاً لقانونك وإنجيلك البتة بل أنت بمنزلة آشعيا النبي وكأنك سمعت الرب يقول: لمن نرسل؟ ولما تحققت أنه يريدك قلت له هوذا أنا أرسلني. لا لتكميل رغبة تخصك بل لتكميل مشيئة الله وخوفاً من التهويل الذي لحق بطرس عندما إعتفى بالجفاء من غسل قدميه.
وبعد قبولك الرتبة لا تنخدع متهاملاً بها بمنزلة من ليس عليه خطر من الإهمال بواجبها ظاناً بنفسك، من حيث أنك لم تطلبها ولا أخذتها من قبل ذاتك، إنك لا تُدان لأجلها. فإن هذا خداع الشيطان يقصد به، من حيث لا يقدر أن يغتال عليك في قبول الرتبة، أن يغتال عليك في خدمتها. أُذكر يا صاحب الوزنة، مصيبة صاحب الوزنة الواحدة والبلاء الذي حلّ بشاول ملك إسرائيل ذاك الذي لم يطلب الملك لنفسه قط بل الرب إنتخبه ولما وُجد متهاملاً فيما إنتخب له وغير مستقيم بواجب العمل رذل وهلك وهكذا يصيبك أيها المتسلم من رئيسك أيّ رتبةٍ كانت إن أنت تهاملت بواجب عملها.
التقدم، على رأي الآباء جميعاً، صار سبباً لسقطة كوكب الصبح من السماء. وقد كان في حين ترتيبه في التقدم صالحاً لا طالحاً. فإذا كان هذا خطر التقدم في السماء فكم يكون في الأرض! وإذا حلّ من قبله هكذا في الصالحين الذين تسلّموه بحال البرّ وكما يجب، فماذا يحل من قبله بغير الصالحين الذين يتسلمونه بخلاف ما يجب أي بخلاف الشروط الأربعة السابق ذكرها.
قال الحكيم نفس الصديق بيد الرب لا يدنو منها عذاب الموت. الصديق هو المتواضع وعذاب الموت هو فعل الإثم الذي نفهمه هنا محبة التقدم وشهوة الرتبة الفاضلة. فهذه قال الرب على لسان الحكيم لا تدنو من المتواضع. وكما أنّ الحجر من طبعه لا يطلب الصعود بل النزول هكذا طبع التواضع يقتضي الهرب من التقدم مطلقاً وبه يصير مستحقاً له.
أتريد أن تعرف إن كنت تستحق التقدم أم لا؟ إفحص ذاتك إن كان فيك التواضع لأن الرب، يقول ليكن المتقدم كالخادم أي متواضعاً. أتحب أن تتحقق إن كنت متواضعاً أم لا؟ إفحص قلبك إن كنت تجده بريئاً من الميل نحو التقدم لأن القديس السلّمي يقول إن كنا نؤثر بحس نفسنا أن يتقدمنا في كل شيء قريبنا فنعمة التواضع قريبة منا.
إذاً إن شئت أن تصير مستحقاً للتقدم يجب أولاً أن تنظف قلبك من الميل إليه. وهذا لا يصير إلاّ بالهرب منه بكل القوة مستدلاً في ذلك على ما عندك من التواضع وربنا تعالى بما أنه صار لنا رسماً في كل المحامد رسم أيضاً لنا هذه المحمدة حين هرب من أيدي الذين عزموا أن يقيموه عليهم ملكاً. واتّبعه في ذلك كثير من الآباء وكل متواضع على الإطلاق. وكما أنه تبع بأمر الله الآب إقتبل، بعد إقتباله التنازل التدبيري، كل سلطان، كقوله تعالى، أعطيت كل سلطان ما في السماء والأرض. هكذا المتواضع بأمر من له الحكم وبعد الشروط الأربعة السابق ذكرها يقتبل كل رتبة وتقدم فاضل.
والذي قلناه على التقدم مطلقاً يفهم أيضاً على الكهنوت مطلقاً أي الشماسية والقسوسية ورئاسة الكهنوت. فإن إحتج السقيم بمرض محبة الكهنوت أنّ الرسول يقول إنّ المشتهي القسوسية قد إشتهى عملاً صالحاً أجبناه غرض الرسول ههنا بالقسوسية خورنة الشعب والأسقفية. هكذا قال المفسرون. ومن هذا يتضح أنّ خطاب الرسول يتجه بهذا نحو العالم خصوصاً لا الرهبان.
