زيارة العذراء لأليصابات
إنجيل لوقا 1/39-56
شركة وتقاسم
بعد البشارتين لزكريّا ومريم، حيث تكلّم الله، تكلّم الإنسان في زيارة مريم لأليصابات. الله بكلامه دخل في شركة مع الإنسان، وقاسمه خيوره في تصميم الخلاص. بل أعطاه كلّ شيء بشخص يسوع المسيح. ودخل الإنسان في شركة مع الله بشخص مريم التي تمثّل كلّ شعب العهد الجديد، وقاسمه تكريس الذات وإرادة التعاون الكامل: «أنا آمة الربّ، فليكن حسب قولك» (لو 1/38). في زيارة مريم تكلّم الإنسان مع الإنسان، كلام الشركة والتقاسم. تكلّمت مريم بسلام نابع من يسوع الجنين في حشاها، وتكلمت إليصابات وشاركها يوحنّا الجنين في بطنها. إنّها ليتورجيّا الشركة والتقاسم.
أوّلاً، اللوحة الإنجيليّة
1- الشركة بين الله والإنسان: هو يتكلّم ونحن نصغي:
في البشارتين لزكريّا ولمريم، تكلّم الله بواسطة الملاك جبرائيل، ثمّ صمت. سجّل كلامه وكتب في قلبيهما. وراحا يتأمّلان فيه، ثمّ تكلّما في حينه: مريم يوم الزيارة بنشيد «تعظّم نفسي الربّ» (لو 1/46-55)، وزكريّا يوم مولد يوحنّا عندما انحلّت عقدة لسانه بنشيد «تبارك الربّ» (لو 1/67-79).سماع وتأمّل ثمّ نطق. في البشارة، سمعت مريم واستفسرت، وغاصت في عمق سرّ الحبل الإلهيّ، ثمّ نطقت: «ها أنا آمة الربّ، فليكن لي حسب قولك» (لو 2/19)، عنها ردّد لوقا الإنجيليّ أنّها يوم الميلاد «كانت تحفظ كلّ هذه الكلمات وتتأمّلها في قلبها» (لو 2/19). عندما وجدا الطفل يسوع بين العلماء في الهيكل، وعاد مع أمّه ويوسف إلى الناصرة، «كانت مريم تحفظ تلك الأمور كلّها في قلبها» (لو 2/51). والسيّد المسيح كشف ميزة مريم في مناسبتين: للمرأة التي أشادت بأمّه: «بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها» (لو 16/28)، وللّذين أخبروه أنّ أمّه وإخوته خارج الدار يريدون أن يروه: «إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها» (لو 8/12).
سماع وتأمّل: استماع لله الذي يتكلّم، والتأمّل في كلامه. ولأنّ كلام الله خارج من قلبه، وجب على الانسان أن يسمعه بقلبه. التأمّل هو أن تسمع الله بقلبك لأنّه يخاطب قلبك. قمّة الصلاة التأمّل، وبعد ذلك النطق بالكلمات وبالأعمال والمواقف والمبادرات. تكون هكذا مبدعًا، فتكلّم الله على طريقتك. وتكون خلاّقًا فتقرّر بحريّتك ما تشاء. فالله أرادك على صورته خلاّقًا ومبدعًا. نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: «وأعطى الربّ الناس قلباً للتفكير، وملأهم من الفطنة وأطلعهم على الخير والشرّ، وجعل عينه على قلوبهم، ليظهر لهم عظمة أعماله، فيحمدون اسمه القدّوس ويخبروا بعظائم أعماله» (سيراخ 17/6-10).
يبين يعقوب الرسول قيمة سماع الكلام والعمل به، ولا يفصل بينهما (يعقوب 1/21-25). ويبيّن أهميّة النطق إذا صدر عن قلب متأمّل، وشرّه إذا صدر عن سطحيّة وردّات فعل (يعقوب 3/2-12).
