أحد وجود الرب في الهيكل
العائلة مكان تجليات الله
الأحد 31 كانون الأول 2006
من إنجيل القديس لوقا 2/41-52.
كان أبوا يسوع يذهبان كل سنة في عيد الفصح إلى اورشليم. ولمّا بلّغ يسوع اثنتي عشرة سنة، صعدوا معاً كما هي العادة في العيد. وبعد انقضاء أيام العيد، عاد يوسف ومريم، وبقي الصبيّ يسوع في أورشليم، وهما لا يدريان. وإذ كانا يظنان أنه قي القافلة، سارا مسيرة يوم، ثُمّ أخذا يفتشان عنه بين الأقارب والمعارف. ولم يجداه، فعادا إلى أورشليم يفتشان عنه. وبعد ثلاثة أيام، وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء، يسمعهم ويسألهم. وكان جميع الذين يسمعونه منذهلين بذكائه وأجويته. ولمّا رآه أبواه بهتا، وقالت له أمه: ” يا بُنيّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ فها أنا وأبوك كنا نطلبك متوجعين!”. فقال لهما: ” لماذا تطلبانني؟ ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون في ما هو لأبي؟”. أما هُما فلم يفهما الكلام الذي كلمهما به. ثُمّ نزل معهما، وعاد إلى الناصرة، وكان خاضعاً لهما. وكانت أمه تحفظ كل هذه الأمور في قلبها. وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس.
***
في حدث ضياع يسوع ووجوده في هيكل أورشليم وكلماته، وهو في الثانية عشرة من العمر، كان اعتلان لبنوة يسوع الإلهية، واستباق لسرّ الفصح، الآلام والموت والقيامة. وفي عودة يسوع مع والديه الى الناصرة ونهج حياته تنكشف قيمة الأسرة وقدسيتها. يضفي هذا الحدث على بداية السنة الجديدة، التي يسبقها بيوم واحد، قيمة خاصة يبرزها موضوع نداء قداسة البابا لليوم العالمي للسلام في أول كانون الثاني 2007: ” الشخص البشري: قلب السلام”.
أولاً، مضمون الإنجيل
1- الحدث وإيحاءاته
كانت الشريعة اليهودية تقضي بالصعود إلى أورشليم ثلاث مرات في السنة للمشاركة في احتفالات الفصح والعنصرة والمظال (خروج23/14-17؛34/18-23): الفصح أو عيد الفطير يحتفل به في 14 نيسان، والعنصرة أو عيد الحصاد أو الاسابيع، بعد سبعة أسابيع أو خمسين يوماً من الفصح لختام الحصاد ولذكرى قبول شريعة الله في سيناء، والمظال أو عيد الأكواخ في ختام موسم القطاف في الخريف.
لكن الشريعة كانت تستثني من هذا الإلزام من ليسوا قادرين لأسباب قاهرة مثل طول المسافة والحالة الشخصية والعمر. فلا يوسف كان ملزماً بالذهاب إلى أورشليم بسبب المسافة بين الناصرة واورشليم التي تستدعي ثلاثة أيام سفر، فيما الشريعة تحدد الالزام ضمن مسافة يوم واحد أي 30كلم؛ ولا مريم لكونها امرأة؛ ولا يسوع لأنه دون الثالثة عشرة من العمر الذي تحدده الشريعة للإلزام. ومع هذا كانت عائلة الناصرة ” تذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح”، بداعي التقوى، فالروح القدس ” يهبّ حيث يشاء، ولكن لا ضدّ الشريعة بل فوق الشريعة، وبداعي تربية يسوع على حفظ الشريعة بإشراكه في الحفلات الطقسية والموجبات الدينية، قبل بلوغ السّن الملزم.
تسبب ضياع يسوع بألم شديد لأبيه وأمه دام ثلاثة أيام: ” ها أنا وأبوك كنا نبحث عنك بغمّ شديد”. فتذكّرا نبوءة سمعان الشيخ لمريم عندما قدّما الطفل للرب في هيكل أورشليم في اليوم الأربعين لمولده: ” أما أنتِ، فيجوز قلبكِ رمح” (لو2/35). هذه مرحلة اخرى من مراحل المشاركة في آلام الفداء، بعد حالة الفقر والحرمان في الميلاد، والهرب الى مصر ليلاً وخوف ومشقات وهواجس، ثم العودة إلى البيت المهجور في الناصرة (متى2/14-23). لقد أدخلهما يسوع في تصميم الآب الخلاصي: ” أما تعلمان أنه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي”.
لما وجداه في الهيكل بين العلماء يسمعهم ويسألهم اندهشا كما اندهش جميع الذين كانوا يسمعونه. كان علماء الشريعة يعرضون الكتب المقدسة على الشعب، رجالاً ونساءً واولاداً، ايام السبت والاعياد الكبرى، معتمدين اسلوب السؤال والجواب. فكان الانذهال من حكمة الفتى يسوع: فهو حكمة الآب المتجسدة، وكأنه بدأ نشاطه المسيحاني بكل نجاح. فستقول عنه يوماً الشرطة التي كُلفت القبض عليه وأحجمت: “لم يتكلم قط إنسان، كما يتكلم هذا الرجل”( يو7/46).
الهيكل حيث وجداه هو المكان الذي تحفظ فيه الحكمة. فتمت فيه كلمة يشوع بن سيراخ قالها قبل 200 سنة من ميلاده: ” أنا الحكمة من فم العلي خرجت، قبل الدهور ومنذ البدء خلقني وإلى الدهور لا أزول. في هيكل قدسه أمامه خدمت. فتأصلت في شعب مجيد. كالأرز في لبنان ارتفعت، وكالسرو في جبال حرمون وكغراس الورد في أريحا” ( ابن سيراخ 24/3 و9-14). في بيت الله، الكنيسة، نصغي إلى الحكمة الإلهية، إذ يقول القارىء في الطقس البيزنطي: ” الحكمة فلننتصب ونصغ”. وعند دخول بيت الله والاستعداد للإصغاء يقول الكاهن في الطقس الماروني: “دخلت بيتك يا الله، وفي هيكلك سجدت”. لفظة هيكل، في السريانية الآرامية “بيما “، تعني المكان الذي تعلن منه كلمات الحكمة الإلهية، القراءات والكرازة. والسجود يعني الإصغاء بالروح والحق” (يو4/23)، فيقف الشعب وتضاء شمعتان؛ ويعني انحناء الجسد امام الرب، وخضوع العقل للحقيقة الموحاة، واعتراف اللسان، والتزام الإرادة، وتعظيم القلب لعجائب لله، والإشادة بحبه: ” كونوا في السكوت لأن الإنجيل المقدس يتلى الآن عليكم، فاسمعوا ومجدوا واشكروا كلمة الله الحي”. لكن الهيكل الحجري المخصص لله رمز لجسد المسيح: ” اهدموا هذا الهيكل وأنا أرفعه في ثلاثة أيام” (يو2/19)، ولهيكل الله الذي حجارته الحيّة هم المؤمنون: ” أنتم هيكل الله لأن روح الله ساكن فيكم” (1كور3/16).
إن جواب يسوع: ” أما تعلمان أنه ينبغي عليّ أن أكون في بيت ابي”؟ يشكل ظهوراً الهياً، إذ يعلن الصبي يسوع وعيه الشخصي ” إنه ابن الله” ويعترف بلسانه ما سبق وأعلنه الملاك لمريم (لو1/32). فحدد الفرق بين أبيه بالطبيعة الإلهية الذي هو الله ويدعوه ” ابي”، وابيه بالشريعة الذي هو يوسف وتقول عنه مريم ” أبوك”. وفي جوابه أعلن وعيه لرسالته الإلهية، وكشف القيمة الأولية لطاعته للآب الذي هو فوق كل سلطة بشرية أخرى، واكّد أن إرادة الله تفوق كل روابط الدم: ” من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي” (مر4/35). سيقول جبران خليل جبران: ” أولادكم أبناء الحياة. هذا يعني، في ضوء جواب يسوع، ان لكل ولد دوراً في تصميم الآب الأزلي، سيد الحياة والتاريخ، وأن الحياة العامة تفصل الأولاد عن وصاية والديهم عند بلوغهم الثامنة عشرة من العمر. وهكذا يصبحون في ” بيت الآب” لا في بيت والديهم، في عالم الله الفسيح لا في حدود النسب والأسرة الصغيرة. إنه العبور من الخاص الى العام، ثم من البيت الأرضي إلى بيت الآب في السماء، وهوالعبور الأخير: ” إن كان بيتنا الجسدي الذي في الارض ينحل، فإن لنا بنياناً من الله، بيتاً لن تصنعه الأيدي، أبدياً في السماء” (2كور5/1). المهم أن نحسن العبور في هذه الدنيا وفي الآخرة. وحده يسوع المسيح هو طريق العبور.
