أحد وجود الرب في الهيكل
عيد العائلة المقدسة
التربية في العائلة
الأحد 30 كانون الاول 2007
من إنجيل القديس لوقا 2/41-52.
وكانَ أَبَوَا يَسُوعَ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ في عِيدِ الفِصْحِ إِلى أُورَشَليم. ولَمَّا بَلَغَ يَسُوعُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدُوا مَعًا كَمَا هِيَ العَادَةُ في العِيد. بَعدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ العِيد، عَادَ الأَبَوَان، وبَقِيَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ في أُورَشَلِيم، وهُمَا لا يَدْرِيَان. وإذْ كَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ في القَافِلَة، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْم، ثُمَّ أَخَذَا يَطْلُبانِهِ بَيْنَ الأَقارِبِ والـمَعَارِف ولَمْ يَجِدَاه، فَعَادَا إِلى أُورَشَليمَ يَبْحَثَانِ عَنْهُ. َبعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّام، وَجَدَاهُ في الـهَيكَلِ جَالِسًا بَيْنَ العُلَمَاء، يَسْمَعُهُم ويَسْأَلُهُم. وكَانَ جَمِيعُ الَّذينَ يَسْمَعُونَهُ مُنْذَهِلينَ بِذَكَائِهِ وأَجْوِبَتِهِ.
ولَمَّا رَآهُ أَبَوَاهُ بُهِتَا، وقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: “يا ابْنِي، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هـكَذا؟ فهَا أَنَا وأَبُوكَ كُنَّا نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَوَجِّعَين!”. فَقَالَ لَهُمَا: “لِمَاذَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأَبي؟”. أَمَّا هُمَا فَلَمْ يَفْهَمَا الكَلامَ الَّذي كَلَّمَهُمَا بِهِ. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا، وعَادَ إِلى النَّاصِرَة، وكانَ خَاضِعًا لَـهُمَا. وكَانَتْ أُمُّه تَحْفَظُ كُلَّ هـذِهِ الأُمُورِ في قَلْبِهَا. وكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو في والقَامَةِ الـحِكْمَةِ والنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ والنَّاس
ظهر يسوع في الهيكل معلماً يدهش العلماء، وهو في الثانية عشرة من العمر. علّم العلماء بدل أن يعلموه. وظهر ابناً للآب السماوي، منصرفاً أبداً غلى تتميم إرادته. الهيكل هو بيته الأساسي، بعد ان قدّمه والداه لهيكل الرب وهو في الشهر الأول من عمره. لم تفهم مريم ولا يوسف جوابه الخفي. بل ظنت أمه أن نبوءة سمعان الشيخ عن أن سيفاً سيجوز قلبها، قد تحققت. ستظل حياة يسوع احتجاباً وظهوراً، لأنها في الاصل كذلك: فالمحتجب منذ الأزل ظهر للعيان بميلاده من البتول؛ الكلمة خالق الكون الخفي يظهر جنيناً في بطن الأم الممتلئة نعمة؛ ذلك الذي باح بسره للأنبياء يظهر معلماً وهو الكلمة؛ احتجب عن الحكماء والفهماء وظهر للأطفال المتواضعين؛ هذا الذي احتجب وراء اغشية الطبيعة البشرية بضعفها وجوعها وآلامها ظهر متجلياً باشعة لاهوته على جبل طابور؛ وهذا الذي احتجب مائتاً بالذل على الصليب ظهر حياً ممجداً قائماً من الموت؛ هذا المحتجب تحت أشكال الخبز والخمر هو إياه الإله الجالس على عرش السماء وعمانوئيل ” الله معنا”، الحاضر بقوة الروح القدس في كلمة الإنجيل نوراً للعقول، وفي الأسرار نعمة تشفي وتقدس، وفي القلوب محبة تشهد لمحبة الله.
***
أولاً، شرح نص الإنجيل
1- أبوة الله وبنوة الإنسان
” ألا تعلمان انه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي؟” ( لو2/49).
إنه ابن مريم ويوسف في بشريته لكنه في الوهته ابن الله. بقوله ” ما هو لأبي” يعني الغاية من تجسده، وإعلان انصرافه في سبيلها، والسبب الذي بدونه يفقد تجسد الكلمة مبرره. راحت الكنيسة بلاهوتييها تفسّر هذه الغاية السبب.
فقالت مدرسة القديس انسلموس: كرامة الله التي انتهكها الإنسان بخطيئته تقتضي التعويض والتكفير من أجل مرضاة عدله، وتقتضي إعادة ترميم طبيعة الإنسان المخلوقة على صورة الله وقد شوهتها الخطيئة، تحقيقاً لبّره. لكن الإنسان غير قادر على التعويض والتكفير، وعلى محاربة من وما أغواه لأنه عبد له ومديون. وحده الله، غير المديون لأحد يستطيع النصر على الشيطان مستعبد الإنسان وعلى حيله وإغراءاته، فكان لا بد من أن يتجسد، بشخص يسوع المسيح الإله والإنسان. فتحقق الفداء والتكفير والتعويض بآلامه وموته، والانتصار بقيامته. لقد جعل ذاته خطيئة من أجلنا، فكان الكاهن والذبيحة: كاهن يفتدي وذبيحة تكفّر. هذه الحقيقة السامية أصبحت صلاة الكنيسة يتلوها الكاهن في القداس: “أيها القربان الشهي، الذي قدمت نفسك لأجلنا! يا ذبيح الغفران الذي أنت نفسك قربت نفسك لأبيك! ايها الحمل الذي كنت كاهن قربانك! لتكن صلاتنا، على نفح رضاك، أيها المسيح، بخوراً نقربه بك لأبيك. لك المجد إلى الأبد”. لا يستطيع الإنسان أن يتبرر بنفسه، فلا يبرره إلا القدوس الذي اتخذ الطبيعة البشرية منزهة من كل خطيئة، وضمّ إليها، في سرّ جسده السرّي طبيعة كل إنسان، وراح بقوة روحه القدوس يقدسها ويؤلهها. يا للتبادل العجيب: ” وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك، أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا، لك المجد الى الأبد”( القداس الماروني).
التجسّد هو البرهان الأسمى عن حب الله للبشر (1تيطس3/4)، والدعوة الى محبة الله بشكل يليق به، وإلى التعبير عن محبتنا له بافعال حب للإنسان الذي أمامنا بضعفه وقوته، بفقره وغناه، بجماله وقباحته، قريباً كان أم غريباً. يوحنا الرسول، لاهوتي المحبة، ينبهنا: ” لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحق” (1يو3/17).
هذه هي حضارة المحبة ومضمون ما قال الصبي يسوع لابيه وامه في الهيكل: ” ينبغي علي ان اكون في ما هو لابي”. افراد العائلة وابناء الكنيسة مؤتمنون على حضارة المحبة ومدعوون الى ادخالها في ثقافات مجتمعاتهم.
2- العائلة المسيحية
” نزل يسوع معهما الى الناصرة، وكان يطيعهما…وينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس” ( لو2/51-52). تحيي الكنيسة في هذا الأحد عيد العائلة المقدسة، عائلة الناصرة. فيها استعادت العائلة المسيحية قدسيتها وكرامتها، على أنها ” كنيسة بيتية” مبنية على سرّ الزواج. الله حاضر فيها، بكلمته ونعمته، وهي جماعة إيمان ورجاء وحب. فيها تتحقق الشركة بين الأشخاص على صورة الثالوث الإلهي، ويتم تقاسم الخيرات الروحية والمعنوية والمادية، ويعاش التفاني وبذل الذات والانسجام على مثال اتحاد المسيح بالكنيسة. إنها المكان الأول للتربية على الصلاة، حيث أبناؤها، ابناء الله وبناته، يصلون معاً ككنيسة.
وبوصفها ” كنيسة بيتية”، تشارك العائلة كنيسة المسيح في رسالتها المثلثة: الخدمة النبوية تقوم بها كجماعة مؤمنة ومبشرة بالإنجيل، والخدمة الكهنوتية كجماعة مصلية وفي حوار دائم مع الله،والخدمة الملوكية كجماعة المحبة والعدالة والانتصار على الشر (الارشاد الرسولي: في وظائف العائلة المسيحية 21،49- 64).
في عائلة الناصرة، نما يسوع بالطاعة لوالديه، محققاً الوصية الإلهية: ” أكرم اباك وامك” ( خروج20/12)، وبفضل تربيتهما نمت شخصيته بابعادها الثلاثة: القامة من خلال عنايتهما المادية،والحكمة بتربيته على القيم الخلقية والثقافية والإنسانية، والنعمة بالسهرعلى اتحاده العميق بالآب والروح القدس، وبإزكاء حياة الإيمان لديه. في هذه الحياة العائلية المقدسة هيأ يسوع رسالة الفداء.