2- في الزيارة، الإنسان يتكلّم والله يصمت:
لم يقل الله كلّ شيء، لأنّه ترك للإنسان كلمات يقولها. ذلك أنّ الله الخالق يحترم الإنسان المخلوق العاقل، وينتظر منه تشغيل عقله، وتفتّح أحاسيسه، وإصدار حكمه. فعند الله كلام، وعنده صمت. الصمت الإلهيّ ناتج من كونه أراد الإنسان أن يكون ناطقًا. والنطق لا يعني فقط التلفّظ بأصوات، ولكنّه يعني أوّلاً ما ينتج من خوص النفس في ذاتها وسبر أغوارها. إذا كانت الكتب المقدّسة كلام الله، فأنت لست مجرّد قارىء لها، لكن متأمّل، أي إنّ بشريّتك تقرأ، ومن بعد هذا تأتي كلمتها التي فيها الإلهيّ والانسانيّ (أنظر المطران خضر: «هل من شريعة للكلام» في جريدة النهار 20 تشرين الثاني 1999).
ما يقوله الإنسان هو من إلهام الروح الذي منذ البدء «يرفرف على وجه المياه» (تكوين 1/2). ولذا عند الله دائماً إلهام جديد، وللروح «المرفرف على وجه المياه» حريّة تحريك المياه، فتكون حياة جديدة وإلهام جديد. أكّد السيّد المسيح لنيقوديموس: «الروح يهبّ حيث يشاء. أنت تسمع صوته، لكنّك لا تعلم من أين يأتي ولا إلى أين يذهب (أنظر يو 3/8)، وللتلاميذ: «لا يزال عندي أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنّكم لا تطيقون الآن حملها. فمتى جاء روح الحقّ، أرشدكم إلى الحقّ كلّه» (يو 16/12-13).
صمت الله بعد البشارتين، فتكلّمت إليصابات، وقد ملأها الروح القدس منذ سمعت سلام مريم وتنبّأت أنّ مريم مباركة بين جميع النساء، وأنّ ثمرة بطنها الحبل الالهيّ مباركة، وأنّها أمّ المسيح الربّ، وأنّها نالت الطوبى لإيمانها (لو1/45). وهكذا اكتمل كلام الله بشأن مريم ويسوع. ومن هذا الاكتمال صاغت الكنيسة صلاة «السلام الملائكيّ». وتكلّم الجنين يوحنّا على طريقته إذ «ارتكض فرحاً في بطن أمّه».وتكلّمت مريم بنشيد «تعظّم نفسي الربّ». إنّه نشيدها ونشيد الكنيسة، نشيد إبنة الناصرة وشعب الله الجديد، نشيد الشكر لملء النّعم التي أفاضها ويفيضها تدبير الخلاص، نشيد الفقراء الذين تحقّق رجاؤهم بتتميم الوعود التي قطعها الله لابراهيم ونسله إلى الأبد (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة 2619).وسيتكلّم زكريّا عند مولد يوحنّا (لو 1/67-76).
كلام الانسان، مثل كلام الله، مبدع. هذا الإبداع أراده الله للانسان ليكون على مثاله مبدعًا. الإبداع يعني أنّ هناك شيئًا لم يكن، يريدك الله أن تكمله ويريد ان يكمله على طريقة أخرى ويريد تعدّد الطرائق، ويريد أن يقول بكلّ اللغات أشياء مختلفة. لقد قال السيّد المسيح الحقيقة كاملة ونهائيّة: حقيقة الله الواحد في الطبيعة والمثلّث الأقانيم؛ وحقيقة الانسان المخلوق على صورة الله والمفتدى بدم المسيح والعضو الحيّ في الكنيسة جسده السريّ، وهيكل الروح القدس الذي تتجلّى فيه الحياة الجديدة ومواهب الروح، ومعاون الله في تحقيق الخلاص؛ وحقيقة الزمن الذي أصبح مقدّسًا بعد تجسّد الكلمة الإلهيّ. فلا وحيَ جديدًا عموميًّا عبر أيّ دين بعد العهد الجديد. غير أنّ هذا الوحي، ولئن كان وحيًا مكتملاً، فليس مستخرجًا صريحًا بكامله (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة 66-67). وهكذا لم يقل الله كلّ شيء، بل ترك للإنسان على مدى الأجيال أن يقول الحقائق النسبيّة بوحي من الروح، وفي ضوء الحقيقة المطلقة.
3- في تقاسم حقيقة المسيح وخيرات الأرض :
سافرت مريم مسرعة من الجليل، من الناصرة بلدتها، إلى منطقة اليهوديّة إلى عين كارم بلدة إليصابات، قرب أورشليم، وهي حامل بالربّ يسوع وممتلئة من الروح القدس، لكي تقاسم إليصابات فرح الايمان بيسوع الذي قبلته من الله، لكي تشهد لايمانها بخدمة إليصابات العجوز والحامل بيوحنّا.
