إنجيل الأحد : أحد بشارة مريم العذراء
عيد بشارة العذراء مريم هو عيد للسيد ولوالدة الإله إنه عيد للسيد لأن المسيح هو مَن حُبل به في رحم العذراء وهو عيد لوالدة الإله لأنه يشير إلى الشخص الذي ساعد في حمل كلمة الله وتجسده أي مريم العذراء الكلية القداسة وهاهو ذا الملاك يزور العذراء بأمر من الله مبشراً اياها بأن أوان تجسد كلمة الله منها قد آن وأنها سوف تكون أمّه (أنظر لوقا 26:1-56).
رئيس الملائكة نادى العذراء مريم بالممتلئة نعمة قائلاً: “أَلسَّلامُ عَلَيْكِ، يَا مَمْلُوءَةً نِعْمَة، أَلرَّبُّ مَعَكِ مباركة أنتِ في النساء”
هذه هي تحية الملاك جبرائيل للعذراء ، فكلمة سلام تشير للفرح وأن الله ملأها من كل نعمة وما أعظم هذه النعمة أن يتحد في بطنها لاهوت المسيح مع ناسوته، إتحاد الإنسان بالله، والجسد بالكلمة ولا يتكلّمُ الملاكُ هنا عن أن الرب سيكون معها في وقتٍ لاحقٍ، بل يقول عن حالةٍ حاضرةٍ وهي أن الربَّ معها الآن
﴿ الرب معكِ ﴾
ولم يكتفِ بهذا القول، بل لم يستطع أن يضبط لسانه عن مديحها فقال لها:
﴿ مُبارَكَةٌ أنْتِ في النِّساءِ ﴾
وذلك تعظيماً منه للقديسة مريم التي فاقت على كثيرين في طهارتها وقداستها فصارت مبارَكةً في النساء. ليس لأن غيرها من النساء لم يتقدّسن، بل لأنها فاقت في القداسة عليهِنَّ واستحقت وحدها أن تكون أُمّاً للخالق فتحمل كلمة الله في أحشائها و تقدم له جسدها و دمها .
﴿ فَٱضْطَربَتْ مَرْيَمُ لِكَلامِهِ، وأَخَذَتْ تُفَكِّرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا السَّلام ! ﴾
وهنا نرى القديسة مريم تَحتارُ من كلام الملاك وتضطرب، وهذا هو شعور كل القديسين الذي يبلغون كمال القداسة ويخشون من المديح الذي يقدّمه الآخرون لهم خشية أن يُغَرِّر بهم الشرير فيفقدون نعمة التواضع بالكبرياء
فرآها الملاكُ وقد رغبت في صَدِّ أذنيها عن سماع هذا الإطراء. فاستدرك نفسَه، لأنه يعرف شعور القديسين، وقال لها:
﴿ لا تَخافي يا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِندَ الله ﴾
لا تخافي من كلامي، وإنما أنا أعجز عن ضبط لساني لمعرفتي بحالِكِ وما أنتِ عليه من قداسةٍ وأنا آتٍ إليكِ بهذا الخبر:
﴿ وها أَنْتِ سَتَحْبَلينَ وتَلِدينَ ابناً وتُسَمّينَهُ يَسوعَ. هذا يكونُ عَظيماً وابْنُ العَلِيِّ يُدْعَى ويُعْطيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ داوُدَ أَبيهِ. ويَمْلِكُ على بَيْتِ يَعقوبَ إلى الأبَدِ ولا يَكونُ لِمُلْكِهِ نِهايَةٌ ﴾
هذا الخبر الذي أتى به الملاك ليس بسيطاً وهو عسر الفَهم، إذ يقول أنها :
1) سوف تحبل، 2) ستلد ابناً.