علّمت الكنيسة أن الوالدين هم المربون الأولون لأولادهم، حسب قناعاتهم الدينية والخلقية وتقاليدهم الثقافية ( البابا يوحنا بولس الثاني: رسالة الى العائلات،16). مهمتهم تربية اولادهم ليعيشوا في الحقيقة والمحبة. هذه التربية هي واجب على الاهل جوهري لعلاقته بنقل الحياة البشرية إلى أولادهم، واساسي بالنسبة إلى مهمة الآخرين التربوية، وأولي بداعي رباط الحب الفريد بين الوالدين وأولادهم، ولا بديل او غنى عنه فلا يفوّض إلى غيرهم بشكل مطلق ولا ينتزعه منهم أحد ( في وظائف العائلة المسيحية، 36).
العائلة هي حقاً ” المدرسة الأولى للحياة المسيحية، وللأنسنة الغنية” ( دستور المجمع الفاتيكاني الثاني:الكنيسة في عالم اليوم، 52). في هذه المدرسة نتعلم فرح العمل، وقيمة التعب والمحبة الأخوية، والمغفرة السخية والمتجددة، وبخاصة العبادة الإلهية في الصلاة وهبة الذات ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1657).
***
ثانياً، الكنيسة والفكر السياسي
يملي علينا واقع مفهوم السياسة وطريقة ممارستها، وقد رأينا إلى أي انحطاط بلغا، لا بدّ من العودة الى تعليم الكنيسة بشأن الفكر السياسي والممارسة السياسية. فاخصص القسم الثاني من التنشئة المسيحية للحديث عن ” الكنيسة والفكر السياسي”. موضوع اليوم: السياسة فن شريف لخدمة الخير العام.
المفهوم الأصلي للسياسة إنها فن شريف لخدمة الخير العام. ولها مبادىء وأخلاقية. وبما أن غايتها خدمة الخير العام، فتفترض تنوعاً في الآراء، يبدأ مع أفراد الشعب الذي تمارس باسمه، كما تقتضي الديموقراطية، ويتبلور في الأحزاب والتيارات، شرط ألاّ تصادر هذه حق الآخر المختلف في التفكير، وألاّ تؤدي إلى القطعية بين قياداتها، وإلى عداء وصدام بين المحازبين، وألاّ تختطف رأي الشعب وتختذله أوتهمله.
من حق كل مواطن وواجبه، ومن حق جميع المواطنين وواجبهم، إعطاء الاولوية للخير العام الذي هو ” مجمل أوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخلقية والسياسية التي تمكّن الاشخاص والعائلات والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقاً افضل” ( دستور المجمع الفاتيكاني الثاني: الكنيسة في عالم اليوم،74). تأتي السلطة السياسية الشرعية لتؤمن هذا الخير العام الذي منه خير الجميع، فتعمل بنجرّد، لا عن مصلحة شخصية أو فئوية.
على هذا الأساس، يكون العمل السياسي فناً يتناول على التوالي:
– تنظيم الحياة العامة في مقتضياتها اليومية ومتفرعاتها.
– تنظيم الدولة في نشاطها الداخلي، إدارة وأجهزة ومخططات ومشاريع في ميادين الاقتصاد والاجتماع والتشريع والثقافة؛ وفي نشاطها الخارجي مع الدول بما تقيم معها من علاقات متبادلة، وما تبرمه من اتفاقات لصالح الجميع.
– تعزيز محبة الوطن وكرامته وقيمه وتراثه ورموزه وتاريخه وعاداته، وتحقيق آمال ابنائه وتطلعاتهم، وإزالة هواجسهم، وتجنيبهم ما يتهددهعم من أخطار.
كون السياسة فناً شديد الصعوبة، فلا يتقنها ويؤمّن غاياتها، ويجنّب الوطن والشعب مهالك فسادها وسوء أدائها، إلا من أهّب نفسه لممارستها، واكتسب خبرة في تعاطيها، وكان ذا كفاءة للعمل بها، وأظهر ماضيه تفانية في سبيل الخير العام الموصوف أعلاه.
هذه هي المعايير التي يختار الشعب على أساسها ممثليهم في العمل السياسي والإداري، لا على مقياس ردات الفعل العاطفية، ولا لقاء الرشوة وشراء الأصوات.
