إن العلاقة بين معمودية المسيح في نهر الأردن وبين صبغته الخلاصية على الصليب عندما تخضَّب جسده بالدم
هي علاقة عميقة وسريَّة للغاية، فقد اعتمد المسيح في الأردن ليفتتح درب الصليب طريق الخلاص، وأكمل من أجلنا كل بر الناموس، كقوله ليوحنا قبل أن ينـزل إلى الماء
وعِوَضَ كل خاطئ بل عوض البشرية كلها قَبِلَ المعمودية وكأنه يعترف بخطايا جميع الناس.
أما معمودية الصليب التي عبَّر عنها بالصبغة المزمع أن يكمِّلها، فقد دان بها الخطية ذاتها بالجسد ومات لأجل الجميع ليحيا الجميع للذي مات لأجلهم وقام (راجع: 2كو 5: 15).
«المسيح لم يكن يعمِّد» – هكذا يسجِّل لنا إنجيل القديس يوحنا – «بل تلاميذه» (يو 4: 2)، أما المسيح فقد عمَّد البشرية كلها بصبغة الصليب بالدم مرَّة واحدة لمغفرة الخطايا. وهكذا افتتح لنا سرًّا من أخطر أسرار الحياة، وهو القيمة المذخرة في معمودية الدم (أي الاستشهاد):
«بالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان» (مر 10: 39)، فهي ليست بديلاً لمعمودية الماء فحسب، بل هي الأصل الذي تصدر عنه كل مفاعيل معمودية الماء التي نعتمد بها. فنحن في الماء نموت لا بشبه معمودية المسيح بل بشبه موته على الصليب، ونُدفن لا بشبه تغطيسه في ماء الأردن، بل بشبه دفنه في القبر ثلاثة أيام، ونقوم لا بشبه خروجه من الماء بل بشبه قيامته الحقيقية من القبر على يد شهود.
لقد أمات الله البشرية كلها مرَّة بالطوفان أيام نوح، ولكن كعقاب للخطاة وكغضب مُعلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم.
ولكن هذه المرَّة أمات الله على الصليب ليس البشرية الخاطئة بنوع الغضب – كمثل الطوفان:
«نهاية كل بشر قد أتت أمامي» (تك 6: 13)، حين لم يبقَ سوى ثمانية أبرار أبقاهم لنفسه من كل البشرية، حيث كانت هذه النسبة تمثِّل فداحة الخطية التي اجتاحت العالم آنئذ – بل هذه المرَّة لم يبقَ أمام الله ولا حتى ثمانية أنفس ليُبقيهم، بل أمات الله الطبيعة البشرية بحد ذاتها ككل – تلك التي أخذها لذاته في شخص يسوع المسيح.
لقد اعتمد بها في الأردن وأعدَّها للموت والقيامة، لقبول حياة أبدية لا تزول بلا خطية بعد. فالله أمات البشرية في ابنه، وأحياها مرَّة أخرى لنفسه، ليعيش الإنسان لا لنفسه فيما بعد بل لله في المسيح.
فالمسيح على الصليب اعتمد، أي انصبغ جسده أي طبيعتنا البشرية، للموت. انصبغ بالدم عن «كل بشر»، وهذا ما سبق وأعطى مدلوله ومفهومه التطهيري الطقسي عندما اعتمد في الأردن:
«ولما اعتمد جميع الشعب (للتوبة) اعتمد يسوع أيضاً» (لو 3: 21). ولكن إن كان الجميع اعتمدوا من يد يوحنا كعبيد وخطاة أمام الله مقرِّين بخطاياهم، هاربين من غضب الله، فالمسيح اعتمد كابن محبوب لله:
«وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيب بكَ سُررت» (لو 3: 22). وهكذا بدأ مفهوم تبنِّي الله للبشرية في شخص المسيح مبكِّراً جدًّا في هذا الإعلان العجيب، الأمر الذي أعلنه إنجيل القديس يوحنا بوضوح عند قوله بفم الله الآب:
«أما كل الذين قبلوه (اعتمدوا له) فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله … الذين وُلِدُوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله!!» (يو 1: 12 و13)
وعلينا أن نلاحظ أن معمودية يوحنا للشعب وللمسيح في الأردن لم تأتِ من فراغ. فالدخول في الماء بشبه مخاطرة الموت والخروج منه بشبه نصرة الحياة كإعجاز فائق أو كسِرٍّ عميق، نجده واضحاً في عبور شعب إسرائيل البحر على يد موسى
وعين الله في السماء ترعى العابرين بطاعة الكلمة، فلم تَبْتَل حتى ثيابهم، أي لم يدركهم الموت قط. أما هذه العين ذاتها، أي عين الله، فكانت تُرعب المعاندين لصوت الله، فكان غرقهم بالجملة.