أما ” القيمة النبوية” للحدث ولكلمات يسوع والإيحاءات فلم يفهمها يوسف ومريم، لكنهما قبلاها بايمان ليتعمقا فيها، وسيكتشفانها شيئاً فشيئاً مع الزمن: ” كانت امه تحفظ كل هذه الكلمات في قلبها”. إن أحداث الحياة أسرار ينبغي أن نقبلها ونقرأها في ضوء الإنجيل.
2. استباق الفصح
كان الحدث والكلمات صورة للفصح الأخير وهو ” عبور يسوع من هذا العالم إلى الآب” (يو13/1) بالآمه وموته والقيامة، بعد العبور الأول من الآب الى العالم بتجسده: ” والكلمة صار بشراً وحلّ بيننا، فرأينا مجده، المجد الذي له من الآب، كأبن وحيد مملوء نعمة وحقاً (يو1/14). كل عناصر الحدث تدلّ الى فصح المسيح وتستبقه.
أورشليم هي مكان آلام المسيح وموته وقيامته. الهيكل هو مكان الاحتفال بالفصح، الذي ينتهي دوره مع قيام هيكل جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة، ومكان الإصغاء والعبور. زمن التواجد في الهيكل كان في عيد الفصح اليهودي. ثلاثة ايام من الضياع رمز لثلاثة أيام يسوع في حالة الموت.البحث عنه بغمّ شديد هو أول ” سيف” جاز في نفس مريم ويوسف، وجعلهما شريكين في الآم الفداء لخلاص البشر، وسيبلغ ذروته في مريم على أقدام الصليب. أولى كلمات يسوع ” ينبغي أن أكون في بيت أبي” (لو2/49) تستبق آخر كلماته على الصليب: يا أبتِ بين يديك استودع روحي” (لو23/46)، وهي تعلن عودته ومكوثه الدائم في ” بيت الآب”. عدم فهم يوسف ومريم لجواب يسوع اختبار للإيمان المتألم في مسيرة رسالة المشاركة في الفداء التي بدأت مع فقر بيت لحم واضطهاد هيرودوس الوحشي، وأنضجت إيمانهما وحبهما. حفظ الكلمات في قلب مريم هو رمز لحبة الحنطة التي تموت في الأرض لتعطي ثمراً كثيرا” ( يو12/24)، هذا الحفظ جعل مريم ترتقي أكثر في فهم تصميم الله الخلاصي الفائق الطبيعة.
لكن يسوع عاد فوراً معهما من ” بيت ابيه” في هيكل اورشليم الى بيت ابيه في الناصرة. وهذا دليل على القيمة النبوية للحدث ولكلماته. فبعد الفسحة الزمنية لفهمها وللنضوج في مسيرة الايمان والمشاركة في رسالة الفداء، عاد يسوع الى حياته الخفية، ” خاضعاً لهما” بانتظار بدء رسالته العلنية.
في كل هذا اعتلان لسر التقوى العظيم، سرّ المسيح، الذي تجلى بالجسد وتبرر بالروح واُعلن عنه على أنه حامل الخلاص، وآمن به العالم أنه مرسل من الآب، الذي اصعده إلى السماء (1تيم3/16). انه سرّ التجسد والفداء وفصح المسيح التام الذي يحررنا من الخطيئة، وينتصر على ” سر الإثم”، ليبعث في نفوسنا حركة توبة وارتداد، ويفتديها ويقودها إلى المصالحة. ” سر التقوى” هذا يعني السلوك المسيحي القائم على التقوى والمحبة ( انظر الارشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس: في المصالحة والتوبة،19-21).