ثم يعطي صفات هذا الابن المولود منها:
أوَّلُها أنّه سيكون عظيماً ويسمّيه الناس ابن العليّ، أي ابن الله، لأن أصله إلهيٌّ رغم أنه منظورٌ كإنسانٍ. فهو ابن الله، بمعنى أنه يحمل الجوهر الإلهيّ. ثم يُكمل في رسم عظمته على الناس فيصوِّر لها أنه سيملك على شعب الله، على المؤمنين. كما يقول المزمور: “أمّا الله فهو ملكنا قبل الدهور، صَنَعَ الخلاص في وسط الأرض” (مزامير 12:75).
أمام هذا الكلام قامت مريم تختبر صحة رسالة الملاك ومصدرها فقالت له:
﴿ كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ ﴾
أو بمعنى آخر: إن كنتَ رسول الله إليَّ، ألا يعلم الله ببتوليتي وأنني رغم إقامتي مع رجل فإنني لا أقيم معه علاقة جسدية، وأنا لا أعرف الرجال.
فكيف سيكون حَبَلٌ مِن غير رجل؟
لأنه من المستحيل أن يُغّيِّرَ الله مقصد البتول مريم التي نذرت عذريتها، وهو الذي أعطى الناس ملء الحرية ويحترم حريتهم إلى أبعد الحدود.
هنا أجابها الملاك، وهو يفهم ما تقول وكأنه يطمئنها، لأنه يعرف علاقتها بالله وعذريتها وحياتها المقدّسة وكل شيء، ويؤكد لها أن ما يقوله لا يعني أنّ الذي ستحبل به وتلده سيكون من إنسانٍ بل بالروح القدس لهذا قال:
﴿ الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَليكِ وقُوَّةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ ﴾
أي أنا أتكلّم عن حَبَلٍ من غير رجلٍ، “فلِذلِكَ أيضاً القُدُّوسُ المَوْلودُ مِنْكِ يُدْعَى ابنَ اللهِ”. لأن الآتي ليدخل أحشاءك هو القدوس السماوي، والحبل ليس من إنسانٍ، لهذا
﴿ فالمَولودُ مِنْكِ يُدْعَى ابنَ اللهِ ﴾
أمام هذا الأعلان أحنت مريم العذراء رأسها بالطاعة لتقول :
﴿ هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك ﴾ ( لو 1 : 38 ).
وهنا نجد أنه بالطاعة وحدها استطاعت أمنا مريم أن تخضع منطقها البشري لمنطق ارادة الله
لقد تم الحبل بالمسيح في رحم مريم بصمت وسريّة وليس بجلبة وضجيج.
ولم يكن أحد لا من الناس ولا الملائكة ليفهم هذه الأمور العظيمة التي كانت تجري. لقد تنبأ النبي العظيم داود بهذا الحدث قائلاً:
“ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض” (مزمور 6:71).
تماماً كما أن المطر الذي ينحدر على الزجاج لا يسبب أي صوت وأي فساد، الشيء نفسه تمّ خلال البشارة والحبَل.
لم يسبب المسيح بالحبل به أي تشويش وفساد لعذرية العذراء مريم.
لهذا السبب بقيت العذراء مريم عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعدها.
هذه هي النجمات الثلاث التي يضعها رسّامو الأيقونات دائماً على جبين العذراء مريم وعلى كتفيها. كما عبر عن ذلك أحد القديسين بقوله :
خروجك من أمك خروج النور من الزجاج لا عيب فيهِ ولا فساد
إن الحمل بالمسيح وحمله في الرحم وولادته هي كلها بلا جهد ولا ألم ولا لذة.
إذاً المسيح حُبل به، وحُمل في الرحم كطفل ووُلد من دون لذة، من دون كدح ومن دون ألم. لقد حُبل به من غير زرع لسببين أساسيين:
الأول ليحمل طبيعة البشر الصافية
والثاني ليولد من دون فساد وبطريقة لا ألم فيها.