إنهم «جميعهم (أي شعب إسرائيل) اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر» (1كو 10: 2).
هنا السحابة تعبِّر عن حضور الله والخضوع لكلمته في الصبغة التي أخذها الشعب تحت عمود السحاب وعمود النور. ونلاحظ أن المسيح أيضاً اعتمد في البحر وفي السحابة: في البحر على يد يوحنا المعمدان، وفي السحابة في التجلِّي على يد موسى وإيليا، لأن في الأردن انصبغ المسيح عن كل الشعب، وفي السحابة المنيرة بشهادة الناموس والأنبياء.
وهكذا تنكشف لنا أعماق أسرار معموديتنا الآن، التي أخفق شعب إسرائيل أن يحتفظ بقوَّتها، فأعادها لنا المسيح بقوَّة لا تزول، بقوَّة روح الله القادر حقًّا أن يميت ويحيي، يميت كل ما هو باطل فينا ويحيي كل ما هو حق.
لذلك نسمع مبكِّراً جدًّا عن الروح القدس كقوَّة مؤثِّرة وفعَّالة وأساسية في العماد من قول يوحنا المعمدان:
+ «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 33)
ولأن المسيح هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فواضح غاية الوضوح أنه سيمنحنا كل نتائج موته عن الخطايا وكل مستحقات أمجاد قيامته سرًّا بالروح القدس، الروح الذي يعمل في الطبيعة البشرية ليخلقها من جديد، بقوَّة تفوق الناموس والوصايا وكل وسائط العهد القديم، الأمر الذي يفوق «كل بر» بالمفهوم القديم.
فمعموديتنا الآن للمسيح إنما تتم بالمسيح «هو الذي يعمد»، ليعطينا كل ما له بالروح القدس بعد أن يرفع عنا خطايانا.
+ «نحن الذين اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح» (راجع: غل 3: 27) ليصير المسيح فينا حياتنا.
+ «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20). هذا هو قمة عطايا الله للإنسان، وإن كانت حياتنا الآن مستترة في المسيح لله لا يحسها إلا روح الإنسان الذي فيه».
وهكذا فإن عماد المسيح بالماء وحلول الروح القدس عليه بعد خروجه من الماء وامتلاءه منه وشهادة الله له بالبنوَّة،
هذا يعطي الأساس اللاهوتي لمعنى ومضمون عمادنا للمسيح من الماء والروح على خلفية الصليب المحيي، ويعود بنا إلى العهد القديم محقِّقاً قول إشعياء النبي القائل: «هوذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرَّت به نفسي. وضعتُ روحي عليه فيُخرج الحق للأُمم.» (إش 42: 1)
ولهذا نسمع المسيح ينبِّه ذهن تلاميذه إلى الأهمية العُظمى لانطلاقه إلى الآب:
«خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي» (يو 16: 7)، لأن المسيح يدرك أن إرساله الروح القدس من عند الآب كفيل أن يكمِّل مسيرة المسيح الخلاصية، ليس للتلاميذ فحسب بل للعالم كله، على أساس استعلان قيمة موت المسيح وقيمة قيامته، ثم مَنْحِهما معاً كفعل واحد في المعمودية
وهذا كفيل أن يخلق الطبيعة البشرية بالروح من جديد. فموت المسيح وقيامته، وإن كانا يعطيان الأساس للمعمودية بحد ذاتهما، إلا أنه لا يمكن أن تُستعلن قوتهما أو أن ينال أحد مفعولهما وأثرهما أو يشترك فيهما إلا بواسطة الروح القدس.