3. الأسرة منبت السلام
في عائلة الناصرة، وعلى مدى ثلاثين سنة، كان يسوع ” ينمو في القامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس” (لو2/52). ينمو في بشريته خاضعاً لأبيه وأمه، محاطاً بعاطفتهما وحبهما الشديدين وقدوة حياتهما في العمل والصلاة والتأمل بأسرار الله الخفية. كان ينمو بالقامة يوماً بعد يوم من تعب يوسف ومريم ومن عمله اليومي في النجارة، وبالحكمة باكتساب المعرفة والخبرة والفضائل الإنسانية والاجتماعية من خلال التربية الوالدية، وبالنعمة الالهية بامتلائه من الروح القدس من خلال الصلاة والتزامه الفرائض الدينية في كل يوم سبت.
في هذا دليل قاطع أن الإنسان لا يستطيع أن ينمو بكليته، في الجسد والنفس والأفكار والأفعال بدون العيش في هذه المدرسة الطبيعية الأولى” و ” الكنيسة المنزلية” التي هي العائلة. أما المدرسة والرعية والمجتمع فكلها تأتي في المرتبة الثانية، وفقاً لمبدأ الاستنابة، بحيث تسقي ما تكون الأسرة قد غرست، وتعتني به. في العائلة تتهيأ دعوة الحياة وتنكشف مشاريع الله، تحت سهر الأب ونظر الأم، وعناية الاثنين، وخضوع الولد لهما.
تنبع ثقافة السلام من العائلة حيث يلقى الشخص البشري احترام كرامته التي طبعها الله فيه، عندما خلقه على صورته ومثاله ( تك 1/26-27). تحتفل الكنيسة في اليوم الأول من كانون الثاني 2007 باليوم العالمي الستين للسلام. وقد وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في المناسبة نداء بعنوان: ” الشخص البشري: قلب السلام”. وآكّد ان كل تعدٍّ على الشخص البشري تهديد للسلام، وأن كل تهديد للسلام تهديد لحقيقة الشخص والله. إن احترام كرامة الشخص البشري شرط أساسي للسلام في العائلة البشرية”.
ويشير قداسته إلى ثلاثة تتهدد العائلة اليوم: ايديولوجيات التعصّب المادي والديني التي تفرض مفاهيم مقيتة عن الإنسان والله والواقع الاجتماعي؛ والعلم التكنولوجيا، وبخاصة ما يتعلق بطب الحياة، اللذين يُستخدمان لغاية أنانية في الترقي وهناء العيش، بدلاً من خدمة خير البشرية العام؛ ونشر انماط حياة غير مرتّبة ومضادّة للكرامة البشرية التي تضعف القلوب والأرواح حتى إطفاء التوق إلى تعايش منظّم وسلّمي.
كل هذه تشكل تهديداً للبشرية، ذلك أن السلام يكون في خطر عندما تفقد الكرامة البشرية احترامها، وعندما لا يبحث المجتمع عن الخير العام. فلا بدّ للكنيسة من أن تعلن إنجيل الحياة الذي يؤكد محورية الإنسان في الكون ومحورية محبة الله للبشرية، وإن تعمل على تعزيز أنسنة شاملة ومتضامنة تسعى إلى إنماء كل إنسان وكل الناس (البابا بولس السادس: ترقي الشعوب).
نقرأ في مستهل الرسالة العامة ” السلام على الأرض” للبابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرين أن ” الإنسان الشخص هو في أساس النظام الإلهي للسلام” ( فقرة1). تضعه كرامته في موقع متفوّق على الاشياء والمؤسسات وفي علاقة مساواة جوهرية مع الأشخاص الآخرين، أياً كان عرقه أو جنسه أو لغته أو دينه أو أصله القومي والاجتماعي. هذه الكرامة الشخصية الكيانية هي منبع الحقوق الإنسانية، ما يجعل الإنسان الشخص صاحب حقوق وحامل حقوق، يتعيّن على الآخرين إقرارها ورعايتها.
كل انتهاك لكرامة الشخص البشري في كيانه وحقوقه تهدد السلام وسط العائلة البشرية. وكل تعزيز لكرامة الشخص البشري تعزيز لثقافة السلام.
***
ثانياً، وجه قديس عزز كرامة الشخص وخير العائلة
القديس Maximilien Kolbe راهب فرنسيسكاني بولوني، قدّم نفسه فدية عن زوج ورب عائلة هو فرنسوا Gajowniczek، في 31 تموز 1941، في سجن Auschwitz في بولونيا. فرنسوا هذا كان بين المئتي الف شخصاً الذين شاركوا في احتفال تقديس الأب Maximilien في 10 تشرين الأول 1982.