ثم إن تأملنا نجد أنّ الرسول قصد بهذه الجملة مديح الذين يغارون في العالم على الفضيلة وتنشيطهم لأنه بعد مديحه لمن إشتهى الخورنة قال يجب أن يكون هذا متصفاً بعدم العيب ويحسن أن يدبّر بيته لأنه إن كان لا يحسن تدبير بيته فكيف يحسن تدبير بيعة الله. وكأنه قال إنّ الإنسان المشتهي أن يكون خوري رعية ويسعى حسناً بتدبير نفسه ورعيته فهذا قد إشتهى عملاً صالحاً. وكثيرون من مفسري هذه الرسالة قالوا أنّ الأسقفية والخورنة كانت في أيام الرسول درجة تعب. وكان الأسقف والكاهن يُساق أولاً إلى عذابات الشهادة قدام الشعب. وحينئذ كان طلب الكهنوت ممدوحاً لأنه شهوة سفك الدم. وهذا القول ليس له علاقة بالرهبان. ولا له معهم ونحوهم ملاحظة قط كما يذكر القديس باسيليوس في شرحه عن رحمة الأهل والأقارب:
قال إن قلنا أنّ الرسول يقول إنّ الذي يمسك رحمته عن أقاربه هو أشرّ من الذين كفروا، أجبتك أن هذه الوصية هي لأهل العالم لا للراهب الذي مات عن العالم. وهكذا بالتمام نقول نحن في شهوة الكهنوت الصالحة أنها قيلت لأهل العالم لا للرهبان الساعين بالإماتة والتواضع. فإن أنت إشتهيت الكهنوت فقد ماثلت من إشتهى رحمة أهله. وهذا عند من يعقل واضح الخطر والإمتناع منه لازم لأنه يعاند الكمال الرهباني.
وقد نبه على الإمتناع منه القديس باسيليوس حيث قال ينبغي للراهب أن لا يطلب أن يصير كاهناً أو متقدماً لأنّ هذا مرض شيطاني لأنّ الشيطان إنما سقط هذا السقوط العظيم لأجل هذا المرض الردي. والذي وقع في هذا المرض يحسد الذين يستحقون أن يصيروا كهنة ورؤساء ويغمز عليهم ويطلب لهم الموت ليصير في رتبتهم ويصير بينه وبين الرئيس قلق وشك وسجس كثير ويبتعد الله عنه- إنتهى كلام القديس-
ومنه نفهم خطر شهوة القسوسية المظنون بها عند السقيم بها أنها صالحة.
وجملة الكلام هو أن التقدم على غيرنا وإقتبال الرتب والوظائف يوافق الآلام التي فينا ولأجل ذلك لا يليق ذلك بنا بل بالمتضعين المتبرئين من الآلام لأنهم وحدهم يعرفون أن يتقلبوا بالرتب المتقدمة ولا ينفعلوا للطبيعة الفاسدة واللذة الألمية. أما نحن السقماء بالأوجاع النفسانية فإننا نستلذ بأدنى رتبة دنية وننفعل للعجب والفرح الطبيعي الفاسد. فلأجل ذلك لا يليق بنا قبول التقدم وشهوته كهنوتاً كان أم غيره إلاّ إذا دعينا إلى ذلك من الرئيس وبعد عملنا الشروط الأربعة السابق ذكرها فحينئذ نقتبل ما دعينا إليه بأمانة في أنّ الطاعة هي تجعلنا أهلاً لدعوتنا ونكون غير مخالفين لهذا القانون الذي أمرنا بالتنازل بالرتبة والمقام بل محتفظين به على التمام.
الفريضة الثانية : ولتكن حركاته وأعماله الخارجية التي تخصه جميعها ذات دناءة وحقارة بالنسبة إلى إخوته
الحركات والأعمال الخارجة التي تخصنا هي شمائل الكسوة والأكل والشرب وما يخص إستعداد النوم من الفراش والقلاية وهيئة سكنى القلاية وحركات المخاطبات والقراءة والصلاة وأنواع التخطر في المشي وزي الجلوس والقيام وترتيبات عمل اليد وبالجملة كل حركة خارجة يتحركها الراهب تلك يجب أن يلاحظ فيها زي التواضع أي الدناءة والحقارة بمعزل عن نقص الإحتشام. لأنّ هذا العمل واسطة جيدة لإمتلاك التواضع. قال القديس السلّمي لما علم ربنا أن نفسنا تتشكل بالسيرة الظاهرة تناول إزاراً وأرانا مسلك التواضع لأنّ النفس تتشبه بالمهن الظاهرة وتتمثل بما يعمله جسمها وتتشكل على حذو شمائله. وقال القديس باسيليوس فليقبل الإخوة بفرح ونشاط كافة الأعمال الدنية إمتثالاً للرب يسوع المسيح مخلصنا لما غسل أرجل تلاميذه وقال أيضاً ينبغي للمجاهدين في العبادة أن يتضعوا في كل شيء وقال القديس إسحق كن فقيراً لأجل التواضع ولا موسراً لأجل التواقح وقال القديس إفرام عدم الأدب هو أن يأكل الراهب الخبزة الصحيحة والكسر موضوعة قدامه.