ما يميّز الكنيسة عن سائر الجماعات الدينيّة والأديان هو إيمانها بيسوع المسيح. فهي لا تستطيع أن تحفظ لنفسها وتخفي تحت مكيال نور إيمانها (متّى 5/15)، بل تتقاسمه مع الجميع. إنّ تقاسم حقيقة يسوع المسيح مع الآخرين واجب رئيسيّ على الذين قبلوا عطيّة الايمان. لا تستطيع الكنيسة، وكلّ مسيحيّ، أن تخفي أو تحفظ لنفسها هذا الجديد وهذه الثروة المقبولين من جودة الله بغية نقلهما إلى جميع الناس (الكنيسة في آسيا،10؛ رسالة الفادي ، 10).
مريم في الزيارة هي صورة الكنيسة وصورة كلّ مؤمن مسيحيّ. هي أوّل رسول وأوّل مبشّر بسرّ المسيح. سافرت مسرعة لشدّة الفرح ولعظمة الخبر. نحن أيضًا نذهب بسرعة أو نتّصل لنقاسم الآخرين الخبر المفرح. الأطفال يسرعون قبل الكبار ويسبقونهم لنقل الخبر. هكذا فعل كلّ من الرعاة ليلة الميلاد: «جاؤوا مسرعين إلى مغارة بيت لحم» (لو 2/16)، وتلميذي عمّاوس: «قاما في تلك الساعة نفسها ورجعا إلى اورشليم” (لو24/33)، وبطرس ويوحنا : «ذهبا الى القبر مسرعين ، لكن يوحنا سبق بطرس فوصل قبله الى القبر، وانحنى فأبصر اللفائف، لكنّه لم يدخل» (يو 20/3-5)، والخادمة روضه في بيت أمّ يوحنّا- مرقس لنقل خبر خروج بطرس من السجن (أعمال 12/12-17).
هل فينا هذا الفرح لإعلان سرّ المسيح؟ هل نختبره في حياتنا المسيحيّة؟ هل بالسرعة والفرح نأتي الكنيسة يوم الأحد، وهو يوم الربّ، وبهما نعود إلى عائلتنا ومجتمعنا لنخبر ونقاسم ونشهد؟
مثال لنا كلّ الذين يتفانون بوقتهم وبذل جهودهم للنشاط الرسوليّ، والذين يسخون بمالهم لدعم المؤسّسات الرسوليّة. أخصّ بالذكر الذين يدعمون تليلوميار والذين يؤمنون ميزانيّته السنويّة، لا لغاية سوى لنشر بشرى الانجيل وفرح تقاسم حقيقة يسوع المسيح. ومثال لنا كلّ الذين كرّسوا ذواتهم لرسالة الحبّ والخدمة، وهي رسالة السيّد المسيح، سواء في العالم أم في المؤسّسات الرهبانيّة.
الرسالة في الكنيسة هي تقاسم حقيقة المسيح مع جميع الناس والشعوب والثقافات، وقد قبلناها بامتياز، لا باستحقاق من أحد بل بإنعام من الله. ولهذا، تمتاز الكنيسة بأنّها «رسوليّة»، تحمل للجميع بشرى إنجيل الخلاص والحقائق الموحاة من الروح، هذا الوسيط الشامل بين الله والناس حتّى للّذين لا يؤمنون به صريحًا، حيث المسيح هناك محبّة الآب ونعمة الابن وحلول الروح القدس، وبالتالي الفرح والسلام، كما يوم الزيارة.
والرسالة هي تقاسم خيرات الأرض. تجلّى هذا التقاسم في خدمة مريم لاليصابات، وقد مكّنت عندها ثلاثة أشهر، حتّى مولد يوحنّا. نحن نعلم أنّ تقاسم الخيرات يأتي نتيجة الشركة بين الأشخاص: شركة وتقاسم. قامت شركة روحيّة عميقة بين مريم وإليصابات بالمسيح والروح القدس ويوحنّا، فكان تقاسم الخيرات عبر الخدمة البيتيّة والعائليّة. في الافخارستيّا تنشأ شركة بين الثالوث والمؤمنين، والله يقاسمنا ذاته وخيور السماء بالمسيح، لكي يدخل المؤمنون في شركة أفقيّة فيما بينهم، ثمّ يتقاسمون ما عندهم من خيور روحيّة وماديّة وثقافيّة: «كانوا مواظبين على التعليم وكسر الخبز (الأفخارستيا) وتقاسم ما يملكون» (أعمال 2/41-47).
