|
|||
البشارة لمريم تحقق وعد الله بالخلاص الذي قطعه لأبوينا الأولين: “أضع عداوة بينك (الحية ممثلة الشيطان والخطيئة) وبين المرأة (مريم العذراء حواء الجديدة)، بين نسلك ونسلها (الشيطان والمسيح)، هي تسحق رأسك وأنت تترصدين عقبه (تك 3/15) وهذا الوعد أبرمه الله عهداً مع إبراهيم ونسله. البشرى لمريم هي لها ولشعبها وللعالم أجمع: منها سيولد المخلص المسيح المنتظر. إنها بشارة لخطيبة ارتبطت بعهد الزواج ولم تنتقل بعد إلى بيت عريسها يوسف الذي من سلالة داود الملك، لكن الله أرادها أماً بتولاً للكلمة ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، بقوة حلول الروح القدس، وأماً روحية بالنعمة للجنس البشري المفتدى بدم ابنها الإلهي، وأماً للكنيسة التي هي المسيح الكلي: المسيح الرأس وجسده المؤلف من جماعة المفتدين. في البشارة لمريم تتجلى كرامة العائلة وقداستها ودعوتها. وعليه نتأمل في العائلة المسيحية على ضوء النص المجمعي العاشر في “دليل التفكير” للمجمع البطريركي الماروني. |
|||
1- البشارة : عهد جديد وشعب جديد |
|||
أ – مع البشارة لمريم يبدأ عهد جديد هو دخول كلمة الله في صميم العائلة البشرية، متخذاً طبيعة إنسانية من مريم العذراء، وفي تاريخ الجنس البشري مفتدياً إياه من عبودية الخطيئة والشر، وفي كل ثقافة بشرية موجهاً إياها إلى كلّ حق وخير وجمال. في البشارة يتجلى سرّ يسوع المسيح : إنه ابن الله، الذي “أصوله منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 5/1)، وهو “كلمة الآب” (يو1/1-2)، وابن مريم بالجسد في الزمن. حقيقة مزدوجة أعلنها يوحنا الرسول: “والكلمة صار بشراً، وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آتٍ من الآب، ملآن نعمة وحقا” (يو1/14)، وكتب عنها بولس الرسول: “لما بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً في حكم الشريعة، لكي يفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتى ننال البنوة” (غلاطية 4/4-5). اللوحة الإنجيلية هي أساس إعلان يوحنا وبولس: فالملاك جبرائيل يؤكد لمريم أنها “تحمل وتلد ابناً وتسميه يسوع، وهو ابن الله المولود منها بحلول الروح القدس” (لو1/13و35)، وأنه “من سلالة داود الملك ويملك على الجنس البشري إلى الأبد” (لو1/33)، ملوكية خلاص وفداء، “النعمة والحق”. ب – ومع البشارة لمريم يبدأ شعب جديد هو الكنيسة المؤلفة من جماعة الذين قبلوا الكلمة الإلهي، يسوع المسيح، النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم، وآمنوا باسمه، فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله، هم الذين، لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا” (يو1/9،12،13). هذه الكنيسة هي “مملكة داود” الجديدة التي وعد بها الله على لسان ناتان في ما قاله لداود الملك: “أقيم من يخلفك من نسلك الذي يخرج من صلبك وأنا أثبّت عرشه ملكه للأبد. أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً”(2صموئيل7/12-14)، وعلى لسان أشعيا النبي: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً… لأنه ولد لنا ولد وأعطيَ لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه… لسلام لا انقضاء له على عرش داود ومملكته، ليقرّها ويوطدها بالحق والبر من الآن وللأبد” (اشعيا9/1و5و6). يسوع المسيح ابن الله المتجسد هو الملك الجديد الأبدي، والكنيسة مملكته الثابتة إلى الأبد التي “لن تقوى عليها أبواب الجحيم” (متى 16/18)، أي قوى الشر والموت. والكنيسة هي “بيت يعقوب” الجديد أي شعب الله الجديد. فالله قديماً سمى يعقوب “إسرائيل”، شعب الله القديم، الذي بدأ رحلته في مصر بسبب يوسف ابن يعقوب الذي أصبح حارس كنوز فرعون ملك مصر، وكان قد باعه إخوته حسداً. الكنيسة بعنصريها : الإلهي، فيسوع المسيح ابن الله منذ الأزل وابن مريم في الزمن الذي هو رأسها، والبشري، وجماعة المفتدين الذين يؤلفون جسده، هي زرع ملكوت الله وبدايته الذي يكتمل في مجد السماء، في نهاية الأزمنة عندما يأتي المسيح بالمجد (الدستور العقائدي في الكنيسة 5و48؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 768). مريم أم الإله الفادي هي أيضاً أم الأعضاء الذين هو رأسهم، بسبب مساهمتها بحبها في ولادتهم الجديدة (الدستور العقائدي في الكنيسة، 53)، وهي بالتالي أم الكنيسة (البابا بولس السادس خطاب 21 ت2 1964). ج- البشارة لمريم هي بشرى للكنيسة وللبشرية جمعاء : بأنها ستكون أم الإله المتجسد، المسيح التاريخي، وأم أعضاء جسده السري الذي هو الكنيسة، المسيح الكلي. لهذا السبب حياها جبرائيل بسلام الفرح والتغبيط: “السلام عليك! افرحي! ولا تخافي! لأنك نلتِ حظوة عند الله” (لو1/28 و30) هذه الحظوة هي للبشرية بأسرها لأنها تحظى بعهد الفداء الشامل، ومريم بشرف الأمومة للإله وللكنيسة، بعد أن ملأها الله نعمة، تفيض منها وبواسطتها على البشرية جمعاء، بوصفها شريكة في التّجسد والفداء. ولهذا السبب لم يسمّها الملاك باسمها عندما حياها بل سماها “ممتلئة نعمة” وتكشف هذه التسمية سرّ مريم: – إنها بريئة من دنس الخطيئة الأصلية، ذلك أن النعمة الإلهية ملأتها منذ اللحظة الأولى لوجودها، فلم تعرف الخطيئة، لا الأصلية ولا الفعلية. – إنها بتول وأم، وظلت بتولاً قبل الميلاد وفيه وبعده، بفعل قدرة الله التي استقرت عليها بحلول الروح القدس، هذا ما شرحه لها الملاك بعد أن قال لها “الرب معك” مؤكداً واقعاً حاضراً فيها، لا مجرد دعاء. وبذلك هي مثال الأمومة والأبوة الروحية للذين واللواتي يكرسون بتوليتهم لله وللكنيسة بنذر العفة سواء في الحياة الرهبانية أم في العالم. – إنها مثال الكنيسة، الأم والبتول (الدستور العقائدي في الكنيسة، 63)، وقدوة لها في الإيمان والمحبة، بفضل اتحادها الكامل بإرادة الآب، وبعمل فداء الابن، والهامات الروح القدس (التعليم المسيحي، 967). – إنها أيقونة الكنيسة النهيوية، إذ تكشف ما ستصير الكنيسة في الوطن السماوي، في نهاية رحلتها على وجه الأرض (المرجع نفسه، 976). – إنها مثال لكل مسؤول يحمل سلطة كنسية أم عائلية أم مدنية، فيدرك أن “لا سلطة إلاّ من الله” (روم13/1)، وان صاحب السلطة هو خادم الله لدى الجماعة، يلتزم العمل بموجب ما يوحيه الله له للخير العام :“أنا أمة الرّب، فليكن لي حسب قولك” (لو1/38). |