نعاني اليوم ” من أزمة في الكوادر السياسية والتمثيل السياسي ودور المؤسسات. من الضرورة تفعيل مشاركة المواطنين بحيث يلتزمون في البحث عن السبل الأفضل ملاءمة لتحقيق الخير العام بشكل مُرضي. عندما يستدعي سوء الحالة مواجهات، ينبغي ان تكون هذه بناءة، مع الانتباه إلى عدم الانزلاق في معارضة عنيفة تتسبب بأضرار كبيرة على الجماعة، بل ينبغي اللجوء دائماً الى الحوار كوسيلة لا بديل عنها” (البابا يوحنا بولس الثاني: عظة في يوبيل المسؤولين عن الحكومات والبرلمانيين ورجال السياسة والغدارة، في 5/11/2000، فقرة5).
لا وجود لعمل سياسي إلاّ من أجل الخير العام لكونه المبدأ الذي يخلق المجتمع الإنساني، والعامل الذي يحفظ هذا المجتمع. إذا طغت المصالح الفردية والفئوية على الخير العام، وقع الخلل في المجتمع، وتفككت العلاقات بين أبنائه وفئاته. فمن واجب كل شخص يمارس السلطة السياسية أو يسعى إليها أن يعمل من أجل السلام في المجتمع والانسجام بين افراده.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي السادس:” البطريرك والأساقفة”، وتتناول تحديداً مهمة الأساقفة المثلثة: التعليم والتقديس والتدبير.
1- خدمة التعليم (الفقرتان 25-26).
يمارس الأسقف مهمة التعليم بالكرازة والوعظ والإرشاد في مختلف المناسبات، وفي الرسائل التي يوجهها إلى أبناء الأبرشية، ويمارسها جماعياً من خلال سينودس مطارنة الكنيسة.
تقتضي منه هذه المهمة تثقيفاً ذاتياً تواصلاً، والتزاماً في عيش ما يعلّم.
2- خدمة التقديس (الفقرات 27-31).
يمارس الأسقف خدمة التقديس مباشرة عندما يحتفل بالأسرار المقدسة، وبواسطة الكهنة الذين يوكل إليهم العناية الروحية لأبناء رعاياهم. ومن واجبه السهر على إتقان الاحتفال بالليتورجيا لكي يتأمن الغذاء الروحي للمحتفل وللمؤمن المشارك. ويعتني بتثقيف الكهنة والمؤمنين ليتورجياً لإدراك قدسية الليتورجيا والمشاركة الواعية والورعة فيها، والدخول في الشركة العميقة مع الثالوث القدوس.
ويمارس الأسقف خدمته هذه بنوع خاص في صلاته الشخصية وتقديس الذات، ليكون مثالاً أمام شعبه وعلامة لفعل النعمة فيه.
3- خدمة التدبير
يُسمى الاسقف في كتبنا الطقسية ” المدبر الحكيم”، فتشمل خدمته بالدرجة الأولى الأمور الروحية، ثم الأمور الإدارية والمادية. والكل يهدف إلى تكوين الجماعة المؤمنة التي هي ” بنيان بيعة الله” ( رتبة الرسامة).
فيكون قريباً غلى شعبه وهمومه وتطلعاته، حريصاً على نمو أبناء شعبه في الحياة الروحية. يحمل محبة المسيح والرجاء به ورسالة الخلاص المؤتمنة عليها الكنيسة.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد علّمتنا، وأنت بين العلماء في الهيكل، إن غاية الوجود تتميم إرادة الله. أعطنا أن نصنع التاريخ متعاونين مع مقاصد الله الخلاصية، بالإصغاء إلى كلام الرب والهامات الروح وبالطاعة للوحي الالهي. اجعل من كل عائلة بشسرية مكاناً ووسيلة لتربية الإنسان على النمو في القيم الإنسانية والروحية والخلقية، على مثال عائلة الناصرة التي فيها تربّيت إنساناً. وكما تفانيت في سبيل فداء البشر أجمعين، قوّنا على التفاني في سبيل الخير العام، أياً كانت مسؤولية كل واحد منا. أعطِ رعاة الكنيسة، أساقفة وكهنة، أن يقودوا شعبك إلى الحقيقة بتعليم إنجيلك، ويقدّسوه بنعمة أسرارك، ويشددوا وحدته وتضامنه برباط المحبة. ولك نرفع كل مجد وشكر ولأبيك المبارك وروحك الحي القدوس إلى الأبد، آمين
Discussion about this post