أوقف الأب كولب بتاريخ 17 شباط 1941 في غرفة ديره على يد أربعة عسكريين من النازيينGestapo، ورُمي في سجن Pawiak، في وارسو، مع أربعة كهنة فرنسيسكان من الدير نفسه ديرNie pokanov. وبعد تعذيبه نقل الى معسكر ( Auschwitz) في تموز 1941 بتهمة أن الدير استقبل ألفي يهودي ولاجئين آخرين هربوا من وجه النازيين وكان الأب كولب يعتني بهم.
كان بعمر 47 سنة، حاملاً شهادة دكتورا في الفلسفة، مؤسس رسالة الحبل بلا دنس في بولونيا، وهي جماعة صلاة وعمل نشر، وله محطة إذاعية. في السجن الذي كان يضم 600 سجين في القسم 14، حيث وَجد، خلعت عنه وعنهم الكرامة الشخصية ليصبحوا أعداداً، فكان يحمل رقم 16670. على باب السجن كانت الكتابة: ” العمل يحرر”. أنه عمل الأشغال الشاقة. وكان عمله أن يحمّل ويفرّغ الشاحنات بجثث القتلى الى فرن الحريق ومنه. لكن رسالته كانت الصلاة الدائمة وتشجيع الأسرى وتثبيتهم في الرجاء بأن الله يسهر عليهم في سجن العذاب.
في 31 تموز 1941 ضاع أحد المساجين، فحُكم على عشرة بالموت جوعاً وعطشاً، كان بينهم فرنسوا Gajowniczek. وإذ كان يبكي مفكراً بزوجته واولاده الذين سيتركهم يتامى. تقدّم مكسيميليان كولب وأدّى التحية الى الضابط، فقال له هذا الأخير بنبرة: ” ماذا يريد هذا الخنزير البولوني؟” فأجاب: أنا كاهن كاثوليكي بولوني، أريد أن آخذ محل هذا الرجل الذي له زوجة وأولاد”. وبعد صمت وجيز قال الضابط للرجل: ” اخرج”، وأخذ الأب كولب محله. نقل العشرة الى القسم 11 المخصص للتحقيقات والقتل. فاُدخل العشرة عراة إلى غرفة مساحتها 9 أمتار فيها فقط دلو صحي. وعندما أغلق الحارس الباب عليهم قال لهم: ” ستيبسون هنا كالزهر”.
في هذه الغرفة كان الأب كولب يشجعهم ويرتّل، وهم يرددون معه بقوة اليأس. بعد 14 يوماً لم يبق سوى أربعة أحياء يصارعون الجوع والعطش ومن بينهم الأب كولب، فاُنهوا بابرة سامّة في 14 آب 1941 ليلة عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء. يقول الأب Szweda: ” عندما فتحت باب الغرفة وجدت الأب مكسيمليان، كأنه حيّ، وجهه مشع وعيناه مفتوحتان ومصوبتان إلى نقطة معيّنة، وكأنه في حالة أنخطاف. إنه مشهد لن أنساه أبداً”. طوّبه البابا بولس السادس معترفاً في 17 تشرين الأول 1971، وأعلن قداسته شهيداً البابا يوحنا بولس الثاني في 10 تشرين الأول 1982.
***
ثالثا، الخطة الراعوية
لا بدّ من التذكير أن الخطة الراعوية موجهة، فضلاً عن الأفراد إلى الجماعة الرعائية وإلى المجالس واللجان في الرعايا، وإلى العائلة والجماعة الديرية، إلى الاخويات والمنظمات الرسولية، إلى النوادي وسائر الجماعات على أنواعها. هذه تجتمع لتفكّر سوية، ولتتخذ مبادرات عملية تطبيقية.
