عيد الغطاس والأحد الأول
خلق جديد وحضور متجسد
إنجيل القديس يوحنا 1/29-74
كان أول ظهورعلني ليسوع يوم اعتمد على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن. لقد ملأ الروح القدس بشريته واستقرعليه بشبه حمامة، وأعلن الآب من السماء، بالصوت، بنوته الإلهية والرضى عن رسالته ( متى3/13-17؛ مر1/9-11؛ لو3/21-22). وشهد له يوحنا: “هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم…ويعمّد بالروح القدس… إنه ابن الله”.
أولاً، الغطاس ومضامينه
1- الغطاس تدشين لرسالة الفداء ومسيرة شعب تائب
باعتماد يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا، بدأت حياته العلنية. يحسب نفسه بين الخطأة، ويسير معهم نحو يوحنا لقبول ” معمودية الماء للتوبة” (لو3/11)، لا كشريك للخطأة في معاصيهم، بل كحامل خطاياهم ومتشفع من أجلهم بوصفه عبد الله المتألم، كما تنبأ اشعيا قبل 700 سنة: “هوذا عبدي…كحمل سيق إلى الذبح ولم يفتح فاه… أسلم نفسه للموت، واُحصي مع الخطأة، وحمل خطايا الكثيرين، وشفع في معاصيهم” ( اشعيا53/7و12). في غداة اعتماده جاءت شهادة يوحنا تحقق النبؤة: ” هذا هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم”. لقد انتهى معه الفصح القديم الذي كانت تٌقرَّب فيه ذبيحة حمل من البهائم كفارة عن الخطايا وفداءً ( خروج12/1-14)، ليبدأ فصح العهد الجديد، يسوع ابن الله فادي الإنسان.
استبق يسوع ” معمودية” موته على الصليب ( مر10/38)، خاضعاً كلياً لإرادة أبيه، راضيا، عن حب، بمعمودية الموت لمغفرة الخطايا ( انظر متى26/39). لفظة ” غطاس” تعني النزول في الماء والخروج منه، استباقا للنزول إلى قبر الموت والقيامة، كمقدمة للخلق الجديد. هذا ” الغطاس” سيتواصل في معموديتنا، وهو رمز المشاركة في موت المسيح وقيامته، من أجل الولادة الثانية لحياة جديدة، على ما قال يسوع لنيقوديمس: “ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله، إلا إذا وُلد ثانية من الماء والروح”(يو3/5).
ولفظة ” دِنْح”، من الأصل السرياني، تعني ظهور سرّ المسيح والثالوث القدوس. فبسبب قبوله رسالة الفداء، كان جواب الآب المعلن براءة يسوع وبنوته الإلهية والرضى عن رسالته الخلاصية: ” هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت” ( متى3/17)، واعتلن عمل الروح القدس الذي عضد بشرية ابن الله في إنجاز رسالة الفداء، ” بالاستقرار عليه” (يو1/32-33). فتحققت نبؤة اشعيا: ” هوذا فتاي الذي أعضده، مختاري الذي رضيت عنه نفسي، قد جعلت روحي عليه، فهو يبدي الحق للأمم” (اشعيا42/1). وانفتحت السماوات، التي كانت قد أغلقتها خطيئة آدم، لتعلن تقديس الجنس البشري بمعمودية الماء والروح (انظر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،536-537).
غطاس ودنح، معمودية وظهور، الاثنان متواصلان فينا. بالمعمودية نولد الولادة الثانية أبناء لله بالابن الوحيد، ونندمج في سرّ الكنيسة أعضاء حية في جسد المسيح، ونستعيد بهاء صورة الله والشبه الغلهي (التعليم المسيحي،719-720). أما الظهور ففي الاسم الذي يُعطى للمعمّد، الاسم المسيحي واسمه الخاص، يعطى له اسماً جديداً ابدياً مكتوباً على جبينه مع اسم الحمل وأبيه (رؤيا 2/17؛14/1)،وفي أعماقه صوت يقول: ” لا تخف، فأني قد افتديتك ودعوتك باسمك، إنك لي” (اشعيا43/1). ويُدل على هذا الظهور بالزياح العلني.
