الطوباويّون المسابكيّون بين حرير الأرض ونعيم السماء
حَدِقَ واحد من الإخوة الطوباويين المسابكيين الثلاثة فن تجارة الحرير. فجلبت له ثروة هائلة في عصر دمشقيّ ذهبيّ شهد فيه اليومان التاسع والعاشر من تموز 1860 إنقلاب الإنسان على الإنسان مما حذا بالأمير المغفور له عبد القادر الجزائري أن يقف وقفة انسانية تاريخية في وجه كل من كان بنيته العمل ضد التعاليم السماوية التي تحرّم القتل والتهجير. أعطى هذا الامير أمثولة لا تُمحى من سجل دمشق أول مدينة في التاريخ، عاصمة سوريا، مهد المسيحية.
عرفت هذه المدينة ما عرفته من أمجاد تشهد لوقائعها حقبات التاريخ. ومع هؤلاء الإخوة، عرفت وجهاً روحيا مميزاً ونمط عيش جديد دفع بالكنيسة أن ترفعهم على مذابحها. هؤلاء هم الطوباويون المسابكيون بين حرير الارض ونعيم السماء.
إنهم شخصٌ واحدٌ بالإيمان والروح والفكر. أكبرهم الطوباوي فرنسيس الذي أتقن فن تجارة الحرير فاكسبه ثروة وشهرة، ربى أولاده الثمانية التربية المسيحية الصادقة، كان أميناً ومخلصاً عملاً بقول ربه: “من كان أميناً على القليل أقيمه على الكثير…” (متى 25: 21)، وسخياً يحب الفقراء. ألم يقل الرّب: “من سقى كأس ماء لإخوتي هؤلاء …….”(متى 10 : 42). عاش حياته تقياً، يخاف الله، ويكرّم العذراء.
أما عبد المعطي، التقي الورع الذي قيل عنه أنه في مساء يوم خميس الأسرار كان يجثو على ركبتيه الى صباح الجمعة العظيمة، وقيل أيضاً أنه كان يردد على مسامع تلاميذه في مدرسة دير الرهبان الفرنسيسكان أن على كل مسيحيّ أن يكون مستعداً، مُحضِّراً نفسه للشهادة. ولا شك أنه كان يذكر هذا كله على مسامع أولاده الخمسة يوم كان يرفع الصلاة يومياً معهم بروح التقوى والإيمان. ومما ينبغي الإشارة إليه أن شقيقه فرنسيس فتح له “محلاً صغيراً” ما لبث أن أُقفل لتسامحه مع زبائنه لكثرة ما كان يتساهل معهم في الوزن والسعر حفاظاً منه على سلامة ضميره.
أما الأخ الأصغر روفائيل الذي لم يتزوج، لازم الكنيسة وشارك شقيقيه وعائلتهما الصلاة كل مساء.
جاهر هؤلاء الإخوة بإيمانهم فكان نصيبهم الشهادة معاً في يوم واحد مؤمنين بقول ربّهم: “لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، بل خافوا الذي يُمكنه أن يهلك النفس والجسد في جهنم” (متى 10 : 28). فرشوا طريق حياتهم حريراً أبيض اللون علامة السلام. ترجموه رحمةً بالفقراء، ومحبة للأعداء، وحياة صلاة وإيمان بالرّب يسوع القائم من الموت. أعطوا شهادة صادقة لقلب المسيح والمسيحية، ولكنيسة دمشق المثل الصالح، والذكر الطيب، ولفقرائها المساعدات والهبات، ولأغنيائها وهم أولهم أطيب العلاقات الصادقة التي تُبنى من خلالها المجتمعات الصالحة، الغنية بالروحانية المسيحية، والفكر النيّر، والقلب الصافي. إنهم مع غيرهم من الإخوة الطوباويين في الرهبنة الفرنسيسكانية، شهداء الإيمان بالمسيح. إنهم شخصٌ واحدٌ في إخوة ثلاث يتمتعون معاً بين حرير الأرض ونعيم السماء.
كرّمتهم الكنيسة لأنهم لم يُنكروا إيمانهم بالمسيح معتبرين أن خيرات الدنيا التي بين أيديهم لا توازي لحظة من المجد الذي سيتجلى فيهم في يوم الرّب. اعتبروا غناهم كما اعتبره بولس الرسول كاللاشيء، ليربحوا المسيح، وقد ربحوه.
آمن هؤلاء الإخوة أن ما يملكونه على الأرض لا يوازي ثمن حرف واحد من الإنجيل الذي آمنوا به. حَملوا ثِقلَ الأيام الأخيرة الصعبة من حياتهم بإيمان وفرح ورجاء، وأسقطوا من أذهانهم هول الشهادة، وتحمّلوا مسؤولية كلمتهم وموقفهم دون أن يُحمّلوا ضميرهم بشيء. وهذا كله ما كان يُسعدهم، لا لأنهم أعطوا للمجد الدنيوي مساحة محدودة، وللمجد الباقي الحدود المفتوحة على الزمن والأبدية، بل لأنهم أحبوا الآخرين والفقراء عن كامل المعرفة والحكمة، وآمنوا أن الرّب المُخلص هو وحده دون سواه يسوع المسيح، فصحّ فيهم قولنا: “إنهم بين حرير الأرض ونعيم السماء“.
