تذكار الموتى المؤمنين
(لوقا 16: 19-31)
نذكر في هذا الأحد وطيلة الأسبوع موتانا المؤمنين الذين، حسب تعليم الكنيسة، يتعذَّبون في آلام المطهر قبل أن يتمكّنوا من مشاهدة وجه الله في مجد السماء. يتألّمون بسبب خطاياهم ولو أنهم عاشوا في نعمة الله وماتوا محافظين على وديعة الإيمان. هؤلاء يُشكِّلون الكنيسة المتألِّمة بالنسبة إلى المؤمنين العائشين على وجه الارض وهمالكنيسة المجاهِدة من أجل بناء ملكوت الله، وبالنسبة إلى القديسين والأبرار في السماء الذين يؤلِّفون الكنيسة المُمجَّدة. إنَّ ما يُخفِّف من آلامنا المطهرية ويُوصلنا إلى الخلاص الأبدي ومُشاهدة وجه الله إنّما هي المحبة تجاه الفقير والمحتاج، كما يُعلِّمنا مثل الغني ولعازر الفقير.
أولاً، شرح نص الإنجيل
من إنجيل القديس لوقا 16: 19-31
قَالَ الرَّبُّ يِسُوع: «مَنْ تُرَاهُ ٱلوَكِيلُ ٱلأَمِينُ ٱلحَكِيمُ الَّذي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُم حِصَّتَهُم مِنَ الطَّعَامِ في حِينِهَا؟ طُوبَى لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي، مَتَى جَاءَ سَيِّدُهُ، يَجِدُهُ فَاعِلاً هكذَا! حَقًّا أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَنَياتِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ ذلِكَ العَبْدُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي في مَجِيئِهِ، وَبَدأَ يَضْرِبُ الغِلْمَانَ وَالجَوَارِي، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَر، يَجِيءُ سَيِّدُ ذلِكَ العَبْدِ في يَوْمٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وَفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُها، فَيَفْصِلُهُ، وَيَجْعلُ نَصِيبَهُ مَعَ الكَافِرين. فَذلِكَ العَبْدُ الَّذي عَرَفَ مَشِيئَةَ سَيِّدِهِ، وَمَا أَعَدَّ شَيْئًا، وَلا عَمِلَ بِمَشيئَةِ سَيِّدِهِ، يُضْرَبُ ضَرْبًا كَثِيرًا. أَمَّا العَبْدُ الَّذي مَا عَرَفَ مَشِيئَةَ سَيِّدِهِ، وَعَمِلَ مَا يَسْتَوجِبُ الضَّرْب، فَيُضْرَبُ ضَرْبًا قَلِيلاً. وَمَنْ أُعْطِيَ كَثيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ الكَثِير، وَمَنِ ٱئْتُمِنَ عَلَى الكَثِيرِ يُطالَبُ بِأَكْثَر.
1- تعليم المسيح
ضمَّن الرب يسوع هذا المثل العديد من نقاط العقيدة والتعليم:
أ- حقيقة الخلاص والهلاك الأبديين: لعازر ينعم بالخلاص الأبدي بصورة “حضن إبراهيم” الذي يرمز إلى تحقيق الوعد بالخلاص والنعيم الأبدي. الصورة مأخوذة من سفر التكوين (18: 1-15) عندما استضاف إبراهيم بكرم وسخاء الرجال الثلاثة، الذين من خلالهم تراءى له الله ووعده بابنٍ في شيخوخته هو اسحق. وسبب الخلاص والهلاك أنَّ لعازر الفقير نال الخلاص لا لأنه فقير، بل لأنه قَبِلَ حالة الفقر من دون أن يثور وينحرف الى الشر؛ وكان يكتفي بالفتات المتساقط عن مائدة الغني. أمّا الغني فنال الهلاك الأبدي، لا لأنه غني، ولكن لأنَّ غناه أعمى قلبه وحجَّره وأفرغه من المحبة الاجتماعية. فإذا بالغنى، الذي هو عطية من الله لكي يعرفه أكثر ويحبّه أكثر ويتقاسم عطايا الله مع الفقير وسواه من المحتاجين، استعمله فقط لنفسه وسعادته والتنعّم في البذخ باللباس والمأكل والمشرب.