وجملة الكلام أنه ينبغي للراهب من حيث وجوب التواضع أن يسعى في أعماله وحركاته التي تخصه جميعها بنوع الحقارة والدناءة كما رسم القانون بالتمام.
وهذا المعنى نتحققه بالأكثر من سيرة الآباء الكاملين التي هي قدوة العبادة. فكانوا كما هو المشهور عنهم، في كل أعمالهم وأحوالهم، يسعون بالزي الأدنى والأحقر حتى أنّ بعضهم لم يمتلكوا ثوبين وكانوا يلتزمون متى غسلوا ثوبهم أن يغسلوه بأيديهم عريانين. أما دناءة ثيابهم ومأكولهم فذاك يطول شرحه وحكي عن القديس مكاريوس وغيره أنه لما كان الرهبان يدنون منهم بشكل إكرام وإحترام ويسألونهم مسألة فما كانوا يردّون لهم الجواب ولما كانوا يسألونهم بشكل من لم يعتبر أنهم علماء أفاضل فكانوا يجيبونهم بكل حب ووداد وحكي عن القديس بيمين وغيره أنهم طلبوا من الله أن يأخذ منهم نعمة إعتبار الناس لهم ويرفعها عنهم. وكثيرون كانوا يحسنون الكتابة ولم يعملوا إلاّ الخواص وغيره من الأعمال الوضيعة. وكثيرون فضّلوا الطاعة على السكوت مع قدرتهم على الإنفراد، لذل عمل الطاعة أكثر من السكوت. وما أكثر الذين أخفوا حكمتهم وعلمهم وتظاهروا بالسذاجة وما أكثر الذين كتموا شرف حسبهم وغناهم وتظاهروا كالأدنياء في الناس والفقراء حتى أنّ بعضهم تظاهروا بشكل الجنون ونقص العقل وهم مملؤون من الحكمة وداموا في مثل هذا التحامق البديعة حكمته زماناً مديداً.
أما الذين تركوا رئاستهم وتغربوا وعاشوا أُجراء تحت يد غيرهم تمتعاً بلذة الصعلكة فأخبارهم مشهورة عند الكثيرين لا يسع هذا المختصر شرحها. والواجب أن نختصر القول ونكتفي بجملة واحدة تفيدنا الإقناع بالمعنى المقصود أكثر من جميع ما قلناه وهي:
إنّ سيّد الكل وخالق وضابط الكل فضّل طريقة الحقارة على الكرامة وسعى بها منذ مولده إلى موته الأذلّ من كل موت. ولما اختار له تلاميذ لم يختر إلاّ الأحقر رتبة في الناس ولما أراد أن يعلمهم التواضع علمهم بالعمل وخدمهم أدنى خدمة عندما غسل أرجلهم. ولم ينتخب له أُماً غنية. وأبوه كان نجاراً. وإستعمل هو صناعة أبيه. ولما دعته سياسة تدبيرنا أن يركب، ركب جحشاً غير مروض وأتاناً. وكان خبزه غالباً شعيراً ومرات كثيرة سمي مجنوناً والخلاصة أنه لم يسلك في هذه الدنيا إلاّ السلوك الأدنى والأذّل بالنسبة إلى وظيفته ورتبته.
وهذا هو الذي يريده القانون أن نكون بالنسبة لا إلى العالميين بل بالنسبة إلى الرهبان نسعى بالزي الأدنى والأحقر كما قال القديس باسيليوس: في أمر الكسوة لا يقصد أحد ما حسُنَ من اللباس أو الأحذية لكن يختار التي هي دون. لأنّ الذي يريد أن يأخذ الأفضل ويدع لغيره الدون فهو متكبر وبعيد من المحبة. وحكي عن القديس مكاريوس أنه كان مرة ما سائراً في البرية وعلى ظهره حملة خوص قطعها من النخل فظهر له الشيطان بشكل رجل وطلب منه أن يعطيه شيئاً من الخوص فقسم القديس الخوص قسمين وقال للشيطان وهو يتوهمه إنساناً خذ لك القسم الذي تريده. فأجابه اللعين: لا بل خذ أنت أولاً. فأطاعه القديس وأخذ القسم الذي ظنه أنه الأصغر. فحينئذ إغتاظ اللعين وقال للقديس يا مكاريوس ما حرقني إلاّ تواضعك وغاب لوقته.