لذلك، فالعماد لموت المسيح وقيامته واشتراك الإنسان فيهما لمغفرة الخطايا وقبول حياة جديدة، ما كان يمكن أن يبدأ، حتى وبعد أن أكمل المسيح موته وقيامته، إلا بمجيء المعزِّي الروح القدس.
ومن هذا الاتجاه نفهم لماذا شدَّد الرب على التلاميذ أن لا يبرحوا أُورشليم حتى يحل الروح القدس عليهم وينالوا مِلأَه، لأنه بدون الروح القدس لا يمكن إدراك مفعول العماد أو مباشرة عمله من جهة مغفرة الخطايا وإعطاء حياة أبدية.
كذلك عندما نفخ الرب في وجه تلاميذه بعد القيامة وقال: «مَنْ غفرتم خطاياه تُغفر له» (يو 20: 23)، فإن المسيح هنا في الحقيقة يعطي بداية قوة وأساس الكرازة والتبشير والتلمذة للمسيح بالعماد. هنا إشارة ضمنية إلى المعمودية، لأن قيام التلاميذ بإعطاء الروح القدس الذي قبلوه هو كفيل بأن يهب الآخرين الشركة في موت الرب وقيامته، التي هي أساس مغفرة الخطايا وذلك بالمعمودية.
واستطراد المسيح بقوله: «مَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت» (يو 20: 23)، يعطي إشارة ضمنية إلى ”منع المعمودية“ الذي يعني بالتالي منع إعطاء مغفرة الخطايا.
والمنع هنا قاصر على تمادي الإنسان في الارتباط بأركان العالم المظلمة، أي انعدام نيَّة التوبة والموت عن أباطيل العالم؛ لهذا نجد في ترتيب الخلاص أن موت المسيح عن العالم يسبق حتماً إعطاء الروح القدس.
«مَنْ آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد» (يو 7: 38 و39).
هنا الروح القدس المكني عنه بـ«أنهار الماء الحي» مرتبط بموت المسيح. هنا أيضاً إشارة إلى ترتيب عناصر المعمودية: الموت أولاً ثم إعطاء الروح القدس. لهذا لم تبدأ المعمودية لموت المسيح وقيامته إلا بعد دخول الروح القدس إلى العالم يوم الخمسين بتعيين مُسْبَق.
لذلك حينما قال الرب على الصليب: «قد أُكمل» ونكَّس الرأس (يو 19: 30)، كان هذا إيذاناً ببدء تاريخ حركة المعمودية لخلاص الإنسان.
فقد أكمل المسيح الصبغة – أي أنه رفع الخطية عن العالم بموته على الصليب – محقِّقاً أساس المعمودية التي اعتمد بها من يد يوحنا، وقَبِلَ الصبغة التي طالما تكلَّم عنها، أي معمودية الموت التي سيعتمد بها ولها كل بشر لنوال مغفرة الخطايا والحياة الأبدية.
وعندما حلَّ الروح القدس يوم الخمسين اكتمل الفعل والفاعل، فانطلقت الكنيسة في الحال تبشِّر وتعمِّد لموت المسيح وقيامته، وبدأ تاريخ الخلاص الفعلي، وانفتح ملكوت الله لكل الذين قبلوه مصطبغين باسمه مدعوين أبناء الله.
إن المعمودية بهذا الوصف الدقيق هي مركز الخلاص وقوَّته وأساسه وفعله، وهذه هي الحقيقة الأُولى في المسيحية، على أساس استيعاب دور الروح القدس فيها، الذي ليس فقط يعطي بالفعل السرِّي ما أكمله المسيح لنا بموته وقيامته من غفران خطايا وحياة أبدية
بل ويكشف لنا عن شخص المسيح نفسه ويستعلن علاقته مع الآب، تماماً كما حدث ليوحنا بالروح القدس بعد أن اعتمد المسيح، إذ يقول: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34)،
لأن حلول الروح القدس على المسيح فتح عيني يوحنا وفتح أذنيه، فرأى الروح نفسه وسمع صوت الآب معلناً أن المسيح هو ابن الله.
إذاً، فقوَّة المعمودية تتعدَّى فعل الخلاص كشركة في موت المسيح وقيامته، وتتجاوز عطية الروح القدس المختصَّة بإعطاء حياة جديدة لسلوك جديد، إذ فوق هذا وذاك تفتح البصيرة لكي يدرك الإنسان ما وراء فعل الخلاص وعطية الحياة بالروح، أي حقيقة المسيح نفسه ولاهوته في سر الثالوث المذهل: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» …!