معمودية يسوع هي مسيرة شعب تائب يلتقيه الله، كما روى لوقا في إنجيله: ” كان لما اعتمد الشعب كله اعتمد يسوع ايضا، وكان يصلي، فانفتحت السماء ونزل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة، وأتى صوت من السماء يقول: ” أنت ابني الحبيب عنك رضيت” (لو3/21-22). هذا يجري في معموديتنا أسرارياً.
يشرح بولس الرسول أبعاد مسيرة يسوع نحو معمودية التوبة متضامناً مع الشعب الخاطىء: ” جعله الله خطيئة من أجلنا، هو الذي لم يعرف الخطيئة، لكي نصبح به برَّ الله” ( 2كور5/21). في الواقع، تجسّد ابن الله آخذاً ضعف طبيعتنا الساقطة والسائرة نحو الموت بسبب خطيئة آدم وخطايا جميع الناس ( انظر روم 8/13)، وظهر بصورة عبد، “الخادم المتألم” وأطاع إرادة الآب الخلاصية موتاً على الصليب ( انظر فيليبي2/7-8)، فداء عن الجنس البشري وخلاصاً له، على ما يقول بطرس الرسول: ” لم تفتدوا بالفاني من الفضة أو الذهب من سيرتكم الباطلة، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح” ( 1بطرس1/18-19).
إن استمرارية ذبيحة يسوع على الصليب، في القداس الإلهي، هي استمرارية مسيرة الكنيسة نحو التوبة، عبر أسرار الخلاص ولاسيما المعمودية والتوبة ومسحة المرضى، المعروفة بأسرار الشفاء. تتجلى هذه المسيرة الجماعية نحو التوبة من خلال أفراد يتوبون إلى الله ونساك ورهبان وراهبات ومؤمنين في العالم يلتزمون بروح الزهد والإماتة والتقشف والصوم وأعمال الرحمة والمحبة، ومن خلال جماعات ومنظمات وحركات تصلي وتخدم المحبة وتقوم بمسيرات توبة وتجدد. وتتجلى مسيرة التوبة في آلام الأبرياء من مرضى ومعاقين وفقراء ومستضعفين وسائر ضحايا الظلم والاضطهاد والتسلط والتمييز العنصري.
إن ما يخيّم حالياً على العالم من حروب وكوارث وأحقاد وعداوات ونزاعات، لا يمكن أن يحلّ بالعنف والإرهاب، بل يقتضي مبادرات توبة وغفران. من الضرورة اليوم ان يتداعى المؤمنون إلى مثل هذه المبادرات. ” فمثل هذه الأرواح الشريرة السائدة لا تُطرد إلا بالصوم والصلاة” (مر9/29). ولا بدّ من تنظيم ساعات سجود أمام القربان في الرعايا، وتلاوة وردية العذراء لهذه الغاية.
كان نداء يوحنا المعمدان في بريّة اليهودية: ” توبوا فقد اقترب ملكوت السماء… اثمروا ثمراً يليق بالتوبة… كل شجرة لا تثمر ثمراً صالحاً تُقطع وترمى في النار” ( متى3/2 و8 و10). وما زال يتواصل النداء عينه في برّية المجتمع، في برّية العقول والضمائر والقلوب. النداء إياه وجّهه الرب يسوع: “لقد تم الزمان، وملكوت الله اقترب. توبوا وآمنوا بالإنجيل” ( مر1/15). وعندما ” أرسل تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة ليطردوها، وعلى الأوجاع والأمراض ليشفوا منها” ( متى10/1)، فانطلقوا يعظون داعين إلى التوبة، وكانوا يطردون الكثير من الأرواح النجسة، ويمسحون بالزيت الكثير من المرضى ويشفونهم ( مر6/12-13). وهكذا كان يتحقق ” الخلق الجديد” في البشرية، بواسطة ” التوبة والإيمان بالإنجيل” (مر1/15)، ويحلّ السلام في القلوب والعائلات والمجتمعات.