ب- حقيقة آلام جهنم، يعلِّمها الرب يسوع بالكلمات التي استعملها: “آلام اللهيب” الذي يكوي الغني، ويطلب “ترطيب لسانه بنقطة ماء، في مكان العذاب”. وهي آلام أبدية لا تنفعها الندامة ولا التشفُّع بعد حياة الدنيا، كما عبِّر عنها يسوع “بالوهدة السحيقة” التي تفصل بين السماء وجهنم من جهة، وبين الفضيلة والشر، بين النعمة والخطيئة من جهة ثانية.
ج- الوسيلة لنيل الخلاص وتجنّب الهلاك الأبدي هو كلام الله وتعليم الكنيسة المتمثِّل بكلمة الرب يسوع “عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم”. فإذا سمعوا وصدّقوهم آمنوا وساروا بموجب هذا الكلام والتعليم. وعندما اعتبر الغني انه اذا قام لعازر هذا من الموت وخبَّر إخوته عن حقيقة الخلاص والهلاك يصدِّقون، جزم يسوع: “اذا لم يسمعوا لموسى وللانبياء، حتى ولو قام احدٌ من الموتى يصدِّقونه”، لأنّه هو نفسه يسوع ابن الله، جاء من السماء وأخبرهم عن كل هذه الماورائيات فلم يُصدِّقوا، بل قتلوه صلباً.
د- حقيقة الدينونة بعد الموت. الدينونة تعني الثواب للأبرار والعقاب للأشرار. وهي حاصلة، إذا جاز التعبير، ساعة موت كل شخص. عبَّر عنها يسوع بالقول: “مات لعازر، فحملته الملائكة الى حضن إبراهيم، أي السماء… ومات الغني وقُبِر”. شرح القديس يوحنا فم الذهب كلمة “الغني مات وقُبر” أنَّ نفسه لم تنل رحمة الله، لأنه كان في حياته على الأرض مقبوراً في الجسد والتباهي باللباس الفاخر، وفي التنعُّم بالمأكل والمشرب. وعدم تسمية الغني باسم خاص يُعرَف به، إنّما يدلّ على أنه كان منسيّاً ومجهولاً من الله، لكونه عاش بعيداً عنه، ولم يشأ يوماً أن يفتح أذنه ليسمع صوته، أو قلبه ليقبل محبته، أو عينه ليرى نور وجهه في عطاياه له، وفي لعازر الفقير المنطرح على بابه. وكأنَّ هذا الواقع مأخوذ من المزمور 9 الآية 6: “عندما حكمتَ لي، يا رب وقضيتَ، جالساً على العرش ديّاناً عادلاً، وقمعتَ الأمم وأبَدْتَ الأشرار، محوتَ اسمهم مدى الدهور”.
2- علاقة نص الإنجيل بتذكار الموتى المؤمنين
تقرأ الكنيسة هذا النص في تذكار الموتى المؤمنين، لتدعونا إلى عيش المحبة الاجتماعية والرحمة تجاه كلِّ إنسان، لكي ننال الخلاص. فالمحبة والرحمة هما الطريق إلى الله وسعادة السماء. أما الجشع والطمع والأنانية فهم الطريق إلى الهلاك وآلام جهنّم.
وتذكِّر الكنيسة أيضاً بعدم الفصل بين الموت والحياة. لقد وُلدنا لنموت، والموت يعني باب العبور إلى الوجود الأبدي الذي لا ينتهي. يقول القديس أغوسطينوس أنَّ في الحياة طريقَين: “إمّا تنظلق من الله، فتنسى ذاتك، وتمتلئ من نعمه وحقائقه وقيمه، فتصل إليه؛ وإمّا تنطلق من ذاتك، فتنسى الله، وتفتقر منه، وتمتلئ من ذاتك، فتُضيِّع الله”. الغني سلك الطريق الثاني، ولعازر سلك الأول. لقد نبّهنا الله بلسان يشوع بن سيراخ: “في جميع أعمالك، أذكر أواخرك فلن تخطأ أبداً”(7: 36).
ابن الله نفسه صار إنساناً، ولد لكي يموت فداءً عن كل إنسان. وقام من الموت ليجعل الموت عبوراً إلى مجد السماء، لا إلى شقاء الجحيم، للذين يسلكون طريق المحبة والرحمة.