ولنختم كلامنا بالتعليم الذي تسلمه أحد الرهبان من سيدتنا مريم العذراء وذلك أنّ هذا الراهب كان حاصلاً وقتاً ما في شدة من التجارب الفكرية ولأنه كان متعبّداً لسيّدة الكل ظهرت له المباركة ونيحته من التعب الذي كان عليه وقالت له إحتفظ يا ولدي بما أوصيك وهو أنك من الآن فصاعداً تجتهد في أن تميت نفسك وتحقرها في ثلاثة أشياء فيها الكفاية لنفعك وهي الرتبة والكسوة والطعام وغابت لوقتها.
وهاتان هما الفريضاتان الأولى والثانية، اللتان رسمهما لنا القانون في هذا الباب بالتمام، لأنهما يتضمنان الإماتة وإحتقار الذات في الرتبة والكسوة والأكل والشرب. فمن حيث أنّ هذا التعليم جاءت به سيدة الكل نفسها والقانون، فلذلك صرنا ملتزمين بزيادة الجد والإجتهاد بحفظه والعمل به بفرح، لكيما بشفاعة أم إلهنا وأبينا أنطونيوس، واضع أصول قوانين الرهبنة، نبلغ ملكة التواضع التي هي المقصود.
الفريضة الثالثة : وفي كل حادث يدعو إلى الكلام والإحتجاج يسبق أخاه بكلمة إغفر لي
لفظة إغفر لي من المذنب للمذنب إليه هي وصية إلهية بدليل قوله تعالى: إذا أنت قدمت قربانك وذكرت أنّ أخاك حاقد عليك من قبل إساءتك إليه، فاترك قربانك على المذبح وإذهب أولاً صالح أخاك وبعد ذلك تعال قرب قربانك.
هذا لم يذكره القانون لنا، من طريق أنه لا يليق بنا أن نقف عند هذا الحد اللازم أهل العالم، بل أن نتراقى إلى ما هو أعلى حسب دعوتنا لسعي الكمال. أي أن نطلب الغفران لا من الذي أسأنا إليه فقط بل أيضاً من الذي أساء إلينا. لكن لا على الإطلاق بل على ما يقتضيه الإفراز، أي من حيث لا يحدث من قبل إستغفارنا وتواضعنا الشكوك، كما جاء عن أبينا أنطونيوس، أنه حين ثُلب بأنه تابع رأي آريوس اللعين، لم يستعمل حينئذ إماتة النفس في ذلك بل إنحدر إلى مدينة الإسكندرية وأشهر كذب الذين ثلبوه ونقض أقوالهم. وهكذا كافة الآباء لم يكونوا يقتبلون على ذواتهم التهمة بالأرطقة والكفر البتة.
أما باقي الخطايا فعلى ما يقتضي الوقت والإفراز. لأنّ بعضهم إحتملوا التهمة بالزنى والسرقة وغير ذلك، واستعملوا إماتة النفس بصبر عظيم. وأخبارهم مشهورة وكثيرة. وبعضهم لم يرضوا بذلك بل برّروا ذواتهم من القذف الردي، أما الإحتجاج الواضح، كما صنع القديس أتناسيوس الكبير حين اتّهم بالزنى وأشهر كذب الزانية والذين علّموها لتثلبه، أما بالعجائب والمعجزات، كما صنع القديس أفرام حين جعل الطفل، المتهوم به بأنه أبوه، أن ينطق ويقول: هذا أفرام، ليس أبي، بل أبي إفرام آخر غير هذا.
وبالجملة أنه يجب ههنا أن نلاحظ ما يقوله الحكيم أنّ لكل شيء وقت. فحيناً يجب أن نظهر كذب من يثلبنا. وهذا خاصة إذا كان الكلام في الأمانة، كما تعلم جميع الآباء. أما ما يكون غير الأمانة، فحيناً يجب، لأجل الشكوك، أن نبرئ حالنا من التهمة الباطلة، كقول الرسول: لماذا تدان حريتنا من آخرين، وحيناً لأجل إماتة النفس والتواضع، نوجب اللوم على ذواتنا ونثلب ذواتنا. لكن الحادث الذي لا يصدر من قبله الشك، كالمقاومة والمحادثة في كل أمر يخصنا، ولا يلحق الضرر منها لغيرنا، فتلك خصوصاً يجب أن نحتملها ونجيب مَن رأيه فينا غير رأينا، بكلمة إغفر لي ، لأن هذه واسطة جيدة لاكتساب التواضع. لا سيما إذا صدر من قبل المحادثة حقد وغيظ، فحينئذ يجب أن نسبق ونستغفر من الذي إغتاظ وكان هو المذنب إلينا.