تنمو ” الخليقة الجديدة” المولودة من المعمودية، متقدسة بالروح القدس والميرون، ومتجددة بالتوبة، وتغتذي من الأفخارستيا حيث ” الحمل” يعدّ للكنيسة عروسته ولجماعة المؤمنين، وليمة عرسه الخلاصي على الأرض وفي ملكوت السماء، وقد افتداها وأحبها وأسلم نفسه من أجلها (افسس5-25-26).
2- يسوع ابن الله
هذا اللقب يعني في شهادة يوحنا المعمدان ما كان يعنيه في العهد القديم، أي البنوة بالتبني التي تقيم بين الله وخليقته علاقات مودة وحياة حميمة خاصة. فلا يتعدى اللقب بشرية الإنسان. وقد كان يطلق علىالملوك مثل سليمان: ” يا داود أقيم من يخلفك من نسلك، وأنا أثبّت أبناء للرب إلهكم…لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً من بين جميع الشعوب التي على وجه الأرض” (تثنية14/1-2)؛ وعلى الشعب المختار: ” اسرائيل هو ابني البكر. قلت لك: اطلق ابني ليعبدني، وإن أبيت أن تطلقه فهاءانذا قاتل ابنك البكر” (خروج4/22-23)، وعلى ملائكة الله الذين يشكلون بلاطه الملوكي: ” واتفق يوماً ان دخل بنو الله ليمثلوا أمام الرب” (ايوب1/6).
بهذا المعنى نحن أصبحنا بالمعمودية “ابناء الله”، حسب لاهوت القديس بولس الرسول. الروح القدس الحال فينا يجعلنا خاصة الله: ” من لم يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصته” (روم8-9)، وأبناء الله: ” إن الذين ينقادون لروح الله يكونون ابنا الله” ( روم8/14-16)، وورثة الله شركاء المسيح في الميراث: ” إذا شاركناه في الآمه، نشاركه في مجده أيضاً” (روم8/17).
بنوتنا لله تأتينا من ابن الله المتأنس: ” أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني” ( غلاطية4/4-5). هذا ما تفعله فينا المعمودية.
لكن شهادة يوحنا تضيف على مفهوم العهد القديم وجهاً الهياً يسمو الحدود البشرية: ” يأتي بعدي رجل قد تقدمني، لأنه كان قبلي”. لم يكن قبله من ناحية التاريخ البشري، بل من ناحية الوجود الإلهي، وشهادته تستند إلى إعلان الصوت من السماء: ” أنت ابني الحبيب”. وعندما يعترف سمعان-بطرس إن يسوع ” هو المسيح ابن الله الحي”، فإنه بفضل الوحي الإلهي يعلن كل ألوهيته (متى16/16-17).والسيد المسيح يسمي نفسه “الابن” بمفهوم البنوة الإلهية الكاملة: هو الابن الذي يعرف الآب (متى11/27)، ويفوق كل الخدام الذين أرسلهم الله قبله (متى21/33-39). ويميز بين بنوته وبنوة التلاميذ: ” إني صاعد إلى أبي وأبيكم” ( يو20/17)، فلم يستعمل قط صيغة أبانا لتشمله معهم بل إياهم وحدهم: ” كونوا انتم كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل هو” ( متى5/48)، ” لأن أباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل أن تسألوه” (متى 6/8)، ” صلوا أنتم هذه الصلاة: أبانا الذي في السموات…” ( متى6/9). عندما يعنيه الامر يقول ” أبي”: ليس من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات” ( متى7/21).
من الناحية الخلقية تقتضي بنوتنا لله الطاعة له، والاتكال على عنايته الوالدية، والبحث عن إرادته والسماع لنداءاته، والقيام بالرسالة التي أوكلها الينا، والمحافظة على الشبه الإلهي فينا. أما قوتنا فنستمدها من لابن الوحيد، الابن بامتياز.