تتمحور الخطة الراعوية طيلة زمن الغطاس والتذكارات حول النص الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: “ هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها”
1- يُبرز هذا النص العناصر التي تكوّن هوية الكنيسة المارونية والتي في ضوئها تنجلي دعوتها وتتجدد رسالتها. هذه العناصر تؤلف مجتمعة التراث الحي الذي يعطي الكنيسة المارونية خصوصيتها،ضمن الكنيسة الجامعة، في عيش سرّ الخلاص بيسوع المسيح والشهادة له في النطاق الأنطاكي وبلدان الانتشار. الغاية الأولى من إبراز الهوية هي الأمانة لسرّ الخلاص هذا الذي منه تنطلق وعليه تُبنى هويتنا المسيحية؛ والغاية الثانية اعادة نظر شاملة في شؤون كنيستنا من اجل تجديدها وانطلاقتها المستقبلية ( فقرة1)؛ والغاية الثالثة تنشئة الموارنة المنتشرين في بلدان العالم على هويتهم وصون وحدتهم وحفظهم من الذوبان والتشتت، وتأوين عناصر هويتهم لتتلاءم مع ثقافات الشعوب التي ينتمون اليها ( فقرة 4).
2- الكنيسة البطريركية المارونية هي قبل كل شيء تحقيق لسرّ الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدسة، الرسولية، حيثما يتواجد ابناؤها وبناتها، من أجل الشهادة على إيمانهم الرسولي وقيمهم الإنجيلية. وبالتالي هي عمل الله الآب الخلاصي بواسطة ابنه يسوع المسيح وبفعل روحه القدوس، وليست وليدة اعتبارات ثقافية أو قومية أو سياسية بحتة (فقرة 2).
3- إن عناصر هوية الكنيسة المارونية مشتركة في جوهرها بين الكنائس الأنطاكية السريانية،ولو أخذت من الزمن طابعاً مارونياً. ولهذا كنيستنا ملتزمة في الحركة المسكونية من أجل الشركة التامة بين الكنائس في الحقيقة والمحبة ( افسس 4/15)، وفي سبيل تعزيز الحضور الشاهد معاً في هذا الشرق وفي العالم، أمانة ” لدعوة المعلم الإلهي”(فقرة 3).
4- العنصر الأول من هويتنا المارونية هو اسم موارنة. إنه مأخوذ من اسم القديس مارون المتوفي حوالي سنة 410، شفيع كنيستنا الذي ابتكر طريقة نسكية فريدة من نوعها لعيش إيمانه بالمسيح وقيم الإنجيل، على جبل قورش، في المنطقة الجغرافية من الامبراطورية الرومانية المسماة سورية الأولى، يرجّح من علم الآثار ان مارون تنسّك في قلعة كالوتا في جبل سمعان، وهي على مسافة 30 كلم من مدينة حلب، وأن جثمانه وضع في مدينة براد القريبة من قلعة كالوتا. أما طريقته النسكية فقوامها العيش في العراء. نجد سيرة حياته في كتاب تيودوريطس أسقف قورش آنذاك بعنوان: ” تاريخ أصفياء الله”. واسم موارنة يرجع ايضاً إلى الدير الذي بُني على اسم مارون، بعيد مجمع خلقيدونيا ( 451) في منطقة افاميا الكائنة في سورية الثانية. يُعتبر دير مار مارون بحق مهد الكنيسة المارونية الذي في كنفه وحوله نشأت بطريركية مستقلة بين نهايات القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن ( فقرة 6).
***
صلاة
أيها الله الآب، نشكرك على عائلة الناصرة المقدسة، عائلة يوسف ومريم ويسوع، وقد أردت أن تكون عائلاتنا على مثالها. نشكرك على العائلة التي أعطيتنا إياها، لكي نقبل منك فيها الحب كل يوم: به ننمو ونتعاون ونتصالح، وبه نشهد لحبك الذي خلقت به كل حياة وتعتني بكل إنسان.
نشكرك أيضاً على جماعتنا المسيحية، في الرعية وفي الأبرشية، وعلى أنك تجعل علامات محبة يسوع حاضرة في الكلمة والافخارستيا والمحبة الآخوية. اجعل عائلاتنا شبيهة بالكنيسة اكثر فاكثر، في إيمانها بك وفي قبول كلمة يسوع كما قبلتها مريم، وفي الطاعة لإلهاماتك في حياة كل يوم مثل يوسف. لك المجد، أيها الآب، مع ابنك الوحيد وروحك القدوس إلى الأبد، آمين ( من كتاب الكردينال كارلو- ماريا مارتيني: عند الفجر بحث عنك).
Discussion about this post