زيارة مريم لاليصابات
شرف الخدمة
من إنجيل القديس لوقا 1/ 39-46
قال لوقا البشير: في تلك الأيام ( بعد البشارة بيسوع)، قامت مريم وذهبت مسرعة إلى الجبل، إلى مدينةٍ في يهوذا. ودخلت بيت زكريا، وسلمت على اليصابات. ولما سمعت اليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من الروح القدس. فهتفت بأعلى صوتها وقالت: مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك! ومن أين لي هذا أن تأتي اليّ أم ربي؟ فها منذ وقع صوت سلامك في أذتيّ، ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطني! فطوبى للتي آمنت أنه سيتم ما قيل لها من قبل الربّ!”. فقالت مريم: “تعظم نفسي الرب…
**
بالزيارة لاليصابات تستهل مريم العذراء، الحامل بيسوع، رسالة الخدمة التي أعلنتها يوم البشارة: ” أنا خادمة الرب” (1/38). وهي خدمة دامت ثلاثة أشهر، حتى مولد يوحنا المعمدان، وكشفت عن قيمتها بما تضمنت من إيحاءات إلهية، وعن الشرف الذي توليه لصاحبها بفضل هذه الايحاءات. قال الرب يسوع: ” من أراد ان يكون الكبير فليكن خادم الجميع” ( مر9/35). وعلم بالمثل: ” لم يأتِ ابن الإنسان ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدى عن الكثيرين” ( متى10/45). من مثل العذراء مريم، أصبحت الخدمة ملوكية، وتمارس بفضيلة المسؤولية.
***
أولاً، شرح نص الإنجيل
1. إنجيل الزيارة: انكشاف سرّ الله والإنسان :
وضعت مريم العذراء نفسها في خدمة التجسد والفداء، وأخذت موقف ” أمة الرب” في خدمة الإنسان. وبقولها ” فليكن لي حسب قولك ” (لو1/38)، أعربت عن طاعة الإيمان لكلام الرب الذي يوحي، وعن التزامها في خدمة الله ومقاصده. قامت عفوياً بزيارة اليصابات لتخدمها طيلة أشهر حبلها. ولم تكن تتوقع ما سيجري. لكن الله يتدخل في واقع حياتنا اليومية وأعمالنا الوضيعة والعفوية، لاسيما تلك التي نقوم بها بحب وسخاء. لذا أنشدت مريم: ” تعظم نفسي الرب لأنه نظر إلى تواضع أمته” ( لو1/48).
في هذا الجو من الخدمة والصلاة كشف الله المزيد من سرّه وسرّ الإنسان:
أ- حيث المسيح، هناك الروح القدس. امتلأت اليصابات من الروح الفائض من كلمة الله المتجسد، وهو جنين، حين وقع صوت مريم في أذنيها. هذا الروح أوحى اليها سرّ مريم فتنبأت اليصابات مكمّلة ما اوحاه الله بواسطة جبرائيل الملاك: ” مباركة انت بين النساء، ومباركة ثمرة بطنك، أنت يا أم ربي” (لو1/42-43). عن هذا الروح القدس، الذي سيفيضه المسيح القائم من الموت على الكنيسة والمؤمنين، قال: ” هو يقودكم الى الحقيقة كلها، ويذكّركم بكل ما قلته لكم” (يو14/26؛16/13). يعضد الروح، مدى الاجيال، السلطة الكنسية التعليمية في عرض حقائق الإيمان وتفسيرها، وفي ما يجب أن نؤمن به عقائدياً، وما يجب ان نعمل خلقياً، وما يجب أن نصبو اليه نهيوياً ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 115-117)، وينير من الداخل قلوب المؤمنين لفهم كلام الله وقبوله (البابا بولس السادس، الحياة البشرية،29). وبهدي الروح عينه طوبت اليصابات مريم على إيمانها الوطيد بوعود الله التي ستتم: ” طوبى لتلك التي آمنت أنه سيتم ما قيل لها من قبل الرب” (لو1/45). وحوّلت مريم هذه النبؤة صلاة: ” ها منذ الآن تطوبني جميع الاجيال لأن القدير صنع بي العظائم” ( لو1/48-49).
