بشارة مريم العذراء
الأحد 20 تشرين الثاني 2011
البشارة لمريم (لوقا 2: 26 – 48)
البشارة لمريم بداية تحقيق تصميم الله الخلاصي، وقد بلغ ملء الزمن لتحقيقه بعد أن هيّأه الله بابراهيم وموسى والأنبياء والمزامير. وأعدّ مريم إبنة يواكيم وحنّة من الناصرة، لتكون أم ابنه الازلي فتعطيه جسداً بشرياً ليتمم عمل الفداء والخلاص. ما يعني أنّ الله هو سيّد التاريخ ، وأن الإنسان، كل إنسان معاون له في صنعه. هذا ما يولي كل شخص بشري كرامة وقدسية، ومريم العذراء هو المثال بامتياز.
أولاً، شرح نص الإنجيل
من إنجيل القديس لوقا 1 : 26-38
26 وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة* 27 إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف و اسم العذراء مريم* 28 فدخل إليها الملاك و قال سلام لك أيتها المنعم عليها الرب معك مباركة انت في النساء* 29 فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما عسى أن تكون هذه التحية* 30 فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله* 31 و ها أنت ستحبلين و تلدين ابناً و تسمينه يسوع* 32 هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى و يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه* 33 و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية* 34 فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً* 35 فأجاب الملاك وقال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله* 36 وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها و هذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً* 37 لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله* 38 فقالت مريم هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك فمضى من عندها الملاك*
إنّ مضمون بشارة الملاك لمريم نعلنه في قانون الإيمان: ” ونؤمن بربّ واحد يسوع المسيح، إبن الله الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصار انساناً”. انه لسرّ عظيم: ملء الالوهة تسكن في جسد بشري! يا لمحبة الله الفائقة للبشر، ولتواضعه العجيب! ويا لقيمة الجسد البشري!
1- لقد هيّأ الله مريم، نفساً وجسداً، لتكون مسكن القدوس. فحيّاها الملاك مهنّئاً، لأنها “مملوءة نعمة” (لو28:1) ذلك أنها افتُديت منذ اللحظة الأولى للحبل بها، فعُصمت من الخطيئة الأصلية، الموروثة من آدم وحواء، التي يولد فيها كل كائن بشري، وذلك بإنعام من الله القادر على كل شيء، واستباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري. وهي عقيدة إيمانية أعلنها البابا الطوباوي بيّوس التاسع في 8 كانون الاول سنة 1854.
إن قداسة مريم الكاملة أتتها من المسيح، الذي منه كل بركة روحية في السماء، والذي به ومن أجله اختارها الله، في سرّه المكتوم منذ الدهور، لتكون مقدسة وبدون عيب أمامه، بحبّ كبير. في الواقع، بفضل انتصار المسيح على الخطيئة، وعصمتها من دنس الخطيئة الأصلية، لم ترتكب، بنعمة خاصة من الله، أي خطيئة شخصية طيلة حياتها على الأرض، كما علّم المجمع التريدنتيني. فكانت “حواء الجديدة” التي صارت سبب خلاص، فيما حواء الأولى كانت سبب هلاك، كما ردد آباء الكنيسة: “الموت على يد حواء، والحياة على يد مريم” (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 494). لقد أبدعها الروح القدس، وجعلها خليقة جديدة. ولذلك، لم تعرف فساد القبر والانحلال بالموت، بل رفعها الله بنفسها وجسدها إلى مجد السماء. هذه عقيدة إيمانية أعلنها البابا بيوس الثاني عشر في أول تشرين الثاني 1950.
حيّاها وهنأها الملاك جبرائيل بالقول: “يا ممتلئة نعمة الرب معك” ، للدلالة أنّ الله ساكن فيها، أنها ممتلئة نعمة تأتيها من حضور مَن هو ينبوع كل نعمة. ولذلك تسمّيها الكنيسة “تابوت العهد”، المكان حيث مجد الله يسكن. إنّها “مسكن الله مع البشر” (رؤيا 3:21). هذا الإله الساكن فيها سيأخذ منها جسداً، وبالتالي هي بالتمام والكمال “ممتلئة نعمة والرب معها” (كتاب التعليم المسيحي، 490 و 2676).
2- بقوة الروح القدس تحبل مريم بابن الله وكلمته (لو34:1– 35). إنّ رسالة الروح القدس مرتبطة دائماً ومرتّبة لرسالة الإبن، كما يقول الرب يسوع نفسه: “جميع ما هو للآب هو لي، ولذلك إنّه يأخذ مما لي ويخبركم به” (يو 15:16). وبما أنّ الروح القدس هو الرب معطي الحياة، فقد أرسل ليقدّس حشا العذراء مريم، ويخصبه إلهياً، ويجعلها تحبل بابن الآب الأزلي في بشرية معطاة منها. وابن الآب هذا هو “المسيح” أي الذي مُسح بالروح القدس، منذ بداية وجوده البشري. وقد أعلن ذلك تباعاً للرعاة والمجوس ويوحنا المعمدان والتلاميذ، كما نقرأ في الأناجيل (كتاب التعليم المسيحي، 485-486).