|||
2- العائلة المسيحية |
|||
البشارة لمريم التي يدخل من خلالها ابن الله وفادي الإنسان عائلة يوسف ومريم، مولوداً بالجسد بقوة الروح القدس، تكشف كرامة الأسرة البشرية وطهارة الحب الزوجي وقدسية العائلة، لحضور الله الثالوث فيها: “محبة الآب القديرة تظللك، والروح القدس يحل عليك، والمولود منك قدوس وابن الله يدعى” (لو1/35). الأسرة النابعة من سرّ الزواج، هي حقاً “كنيسة بيتية”. “دليل التفكير” الذي يختصر مواضيع المجمع البطريركي الأربعة والعشرين يخصص العائلة بالنص العاشر ويتناولها في أربعة وجوه. أ – العائلة والحياة البشرية : إنها حرمها ومقدسها. فكل حياة بشرية هبة من الله، وتحمل طابعاً مقدساً. وهي من اللحظة الأولى لتكوينها في أحشاء الأم كائن بشري كامل الحقوق وصاحب فرادة في شخصيته ودعوته ورسالته، إذا لم يوضع حدّ لتطوره الطبيعي البيولوجي، وإذا حظي بتربية بيتية وكنسية واجتماعية سليمة. لوحة البشارة خير دليل ونموذج لهذا الواقع. الأسرة هي مدرسة ثقافة الحياة التي تشجب وتدين كل تعدٍ على الحياة البشرية سواء بوسائل منع الحمل أو الحبوب المجهضة أم بالإجهاض، وكلّ تعدٍ عليها وعلى كرامتها وحقوقها وسلامتها الروحية والجسدية والمعنوية، بعد ولادتها. ب – العائلة وتربية الضمير المسؤول: إنها المربي الأول للإنسان في ضميره الخلقي المسؤول، بحيث يربى على حسن التمييز بين الخير والشر، الحق والباطل. الضمير كالغرسة. إذا استقامت تربيته كانت أخلاقه سليمة في كبره، لأن من شبّ على أمر شاب عليه. هكذا الغرسة إذا زرعت مستقيمة نمت كذلك وإلاّ استمرت على انحرافها. ج – العائلة والنمو الروحي والاجتماعي والرعوي والوطني، لأن فيها يحاك أول نسيج لعلاقات الإنسان بالله والمجتمع والكنيسة والوطن، وفيها يعاش أول اختبار لتقاسم الخبرات معهم. هذا النمو مرتبط بالطاعة للوالدين اللذين يربيان على “النمو بالقامة والنعمة والحكمة قدام الله والناس” كما جرى ليسوع في عائلة الناصرة (لو 2/51-52). د – العائلة والتنشئة الروحية والإيمانية، لأنها المدرسة الأولى للإيمان، حيث نقبل بشرى الإنجيل وتعلن، ولأنها المعبد الأول للصلاة، ولأنها الكنيسة الأولى حيث يدخل الإنسان في شركة مع الله ومع الناس. إنّ الكنيسة الرعائية تبدأ في البيت، حيث تلتئم الأسرة للصلاة، وتبلغ إليه لتجسّد تعليمها ونعمتها في أفراد الأسرة، ومن خلالهم في المجتمع. يستعرض “دليل التفكير” واقع العائلة اليوم في ما تواجه من صعوبات اقتصادية واجتماعية وخلقية. ثم يطرح سلسلة من الأسئلة حول مسؤولية الكنيسة والمجتمع والدولة تجاه العائلة، لكي تتمكن من المحافظة على قيامها ورسالتها، ومن البقاء في الوطن خميرة صالحة في عجينه. |
|||
الخاتمة : نصلي معاً ومع كل عائلة |
|||
زر يا رب بحبك عائلتنا المجتمعة أمامك، واجعلها كنيسة مصغّرة بيتية، تشهد لك. أبعد عنها كل خلاف. رسّخها في الإيمان والرجاء والمحبة. احمها من المصائب. قوّها في الشدائد. وحّدها برباط المحبة والسلام. وأعطها قوة روحك فنكون حجارة حية في بناء كنيستك. لك المجد إلى الأبد. آمين |
Discussion about this post