ب- حيث المسيح هناك الفرح. بمناسبة لقاء مريم واليصابات، التقى يسوع ويوحنا، وهما جنينان وتفاعلا: “منذ وقع صوت سلامك في اذني، ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطني” (لو1/44). في عرس قانا الجليل، بوساطة مريم، أفاض يسوع الفرح في القلوب، بتحويله الماء الى خمر (يو2/1-11). فرح المسيح هو سلام القلوب الذي ينفي كل اضطراب وخوف (انظر يوحنا 14/27)، فرح لا يستطيع احد انتزاعه من القلوب (يو16/22)، بل يولي الثقة والصمود بوجه المحن برجاء الغلبة: ” كلمتكم بهذا ليكون لكم بي السلام. سيكون لكم في العالم ضيق. لكن ثقوا: أنا غلبت العالم” (يو16/33).
ج- في ضوء المسيح الكلمة ينكشف سرّ الإنسان. لقاء الجنينين يسوع ويوحنا عند لقاء الوالدتين، دلّ على ان الحياة البشرية مقدسة منذ اللحظة الأولى لتكوينها في حشا الام، لأن مصدرها من الله. فيوحنا هو ابن الوعد لزكريا، ويسوع الإله المتجسد. لا يحق لاحد ان يتعدى على الحياة البشرية قبل ولادتها وبعدها (البابا يوحنا بولس الثاني، انجيل الحياة، 61)، أكان هذا التعدي إجهاضاً أم تدخلاً علمياً على الأجنة، أم قتلاً متعمداً، أم قتلاً رحيماً، أم انتحاراً، أم تعذيباً، أم انتهاكاً للكرامة والحقوق (التعليم المسيحي، 2270-2283). إنها كلها جرائم بحق الحياة البشرية التي مصدرها الله، وبالتالي بحق الله نفسه الذي أمر بالوصية ” لا تقتل” (متى5/21-22)، وبالوصية القديمة الجديدة: ” أحبب قريبك كنفسك” ( مر12/31).
ودلّ اللقاء على أن الجنين كائن بشري، له شخصيته وحقوقه، أكان في أيام تكوينه الأولى مثل يسوع، أم في شهره السادس مثل يوحنا. ” إنه مِلك الله الذي كوّنه ويراه، وهو لا يزال نطفة صغيرة لا شكل لها، ويتوسم فيها إنسان الغد المعدودة أيامه والمكتوبة دعوته في “سفر الحياة” (مز138/1،13-16). أكّد الكاتب اللاتيني ترتليانوس: “إن منع الجنين من الولادة جرم قتل. لا فرق بين قتل نفس مولودة في حشا الام وأي شخص بشري آخر” (انجيل الحياة، 61).
2- المرأة والخدمة:
في ضوء إنجيل الزيارة، والخدمة، ينجلي وجه المرأة الزوجة والام وأهمية دورها في المجتمع والكنيسة والمحيط المهني. إنها تنعم بكرامة دافعت عنها الكنيسة باستمرار، (انظر البابا يوحنا بولس الثاني: كرامة المرأة ،6).
تندد الكنيسة بانتهاك كرامة المرأة في مختلف وجوهه، ولاسيما العنف الممارس ضدها، واستغلالها جنسياً لمآرب تجارية وإعلانية وشهوانية، ومنعها من حقوقها، وتحقيرها. كما تندد بالحطّ من قيمة الامومة إن لم يكن بالمعاداة لها، سواء لمنافع شخصية، مثل عدم تحمل أعباء الأمومة، والتحرر الكامل من الواجبات العائلية، والمحافظة على تناسق الجسد، أم لأجل حماية الانتاج الصناعي والمهني والتعليمي، أم بداعي عدم التقيد بزواج والعيش في المساكنة غير الشرعية او في الاتحادات الحرّة. كل ذلك من أجل حماية كرامة المرأة من جهة، ومن أجل تجنيب العائلة والبشرية خسارة جسيمة، إذ لا سبيل للحلول محلّ المرأة في إنجاب الأولاد وتربيتهم. لا تنفك الكنيسة تطالب الدولة بسنّ شرائع تحمي الأمومة في مسؤوليتها المزدوجة، وتوازن بين تعزيز المرأة مهنياً وحماية دعوتها كأم ومربية ( خطاب البابا يوحنا بولس الثاني للمجلس الحبري للعائلة، في 24 اذار 1994، استعداداً للمؤتمر الدولي الرابع حول المرأة في بكين سنة 1995).