هكذا ظهر مضمون تحية الملاك “ممتلئة نعمة، الرب معك” وهو أنّ الآب وجد في مريم “مكان سكناه” حيث يسكن ابنه وروحه القدوس بين البشر.
لقد رأى تقليد الكنيسة في سرّ مريم – سكنى الله، تجسيداً لما جاء في الكتب المقدسة عن حكمة الله: “أنا الحكمة أحبّ الذين يحبونني، والمبتكرون إليّ يجدونني، معي الغنى والمجد والبرّ. الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدته السبعة” (امثال 1:8 و17و18؛1:9)؛ “ارتفعت كالارز في لبنان، وكالسرو في جبل حرمون، وكغراس الورد في أريحا، وكالزيتون النضير في السهل، وكالدّلب ارتفعت” (سيراخ:13:24-14).
بهذا المعنى، نسمّي مريم في الليتورجيا “كرسي الحكمة” :
ففيها تمّم الروح “عظائم الله“: “تعظّم نفسي الرب، لأنّ القدير صنع بيَ العظائم”، كما سيتممها في المسيح وفي الكنيسة، هيّأها لتكون أم القدوس، فعصمها بالقدرة الإلهية من الخطيئة الأصلية؛ بقوة الروح القدس العذراء تحبل وتلد إبن الله؛ وبقوة هذا الروح وبإيمانها أصبحت العذراء أماً وظلت عذراء؛ إبن الله يصبح الآن إبن العذراء، ولذا تسمّى مريم “العليقة المتقدة” التي لا تحترق؛ بقوة الروح القدس الذي ملأها جعلت الكلمة منظوراً في تواضع جسدها، وأظهرته للرعاة الفقراء وللمجوس ممثلي الأمم، ثم لسواهم. وهكذا بواسطة مريم راح الروح القدس يُدخل البشر في شركة مع المسيح. هو الروح القدوس جعل مريم “المرأة“، حواء الجديدة، أمّ الحياة؛ وبالتالي أمّ المسيح الكلي، أي الكنيسة بكل مؤمنيها ومؤمناتها، المتمثلين بشخص يوحنا: “يا أمرأة، هذا ابنك! ويا يوحنا هذه أمك” (يو26:19و27). وبهذه الصفة، كانت حاضرة مع الإثني عشر في الصلاة عند حلول الروح القدس، يوم العنصرة، وهو يوم ظهور الكنيسة (كتاب التعليم المسيحي، 721-726).
3- أمام إرادة الله وتصميمه، الذي كشفه لها الملاك جبرائيل، أعطت جواب طاعة الإيمان: “أنا أمة الرب، فليكن لي حسب قولك” (لو38:2) وأدركت حقاً أن “ليس عند الله امر مستحيل”(لو37:2). على هذا الإيمان طوّبتها اليصابات، وستطوبها جميع الأجيال (لو45:1 و48). وهو إيمان ثبتت عليه من البشارة حتى الصليب حيث رأت ابنها مائتاً فوق خشبة العار. إيمان لم يتزعزع. وهي لم تنقطع أبداً عن الرجاء بأن كلام الله سيتم. ولهذا، تكرّم الكنيسة فيها أنقى تحقيق للإيمان والرجاء (كتاب التعليم المسيحي، 148-149).
في كل هذه الأمور، مريم هي مثال الكنيسة والمؤمنين بإيمانها ورجائها ومحبتها. مثال بتجاوبها مع النعمة الإلهية، وبجعل نفسها مسكن الله بين البشر، وبقبول إرادة الله كيفما تجلّت، وبالجهوزية للتعاون مع الله في تحقيق تصميمه الخلاصي.
ثانياً، الأخويات والمنظمات الرسولية – عمل الروح ومثالية مريم العذراء وشفاعتها
1- علّم المجمع البطريركي الماروني أنّ الأخويات والمنظمات الرسولية في الرعية هي ثمر من ثمار الروح القدس لأنها تستقبل المنضوين إليها بحسب الموهبة التي تتميز بها. وهي كنز ثمين للكنيسة وأحد مظاهر وجهها المواهبي. أعضاؤها مدعوون ليعيشوا خبرة حياة أخوية، وحياة مسيحية صافية. من الضروري مساعدتها لتكون خلايا حيّة في الكنيسة المحلية، وتنميتها لكي تعطي زخماً للحياة المسيحية وللبشارة، ولا سيما عند الشباب والعائلات، فيما غالباً ما تسيطر في المجتمعات ثقافة ماديّة تؤدي إلى نمط حياة بعيدة عن الله، وتقود إلى فقدان الإيمان. ولذلك لا بدّ من توفير تنشئة روحية وإنسانية واجتماعية، تنمّي لدى الجماعات المحبة للمسيح وللكنيسة، وتجعل من هذه الجماعات مدارس إيمان. هذا واجب كاهن الرعية الذي عليه تأمين الإرشاد والتنشئة، مستعيناً بكهنة ورهبان وراهبات من داخل الرعية ومن خارجها (النص المجمعي 13: الرعية والعمل الرعوي، 44-46).