***
ثانيًا الخطّة الراعويّة
في بيت اليصابات تحقّقت الكنيسة التي هي سرّ الشركة، كما توسّع فيها الإرشاد الرسوليّ «رجاء جديد للبنان» (عدد 19-26). «فالكنيسة بالمسيح هي العلامة والأداة للاتّحاد العميق بالله ولوحدة الجنس البشريّ» (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 8). في هذه الشركة يتمّ التبادل أو التقاسم بين الله والمؤمنين: «وحّدت يا ربّ لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا وأعطيتنا ما لك، لتحيينا وتخلّصنا، لك المجد إلى الأبد» (القدّاس المارونيّ- النافور).
تهدف الخطّة الراعويّة إلى عيش حضارة الشركة والتقاسم، وقد دعا إليها المجمع البطريركيّ المارونيّفي النصّين الخامس بعنوان: «البطريركيّة والأبرشيّة والرعيّة»، والعشرين بعنوان: «الكنيسة المارونيّة والشأن الاجتماعيّ».
أ- تبدأ ثقافة الشركة والتقاسم من الافخارستيا، بالمشاركة الواعية والفعّالة في الليتورجيّا الالهيّة (القدّاس). فيها تتمّ الشركة، اي سرّ الاتّحاد الشخصيّ بالثالوث الالهيّ عاموديًّا، ومع الناس الآخرين أفقيًّا. وبفضل التبادل أو التقاسم بين الثالوث وكلّ مؤمن، ينطلق تقاسم المحبّة والتضامن والتعاون والخدمة بين الناس.
ب- كهنة الرعايا ومرشدو المنظّمات الرسوليّة والمربّون في العائلة والمدرسة يعزّزون مع جماعاتهم ثقافة الشركة، تربيةً وتوجيهًا وتشجيعًا. يبتكرون مبادرات توطّد الشركة حيث هي قائمة، وتعيد لحمة الشركة حيث هي منكسرة. ويقومون بمبادرات تقاسم وتبادل عمليّة. يوصي المجمع البطريركيّ المارونيّ في النصّ 20 المختصّ بالكنيسة والشأن الاجتماعيّ، بتوجيه المؤمنين إلى الالتزام الاجتماعيّ، وفقًا لتعليم الكنيسة في هذا الشأن. نلفت الانتباه إلى أنّ لجنة «عدالة ومحبّة» تنشر تباعًا هذا التعليم، كما أنّ المركز الكاثوليكيّ للاعلام ينشر باللغة العربيّة الرسائل البابويّة، وبخاصّة تلك المتعلّقة بالشأن الاجتماعيّ.
ج- نناشد رعايا الأبرشيّة أن تستكمل إنشاء «صندوق الخدمات الاجتماعيّة والانمائيّة» في كلّ رعيّة، وفقًا للنظام الذي وضعته المطرانيّة، وتنشّطه، لكي تتمكّن الجماعة الرعويّة من أداء خدمة المحبّة والافادة منها. لا أحد يجهل تفاقم حاجات المعوزين بسبب تنامي حالات الفقر والبطالة. ونشجّع كلّ مبادرة مماثلة في خدمة المحبّة.
صلاة
تعالي بسلام يا علّيقة موسى، وجزّة جدعون، ومنارة أقداس زكريّا! تعالي بسلام يا ممتلئة نعمة، تباركتِ في النساء وتباركتْ ثمرة بطنك!
مع إليصابات ننشد نحن الخطأة قائلين: السلام عليك يا مريم البتول القدّيسة، بك غُفرت ذنوبنا، ومنك اقتبلنا كلمة الحياة. السلام عليك، بك نهضنا من زلّتنا، ورجعنا عن غيّنا، فاستنار ظلامنا واشتدّت قوانا. في يوم تذكارك ننشد المجد للثالوث القدوس الذي اختارك، من الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
Discussion about this post