إن وجه مريم العذراء ” خادمة الرب” (لو1/38) يسلّط الضوء على المرأة، لكون الله قد لجأ إلى امرأة وإلى خدمتها الحرة والفاعلة، ليكمّل حدث تجسد الابن الالهي. ومريم كالمرآة، اذا نظرت اليها المرأة وجدت جمال انوثتها وكرامتها واسمى ما ينطوي عليه قلبها من مشاعر مثل: كمال هبة الذات بدافع من الحب، القدرة على الصمود في وجه افدح الآلام، الامانة المخلصة، النشاط بدون ملل، البداية من جديد برجاء، الخدمة بسخاء وبدون مقابل (البابا يوحنا بولس الثاني، ام الفادي، 46).
بتكريس ذاتها في خدمة الرب، وضعت مريم نفسها في خدمة جميع الناس، لخدمة المحبة. هذا ما جعلها ” ملكة السماء والارض” كما تضرع إليها جماعة المؤمنين، وكما يكرمها شعوب وأمم. هكذا ينبغي فهم السلطة في العائلة والمجتمع والكنيسة: ملوكية تخدم، وخدمة تملك ( رسالة الى النساء،10). ليست السلطة تسلطاً بل خدمة ( انظر لوقا 22/24-30).
للمرأة دور مميز: دور الأم التي تقدم للكائن البشري حشاها بفرح وسخاء، وترافق خطاه في الحياة، وتعضده في نموه؛ دور الزوجة التي تربط مصيرها بمصير رجل، بهبة ذات متبادلة في خدمة الشركة والحياة؛ دور الابنة والأخت التي تحمل في قلب العائلة والمجتمع مشاعر الحنان والسخاء ومبادرات فرح وسلام؛ دور العاملة الملتزمة في مختلف حقول النشاط البشري: الاقتصادي، الثقافي، الفني، السياسي، الاعلامي، التربوي، فتغنيها بمساهمتها فيها وبأنسنتها؛ دور المكرسة في الحياة الرهبانية أو في العالم، على مثال اكبر النساء، أم المسيح الكلمة المتجسّد، التي تنفتح بروح الطاعة والأمانة لمحبة الله، وتساعد الكنيسة والبشرية جمعاء في إعطاء جواب مخلص لله الذي يريد توطيد شركته مع خلائقه؛ دور المرأة التي تغني العالم بأنوثتها، وتسهم في أنسنة العلاقات بين الناس ( رسالة الى النساء،2).
*****
ثانياً، الاسرة والقضايا الأخلاقية والحياة
في ضوء زيارة مريم الحامل بيسوع في أيامها الأولى إلى اليصابات العجوز الحامل بيوحنا في شهره السادس، تنكشف لنا حقيقة الكائن البشري الذي يبدأ فور تلقيح البيوضة بزرع الرجل ويسمّى أولاً اللاقحة- Zygote، نختار من “ المعجم بالتعابير الملتبسة حول الاسرة والفضايا الاخلاقية والحياة”، موضوع “ حالة الجنين البشري القانونية” الذي كتبه البروفسور Rodolfo Barra.
صحيح أن اللاحقة الناتجة من اتحاد الخليتين التناسليتين هي حتى اليوم الرابع عشر “كتلة خلايا” بيولوجياً، لكنها كائن بشري قانونياً وانسانياً. إنها ” إنتاج بشري” لا نباتي ولا حيواني، لأنه نتيجة استئثارية مباشرة وفورية لقدرة البيولوجيا البشرية الخلاقّة. ولأن ” كتلة الخلايا” هي نتاج بشري، فانها تشارك منطقياً في الكرامة البشرية، لأنها في الواقعة الحية هي شخص ” أنا” الذي يتكوّن بيولوجياً وشكلياً ووراثياً وينمو عبر مراحل بيولوجية خاضعة لزمن محدد حتى اكتمالها. لهذا ” الأنا” الحق الطبيعي بالحياة والولادة.
إجهاضه قتل كاية جريمة تقتل إنساناً. يشارك فيها، إلى جانب الأم والأب إذا وافق، الطبيب والممرضات والمحرّضون. التشريعات البرلمانية التي تشرّع الاجهاض إنما تنتهك العدالة وتتجاوز حدود صلاحياتها حتى الاعتداء على شريعة الله.
عندما قامت مريم بزيارة اليصابات، كانت حاملاً بيسوع في يومه الأول أو الثاني، بعد بشارة الملاك. كانت ” كتلة الخلايا” في حشاها تحمل اسم يسوع الذي أعلنه جبرائيل. كانت شخصاً ذا كرامة وحقوق، وكائناً بشرياً فرداً مستقلاً عن شخص مريم. ولم يكن بعد قد بلغ يومه الرابع عشر.