يبقى الإستشهاد من أفعال الكمال الأسمى، لأن المستشهد يمارس كل الفضائل وأهمها الإيمان والصبر والرجاء والمحبة. وقد أثار القديس بولس هذا كله يوم تحدّث عن “رباط الكمال” أي ربط الفضائل في وحدة كاملة. هذا ما نستطيع أن نصف به الطوباويين الإخوة المسابكيين الذين آمنوا بأقوال الرّب، وعملوا بها فاظهروا منذ نعومة أظافرهم شفقة على الفقراء، وكانوا تواقين عطشاً إلى الشهادة، إذ كان كل واحد منهم يحّث أخيه على وجوب تقديم ذاته شهيداً يوم تأتي الساعة. وخلاصة الكلام، كان إيمانهم بالرّب يسوع المسيح السبب المباشر لاستشهادهم، فطوبتهم كنيسة الرّب في روما مع رهبان فرنسيسكان في صلاة خاشعة تحت عنوان “شهداء دمشق” في العاشر من تشرين الاول 1926.
وقد ركّز الرّب يسوع على ضرورة الإيمان من أجل الخلاص، مؤكدا أن من يملك إيماناً كحبة الخردل يقول لهذا الجبل إنتقل فينتقل (متى 17 : 20). وهو الذي، قبل قيامه بأية إعجوبة كان يقول: “إيمانك خلصك” (لوقا 17 : 19). وقد وصلتنا كلمته أن من آمن به وإن مات فسيحيا (يو 11 : 25). وها بولس الرسول في حديثه عن الشريعة يقول بما معناه أن أعمالها تأتي لاحقاً، بعد أن يكون الإنسان قد آمن بالمسيح واختبره وعايشه فتكون أعماله أعمالا مسيحية كما هو واقع الإخوة المسابكيين. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الأعمال المسيحية لا يمكن لها أن تكون صادرة إلا عن إيمان راسخ بالمسيح المبرّر والمخلّص. فالعمل بموجب الشريعة ونصوصها يبقى ناقصاً من دون الإيمان بالمسيح الذي كمّلها. فالذين آمنو بالمسيح وعملوا الصالحات يكونون معه في الملكوت. فالإيمان بالمسيح وعيش تعاليمه يتوّجان حياة الإنسان المؤمن بالخلاص، ويجعلانه باراً ويوحِدانه في مجد الله. وها هم الطوباويون الإخوة المسابكيون ينطلقون من حرير الأرض إلى رحاب نعيم السماء بمجد ما بعده مجد.
إنهم العائلة المتماسكة في الإيمان والرجاء والمحبة. وقد عملت بموجب كلمة الله إذ يصح فيها قول القديس يعقوب في رسالته الثانية: “… أرني كيف يكون إيمانك من غير الأعمال وأنا أريك كيف يكون إيماني بأعمالي” (يع 2 / 18). فالله الذي برّر إبراهيم بالأعمال حين قدّم إبنه اسحق على المذبح، برّر الإخوة المسابكيين لان إيمانهم رافق أعمالهم فصار إيمانهم كاملاً بالأعمال، وأهمها الشهادة، قمة المحبة وفق قوله: “ما من حب أعظم من هذا وهو أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه” (يو 15 :13).
وبعد، طوّبَ الإخوة المسابكيين الثلاثة، فخبا حرير الأرض وطُمر في مدافن الأموات الواسعة وتربّعوا طوباويين على مذابح الهياكل المقدّسة وبخورها، ومجّدهم الله في ملكوته، كما مجّد اسطفانس أول شهيد في الكنيسة، وبولس الشاهد بالإيمان على موت المسيح وقيامته، وبطرس وباقي القديسين، خاصة في كنيستنا المارونية التي أعطت قدّيسين أمثال شربل ورفقا ونعمة الله الحرديني ويعقوب الكبوشي والطوباوي الجديد الأخ اسطفان نعمه وغيرهم من اللذين استشهدوا في جبل لبنان خاصة في اليوم الذي فيه استشهد الإخوة الطوباويون المسابكيون. ولا يسعنا أن نذكر ما حلَّ بكنيسة العراق وما قدمته من شهداء. هؤلاء، هم جميعاً هكذا بين حرير الأرض ونعيم السماء.
ونحن اليوم في أبرشية دمشق المارونية، المُحبة للمسيح، الشاهدة الأولى لما حدث على أرضها، نضرع خاشعين بعد مرور مئة وخمسين عاماً على وفاتهم طالبين شفاعتهم كي يَمُنَّ الرّب الإله علينا بأمثالهم فنعيش كما عاشوا بين حرير الأرض ونعيم السماء. آمين.
المونسنيور ميشال فريفر
Discussion about this post