لذلك فبعد ما نالت الكنيسة الروح القدس يوم الخمسين، انطلقت تشهد وتعمِّد بالروح القدس. فالتلاميذ يشهدون للمسيح، والروح القدس يشهد في المعمَّدين بألسنة جديدة:
«الروح … يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً» (يو 15: 26 و27). فالروح القدس كان ينطق في المعمَّدين لحظة وضع الأيادي، شاهداً للمسيح بلسان جديد وبقوَّة وبآيات وعجائب كآية تعلن قيمة المعمودية وفعلها، وكعطية خلاصية لحصول مغفرة الخطايا وقبول حياة جديدة فائقة، فيها ينطلق اللسان شاهداً للمسيح بفرح لا يُنطق به ومجيد، ولنوال الاستنارة الذهنية التي بها يدرك الإنسان سر المسيح فينطلق يبشِّر ويشهد بما يرى وبما يسمع كل يوم:
«لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلَّم بما رأينا وسمعنا.» (أع 4: 20)
وقول حنانيا بالروح لشاول الطرسوسي يجمع بين المعمودية والشهادة بصورة واضحة وحاسمة:
«لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت. والآن لماذا تتوانى؟ قُم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 15 و16)
هكذا استودع المسيح سر موته وقيامته للكنيسة بواسطة سكب الروح القدس في العماد باسم الرب كفعل سرِّي خلاصي وكقوَّة شهادة لا تعاند. وهكذا صارت الكنيسة مؤتمنة على فعلَي الموت والقيامة تمنحهما أو تمنعهما؛ تمنحهما فينال الإنسان الحِلَّ والمغفرة من جميع خطاياه للحياة الأبدية، أو تمنعهما عن الذي تراه غير مؤتمن على هذا السر فيبقى في خطاياه وتمتنع عليه الحياة الأبدية.
والمعمودية سر لا يتكرَّر، لأن المسيح مات مرَّة واحدة ولا يسود الموت عليه بعد. هكذا كل مَنْ اعتمد للمسيح لا تتكرَّر معموديته قط، لأنها ليست تكراراً لمعمودية المسيح على الصليب بل هي في الحقيقة اصطباغ حقيقي في ذات صبغة المعمودية الواحدة التي أجراها المسيح مرَّة واحدة بالموت الذي ماته على الصليب كذبيحة فريدة في نوعها عن كل إنسان.
لذلك، فكل إنسان يعتمد للمسيح في الكنيسة يعلن اشتراكه في موت المسيح مرَّة واحدة كفعل إلهي ينتهي بالقيامة، وبتعبير بولس الرسول يلبس المسيح ميتاً ومُقاماً:
«نحن الذين اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح» (راجع: غل 3: 27)، فكيف نخلعه؟ أو هل يستطيع الذي قام مع المسيح أن يموت؟ فكما أن الموت لا يسود على المسيح كذلك أعضاؤه، إن كانوا حقًّا فيه. فالمسيح أعطى موته وقيامته للكنيسة ليخلق لنفسه بواسطتها أعضاءً جديدة لجسده، ويبقى هو دائماً رأس الكنيسة، والمعمَّدون جسده، أخصَّاءه:
«من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 30)، «وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً.» (1كو 12: 27)
وعلينا أن ننتبه دائماً أن المسيح مات على الصليب وقَبِلَ الصبغة – أي المعمودية بالدم – في جسده الذي هو نحن، ليخلق في نفسه الإنسان الجديد الذي كانت تتمنَّاه البشرية ولكن لا تعرف كيف يكون.
فالمسيح مات وأكمل الخلاص والفداء دون وعي من جهة الإنسان، كما يقول القدَّاس الغريغوري: [من أجل الضالين وغير العارفين]، أو كما يقول بولس الرسول: «لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8)، أي ونحن مرفوضون تماماً ورافضون تماماً لنعمة الخلاص – لا ندريها ولا نريدها ودون شعور منا بها – وهبها لنا المسيح مجَّاناً؛ حتى إذا أدركناها فيما بعد وأردناها بحريَّة إرادتنا، نمتلئ فرحاً ونعيماً وسروراً ونشعر حينئذ بعظم الاحتياج بل وباستحالة الحياة بدونها، وذلك كله حينما نقبله ربًّا ومسيحاً بإرشاد الروح وجَذْب الآب:
«لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو 16: 12 و13). كما يقول الكتاب: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1كو 12: 3).