واليصابات كانت حاملاً بجنين عمره ستة أشهر، لكنه كائن وشخص معروف، اسمه يوحنا مثلما أعلنه الملاك. وهكذا التقى الشخصان السابق للجنين pre-embryon، يسوع، والجنين embryonالذي في طور اكتماله، يوحنا، وتفاعلا، فكانت عطية الروح القدس الذي قدّس اليصابات ويوحنا، وامتلأ البيت من فرح المسيح وفرح الروح.
أجل، الكائن الذي لم يبلغ اليوم الرابع عشر والمسمى ” كتلة خلايا” هو شخص بشري مساوٍ لأي إنسان مولود، وينعم بالكرامة والاستحقاق ككل إنسان، لأن العنصر البشري يساويه بأي شخص آخر مولود. وبالتالي يتمتع بالحقوق التي تقرّها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان (سنة 1948).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
في إطار الملف الثاني من المجمع البطريركي الماروني الذي يعنى بالتجدد في الأشخاص والهيكليات، بعد الملف الأول الذي أوضح الهوية والرسالة، نبدأ النظر في النص السادس: “البطريرك والأساقفة”.
شخص البطريرك
1. اختياره إلهي بقوة الروح القدس، مثلما اختار الله ابراهيم وموسى والرسل. في رتبة الرسامة يقول رئيس المجمع المحتفل: ” روح القدس يدعوك لأن تكون بطريركياً اي أبا الرؤساء على مدينة انطاكية العظمى وسائر ولاية الكرسي الرسولي، أعني اباً لجميعنا”, فيجيب المنتخب: ” إني أطيع وأقبل جميع الأوامر الرسولية والمجامع المقدسة الملتئمة بالروح القدس بالبر والعدل والأمانة لبربنا يسوع المسيح” ( فقرة 3).
2.صفاته مأخوذة من المقاطع الكتابية وتأتي في سياق رتبة السيامة وهي: السهر على شعب الله وفق مشيئته بكل نشاط وأمانة وقداسة وبدون محاباة. بوصفه مدبراً حكيماً وقيماً حريصاً وراعياً صالحاً، يتزين بالقداسة والطهارة ونقاوة الروح والسيرة الصالحة والتواضع. ويصلي الأساقفة ليمنحه الله أن يكون رأس رؤساء ممجّد، لتثبيت شعبه بالحكمة والمعرفة، ويكمّله بالحب والمعرفة، بالخبرة والأدب، بالكمال والنشاط، بالقلب النقي والصلاة من أجل الشعب.
3- يتعهد البطريرك خطياً بالاعتراف بالإيمان الصحيح والتقيّد بالقوانين الرسولية ورسوم المجامع المقدسة والشركة مع الأحبار القديسين الذين توالوا على الكراسي البطريركية، والخضوع للجالس على كرسي روما. هذا التعهد يدرجه في التسلسل الرسولي والشركة الكنسية، وتصبح حياته وقفاً على الكنيسة ولم تعد ملكاً له. وعليه ان يتصرف بهدي انجيل الراعي الصالح الذي وضع على رأسه أثناء الرسامة. ويُسلّم عصا الرعاية لأنه أصبح ” أباً الآباء”. ويهتف الشعب كله ثلاث مرات: ” إنه لمستحق ومستاهل” (الفقرات 3-6).
***
صلاة
يا مريم، يا أمة الله وأم الإله، علّمينا رفعة الخدمة وشرفها، لأن من خلالها يتجلى روح المسيح ويدخل الفرح إلى القلوب. لترَ فيك النساء جمال الأمومة وسموّها، وقد وضعها الله لخدمة الحب والحياة، وأشركها في سرّ أبوّته. ويا ام يسوع، نوّري عقول الأطباء والمشرّعين ليدركوا أن الجنين البشري في حشا الأم كائن وشخص بشري كامل الحقوق منذ اللحظة الأولى لتكوينه بيولوجياً، وأنه بالابن الإلهي أصبح ابناً لله وشريكاً في ميراث الملكوت. للثالوث المجيد الذي اختاركِ، الآب والابن والروح القدس، كل شكر ومجد وإكرام الآن وإلى الأبد. آمين.
***
Discussion about this post