و هاهي العذراء تعطي مستودعها و دمها للمسيح ولكنه يعطيها أيضا بركته و يملؤها بفيض النعمة فالمسيح مع كونه محمولاً في الرحم لم ينقطع عن كونه في الوقت نفسه جالساً على عرش الآب متحداً بهِ وبالروح القدس
::: تأمّل :::
( لو 1 : 26-38)
إفتح قلبك واختار
في سكون تلك الليلة الأخيرة من العهد القديم، قُرِعَ باب مريم وهي في صمتها المصلّي، وبكلّ هدوءِ ولطافة كلّمها الله بملاكه جبرائيل، مبادراً إليها بسلامٍ مقدّس لم يعتد على سماعه أيٌّ من البشر: ” افرحي يا من اختارها الله و ملأها من كلِّ نعمة , الرب معكِ يا مباركة بين كلَّ نساء الأرض “
فاضطربت مريم لتلك الكلمات، فطمأنها الملاك وهدّأ من خوفها وأدخلها في لقاء حميم مع الآب مخاطباً إيّاها باسمها :
“لا تخافي يا مريم” فإنّ العلّيّ يعرفك حقّ المعرفة كما يعرف مكنونات و طهر قلبك لذا قد ” نلت حظوة في عينيه “
ثمّ أطلعها على الدعوة الخلاصيّة الكاملة التي اختارها لها: أمومتها ليسوع. وقبل أن يفصح عن هويّة الذي “سيولد منها”، ردّد أمامها ما تعرفه عن الوعد والإَله المُنْتَظَرْ، رجاء شعب العهد القديم المُنَتظِرِ الخلاص، مؤكّداً على وفائه له وعلاقته به. بعدها كشف لها عن سرّه: “إنّ المولود منك هو قدّوس وابن العليّ يُدعى”
وذلك بحلول الروح القدس في حشاها الطاهر… عندها أتت ال”نعم” الكاملة لبدءِ مسيرة تجديد خلاصيّة على مدى السنين والأجيال. بذلك أصبحت مريم شريكة الخالق بإيجاد بشريّة جديدة مخلّصة بفعل إيمانها وقبولها لإرادته واستسلامها له بكلّ حرّية ورضا.
كما أصغت مريم، بإرادتها الحُرّة
فلنصغِ نحن أيضاً إلى الله يهمس برقّة في أعماق قلوبنا لدعوةٍ ملؤها الحبّ والإحترام لشخصنا.
فلا تجزع أن تأخذ وقتك للإختيار كما حصل مع مريم في حوارها مع الملاك، وبما أنّ الله يحترم مُرادك، فإنّه لا يريدك أن تنجرف بالعاطفة، بل أن تُحَكّم عقلك وتكون طيّع الإرادة؛ يريدك أن تختار الأفضل بإيمان ذكيّ وحبّ كبير وبهجة مقدّسة. أكرّر وأقول بأنّه يحترم مسلكك ويصبر، معطياً إيّاك الوقت الكافي كي تصل إلى ال”نعم” التي يدعوك إليها بحسب شخصك و وزناتك:
إنّه طويل الأناة و كثير الحبّ , إنّه يستطيع الإنتظار .
كما حصل مع مريم، هكذا معك أيضاً.الروح القدس ينحت في حياتك وجه المسيح كي يجدّدك فلا تكن حجراً عنيداً يصعب تهذيبه.
أنت تضطرب أحياناً وتتساءل عن أمور لا تفهمها في حياتك، وربّما تشعر بالإنزعاج حين تُدْعى، عن غير رغبةٍ منك، إلى تغيير مسلكيّتك واختيار طريق لا تتوقّعه…
عندها لا تخف القبول بإيمان وغبطة، لأنّ الله يكون قد التفت إليك واختارك لمشروع يخصّك ثمّ اصبر فإنّ كلّ شىءٍ سيبقى جلياً، وما يحمله إليك القدّوس ليس هو إلاّ الخير لصالحك كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ.
Discussion about this post