نقرأ من الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” كلاماً مهماً للبابا بيوس الثاني عشر: “إن المؤمنين العلمانينهم اكثر من غيرهم في الخطّ الأمامي من حياة الكنيسة. والكنيسة من خلالهم هي العنصر الحيوي في بنية المجتمع البشري. وعليهم أن يدركوا أنهم لا ينتسبون فقط إلى الكنيسة، بل هم الكنيسة” (فقرة 9).
2- إنّ الإخويات والمنظمات الرسولية تنبثق من دعوة كل مسيحي إلى القداسة، وهي ثمار النعمة التي يحدثها الروح القدس في المؤمنين، وترتقي بهم إلى سمو الحياة المسيحية وكمال المحبة. وبالتالي إن كل أخوية ومنظمة رسولية مدعوة لتكون أكثر من فأكثر وسيلة للتقديس في إطار الكنيسة.
من أجل هذه الغاية وإبرازها، ينبغي على الأخويات والمنظمات:
أ- الإلتزام بالمجاهرة بالإيمان الصحيح المرتكز على الحقيقة المتعلّقة بالمسيح والكنيسة والانسان، وإعلانها وفقاً لتعليم الكنيسة.
ب- عيش الشركة الكنسية مع الاسقف وكاهن الرعية وقبول تعاليمهما العقائدية وتوجيهاتهما الراعوية، وقبول التعدّدية في الكنيسة والتعاون معها.
ج- بثّ روح الإنجيل وقيمه ومبادئه في الأوساط التي تعيش بينها، بروح رسولي.
د- تعزيز كرامة الشخص البشري، واحترام كل إنسان ايأ كان انتماؤه أو وضعه أو حالته (العلمانيون المؤمنون بالمسيح، فقرة 30).
3- في ضوء بشارة العذراء مريم، نتذكّر أنّنا كلّنا أبناء وبنات لمريم أم يسوع، وقد اصبحت أم الكنيسة بعد آلام المخاض على أقدام صليب ابنها: “يا امرأة، هذا ابنك! يا يوحنا، هذه أمك” ( يو19: 26-27). إنّ أمومتها الروحية الجديدة للمسيح الكلي، بعد أن كانت آلام بالجسد للمسيح التاريخي، قد نشأت في أعمق ما لسرّ فادي العالم الفصحي من غور. هي أمومة على صعيد النعمة، لأنها ترتكز إلى موهبة الروح القدس الذي يبعث أبناء الله الجدد، أولئك الذين فداهم دم المسيح، هذا الروح الذي حلّ على الكنيسة وعلى مريم معاً يوم العنصرة. تنشأ بين كل واحد منا ومريم علاقة الإبن مع أمه، وعلاقة آلام مع ابنها وابنتها، علاقة شخصية. وكما “يوحنا أخذ مريم إلى بيته الخاص” (يو27:19)، نحن أيضاً فلنأخذها إلى بيت قلبنا وفكرنا، إلى عائلتنا، إلى مجتمعنا، ولنقدّم لها ذواتنا. وبما أن أمومة مريم لنا وبنوتنا لها تمّت على أقدام صليب ابنها، فإننا مدعوون لنجدد بنوتنا هذه بكل أبعادها عند صليب حياتنا، صليب المرض والفقر والموت والفشل… مدركين أنّنا إذا ضمّينا آلام صليبنا إلى آلامها وآلام ابنها الفادي الإلهي، نالت آلامنا قوّة خلاصية، وأعطت ثماراً جديدة في حياتنا وعائلتنا والكنيسة.
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد اتخذت، أنت والآب والروح القدس، مسكناً في قلب مريم العذراء الكلية القداسة، وبتجسّدك أخذت مسكناً في حشاها. إجعلنا ربِّ بنعمة روحك القدوس مسكناً لك، لكي تواصل حضورك في كل مكان نحن فيه. ويا مريم امنا ومثالنا، أعطنا أفراداً وجماعات، أخويات ومنظّمات، أن نقتدي بإيمانك ورجائك ومحبتك في الجهوزية لتحقيق إرادة الله وتصميمه الخلاصي، وأن نعيش جمال بنوتنا لك، وننعم بحنان أمومتك. فنرفع معك نشيد التسبيح والتعظيم للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
Discussion about this post