وبعض الآباء جعل هذا حد التواضع وقال: التواضع هو أن نسبق ونحلّ غيظ من أساء إلينا ونتفاداه. وقال القديس السلّمي: إن الذي يماحك ليقيم كلمته في الخطاب، وإن كان ما يقوله هو الصواب، فهو متكبر وليس بمتواضع. وما أحسن ما قال القديس أفرام في هذا المعنى: أنّ الراهب المتواضع هو ساع سريع المشي ورامٍ صائب الإشارة. أي يسرع بكلمة إغفر لي ويحسم بها شروراً كثيرة ويصيب الهدف والغرض بأول رمية ويستريح وينيّح أخاه.
ولذلك كثير من الآباء يحثون على ممارسة كلمة إغفر لي وأن نقطع منا المماحكة لأنها تفسد الحب وتعاند التواضع عناداً قوياً. وما أكثر الآباء الذين نهوا عن المماحكة وحثونا على التواضع بالكلام لأن المتواضع بكلامه هو نظير المتواضع بالعمل. فيأخذ لنفسه الدون ويعطي أخاه الأفضل، كما مرّ الشرح في الفريضة السابقة. لأن قولك لأخيك إغفر لي كأنك قلت له: الصواب لك والغلط لي. وهذا تواضع حقيقي من حيث أنك حقّرت ذاتك لكي تعظم أخاك. وقال أحد الآباء: إنّ الذي يقول لأخيه إغفر لي فإنه يحرق الشيطان.
لكن هذا الفضل العظيم ليس هو لكل من قال لأخيه إغفر لي على الإطلاق، بل للقائل ذلك بفمه وقلبه معاً. لأن من يقول ويتواضع بفمه، ولا بقلبه، فذاك مُرابٍ. وحدّ المراءاة هو العمل بالفضيلة ظاهراً لا باطناً. وصاحب هذا الحال لا يفلت من الويل المشهور في الأناجيل المقدسة لأهل الرياء، ولا أيضاً يستفيد فائدة البتة من عمل التواضع والحب. لأن التواضع والحب مذهبهما بسيط بري من الخبث. فإن شئت أن تمتلك تواضعاً وحباً، تجنب الخبث وإستغفر ممن أساء إليك بفمك وقلبك. فحينئذ تكون كمن أصاب الإشارة.
قد جاء في البستان عن إثنين من الرهبان جرى بينهما غيظ وحقد. فذهب أحدهما، وهو غير مذنب، ليستغفر من أخيه، فلم يفتح له الباب. فرجع وشاور أحد الآباء بذلك. فقال له الشيخ: ربما أنك ذهبت إليه وفي قلبك أنه هو المذنب إليك، ولذلك لم يقنعه الله أن يفتح بابه لك. لكن إذهب إليه ثانياً وضع في قلبك أنك انت المذنب إليه، فيقنعه الله ويفتح لك الباب وتصطلحا. فأطاع الأخ الشيخ وذهب وفي قلبه أنه هو المذنب إلى أخيه. ولما وصل إلى أخيه بادر ذاك وخرج إليه وإستغفر أحدهما من الآخر وتسالما بالتمام. وإستثمر الأخ من عمله هذا التواضع والحب.
وهكذا الواجب على كل من يقول لأخيه إغفر لي ، أن يقول ذلك بالفم والقلب ليستفيد ويفيد: فيستفيد تواضعاً ويفيد حباً. وهذا هو غرض القانون بهذه الفريضة بقوله: في كل حادث يدعو إلى الكلام نسبق أخانا بكلمة: إغفر لي .
١ نهاية هذه الدرجة والدرجة الثالثة بكاملها، ساقطتان من النسخة الأصلية التي إعتمدناها لنشر الكتاب. فنسخناهما عن مخطوطة دير روميه، للرهبان الحلبيين اللبنانيين، المنقولة عن الأصل الكامل سنة ١٧۲١.
No Result
View All Result
Discussion about this post