وكذلك أيضاً يقول: «لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبه الآب» (يو 6: 44)، أي لا يستطيع أحد أن يُقبِل إلى المعمودية من ذاته أو بمشيئته، أو يأتي إلى عضوية جسد المسيح بقناعة منطقية أو بذكاء أو فهم بشري أو بإحساس الحاجة الطبيعية إليها، بل هي مشيئة الآب التي تجذب بالروح المختارين إلى المسيح لنوال التبني!!
فالله هو الذي يدعونا بروحه بنخس الضمير ليتبنانا لنفسه في شخص ابنه يسوع حسب مسرَّة مشيئته: «لأنه هو أحبنا أولاً.» (1يو 4: 19)!!
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الميلاد الجديد بالمعمودية، هو علاقة شخصية بالله تبدأ من الله وتنتهي به، فهي علاقة مسرَّة ذاتية، علاقة حب وتبني: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (مت 3: 17)، هذا هو صوت الآب لكل مَنْ أقبل إلى الله بالمسيح ليعتمد لموته!!
كما سبق المسيح وأعلن عن عمله السرِّي في هذه العلاقة التي أنشأها لنا مع الآب، فهو المسافة الروحية التي تصلنا أو تفصلنا عن الله، التي أوضحها عندما قال بإيجاز شديد: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية» (رؤ 1: 8)
وأيضاً: «أنا هو الباب» (يو 10: 9)، وأيضاً: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6)، «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو 14: 6). لذلك يكمِّل لنا المسيح في المعمودية ما أكمله من أجلنا على الصليب. فكما بدأ المسيح الخلاص بالموت وأكمله بالدفن ثم القيامة، في نفسه، هكذا في المعمودية يعطينا المسيح ذاته، يعطينا موته وقيامته، البداية والنهاية!
وفي الإفخارستيا يصير جسده ودمه هو الطريق الحي الجديد الذي ندخل به إلى الأقداس العليا.
ولكن تظل البداية والنهاية لنا تحتاج كل يوم إلى تكميل، فالموت بالنسبة لنا عمل دائم:
«من أجلك نُمات كل النهار» (رو 8: 36)، والقيامة تحتاج إلى النظر دائماً إلى فوق، لأن العضو لا يدخل في جسد المسيح أي الكنيسة كاملاً في شيء، بل والكنيسة كلها معاً لا تزال تنمو في الإيمان وتكمل في قامة المسيح؛ على أنها لا تبلغ حد الكمال طالما هي على الأرض بل تنمو كل يوم وينمو أعضاؤها، في كل مواهب الخلاص واستحقاقاته وإدراك أسراره:
«صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح» (أف 4: 15).
وكما يقول ويكرِّر بولس الرسول أن الأعضاء ليست متساوية في الدعوة أو في الوظيفة أو في المواهب أو في الجمال أو في الكمال، ولكن الكامل عليه دائماً أن يُكمِّل الناقص، والناقص عليه دائماً أن يأخذ من الكامل ما هو أفضل، حتى نمتلئ جميعنا إلى كل ملء الله!!
ومن خصائص جسد المسيح أن ليس فيه افتخار لعضو على عضو حتى لا يكون انشقاق بين الأعضاء إن كانوا حقًّا في المسيح، وإن كانوا اعتمدوا لموته فعلاً واستقوا من روحه القدوس.
أما عمل الكنيسة الآن فهو تكميل عمل المعمودية الأُولى: «لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف 4: 12 و13).
والكنيسة عملها الوحيد أن تعرِّف كل إنسان بِغِنَى ميراثه الذي ناله بالتبني، بقبوله المعمودية باسم يسوع المسيح:
«مستنيرة عيون أذهانكم (فعل المعمودية الأول) لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غِنَى مجد ميراثه في القديسين.» (أف 1: 18)
Discussion about this post