من الناحية النهيوية الاسكاتولوجية نعلم أننا نعود الى الله خالقنا ومخلصنا ومقدسنا.الكنيسة المنظورة ترمز إلى البيت الأبوي الذي يسير نحوه شعب الله. إنها بيت جميع ابناء الله، المفتوح على مصراعيه ليستقبل الجميع. في هذا البيت نعيش بنوتنا لله بكل أبعادها ومقتضياتها، وفي طقوسنا نستبق ليتورجيا السماء، كما يرويها يوحنا الرسول في كتاب الرؤيا (الفصل 19).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
بمعموديته في نهر الأردن وباعتلان سرّه، وسرّ الثالوث القدوس، وسرّ والإنسان ” الخليقة الجديدة”، بدأ يسوع حياته العامة، وهي المرحلة الثانية من حياته بعد تجسده وطفولته. نحن أيضاً، إذ نتذكّر معموديتنا وما جرى فينا، نبدأ حضوراً جديداً مع المجمع البطريركي الماروني فهو يذكرّنا بالماضي هوية، ودعوة ورسالة؛ ويجدّدنا في الحاضر أشخاصاً وهيكليات؛ ويطلقنا لحضور في العالم من أجل مستقبل أقضل.
الخطة الراعوية تبدأ من إعطاء زمن الغطاس مفهومه الروحي في حياتنا الشخصية والجماعية: في الرعية، في العائلة، في الجماعة الرهبانية، في المنظمة الرسولية، في المؤسسة الثقافية والاجتماعية الرياضية.
أ- نتساءل حول كيفية عيش هويتنا المسيحية: ” خليقة جديدة بالمسيح” ، في ضوء ثمار الروح التي يتكلم عنها بولس الرسول: المحبة والفرح والسلام وطول الأناة وروح الخدمة والجودة واللطف والثقة بالآخرين والسيطرة على الذات (غلا 5/22-23).
ب- بما أن هويتنا المسيحية تتميز بطابع الهوية المارونية الخلقيدونية القائمة على سر التجسد، وهي أن في المسيح طبيعتين كاملتين، الهية وانسانية، فيوصي المجمع البطريركي الماروني بالعيش بموجب هويتنا المسيحية الأنطاكية حسب الصيغة الخلقيدونية (451). ما يعني ان نعمل مع شركائنا في المواطنية والمصير من أجل ترقي الإنسان، كل إنسان، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ووطنياً، لكي يستعيد، بيسوع المسيح، كرامته وصورة الله فيه. هذه الهوية تترجم “بالحضور المتجسّد” بحيث نطبع شؤوننا الزمنية بقيم الإنجيل، ونجعل من كل إنسان محوراً لهذه الشؤون (النص المجمعي رقم2: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها، عدد17 و38).
تتشاور المجالس الراعوية واللجان والجماعات الرعوية والديرية والمنظمات الرسولية والعائلات، بشأن تحديد مجالات الحضور المتجسّد وما تقتضي من مبادرات فردية وجماعية، يلتزم بها الجميع.
ج- نعزز المعنى الروحي لتبريك المياه في عيد الغطاس، رمزاً لينبوع الحياة الجديدة من المعمودية، والاغتسال من أدناس الخطيئة، والحماية الإلهية من الأرواح الشريرة، والتماس النعمة الإلهية التي تقدسنا وتحمينا من كل شر في النفس والجسد.
**
صلاة
نشكرك أيها الآب القدوس، لأنك كشفت لنا وجهك بالابن الوحيد يسوع المسيح وبه خلصتنا، فصرنا لك أبناء بالمعمودية، وأفضت علينا بواسطته روحك القدوس الذي جعلنا بالميرون هياكل له.
أعطنا أيها النور الحقيقي، يسوع المسيح، أن نسير كابناء النور في الحقيقة والنعمة والمحبة.
نسألك ايها الروح الحي والمحيي، إن تجدد فينا الإنسان الجديد المجمّل بثمار الروح، فنلبس المسيح نحن الذين اعتمدنا بالمسيح، لمجد الله وبهاء صورته فينا وفي المجتمع البشري. آمين
Discussion about this post