نولد ونموت من دون قرارٍ منّا. لكن نوعية حياتنا هي بقرار شخصي لكل واحد منّا بواسطة ثلاثة: العقل ليسلك في نور الحقيقة، والإرادة الحرّة لتختار ما هو حقٌ وخير وجمال، والقلب ليُحبَّ ويتحنّنَ ويرحم.
نحن لا نعرف مصير موتانا، لكنّ الكنيسة تُعلّمنا أن الذين حافظوا على الحقيقة والخير والمحبة، وماتوا في صداقة الله، وبما أنهم ارتكبوا الخطايا والشرور في حياتهم، ثمّ ندموا عليها ونالوا الغفران من الله على يد الكنيسة وخدمة الكهنوت، فإنّهم يمرّون في حالة آلامٍ تُنقّيهم وتطهّرهم وتؤهِّلهم للعبور إلى مجد السماء حيث القدوس والقديسون. هذه الحالة تُسمّى المطهر.
وتدعونا الكنيسة لنصلّي من أجل تخفيف آلامهم وراحتهم في السعادة الأبدية. الصلاة من أجل الموتى تقوم على ذكرهم في صلواتنا اليومية، وتقديم قداديس لراحة نفوسهم، والقيام بأعمال رحمة ومحبة من أجلهم ومن أجل راحة نفوسهم، وجعل آلامنا وأفراحنا وأعمالنا وحياتنا قرابين روحية نضمّها إلى قربان الرب يسوع من أجلهم. وبما أنَّنا نعيش مع موتانا في شركة القديسين، فإنهم بدورهم يتشفّعون من اجلنا عند الله، وينالون لنا نعمه وبركاته. وهذا اختبارٌ يعيشه الذين يحيون في شركة صلاة مع موتاهم.
* * *
ثانياً، تعليم الكنيسة الاجتماعي ومسؤولية الكنيسة والدولة
نجد مبدأَين أساسيَّين في تعليم الكنيسة الاجتماعي، الأول: “خيرات الدنيا مرتّبة من الله لجميع الناس”(المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، 69)؛ والثاني: “على الملكية الخاصّة يقع رهن إجتماعي”(المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، 71). نُدرك من هذا التعليم، المُضاف إليه مبدأ التضامن والترابط بين البشر، واجب المحبة الاجتماعية القائمة على تقاسم خيرات الأرض المادّية والثقافية والإنمائية والأخلاقية.
الكنيسة من جهتها مدعوّة لتستعمل ممتلكاتها، الحاملة صفة الوقف، أي أنها موقوفة لخدمة الرسالة ومساعدة الفقراء، لهتَين الغايتَين المتوازيتَين. الفقراء والمحتاجون هم في الأساس من حصّة الكنيسة، بل كنوزها، لأنَّ فيهم يتماهى وجه المسيح.
والسلطة السياسية مدعوّة لتستثمر طاقات الدولة وأملاكها والمال العام ومرافقها ومرافئها والضرائب والرسوم والاقتصاد الوطني في خدمة الخير العام، لكي يعيش المواطنون في بحبوحة وحياة كريمة. ومن أولى واجبات السلطة السياسية الاعتناء بالمواطنين الفقراء والمحتاجين، لأنه مبرِّر وجودها.
علَّم المكرَّم البابا بيوس الثاني عشر أن “مَن يملك خيرات، إنّما يمتلكها لأجل الجميع. وهذه حقيقة مسيحية مُلزِمة”(رسالة إذاعية في عيد العنصرة، سنة 1941). وعلَّم الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني من بعده أنَّ “نكران هذه الحقيقة وعدم الالتزام بمساعدة الفقراء إنّما هما تشبّه بالغني المُترف الذي تجاهل لعازر المسكين المنطرح عند باب بيته(الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 42). ونبّه القديس يوحنا فم الذهب جازماً إلى انَّ “الامتناع عن إشراك الفقراء في الخيرات العامّة وفي خيراتنا الخاصّة هو سرقة حقوقهم، واستلاب حياتهم. فالخيرات التي نحوزها ليست لنا، بل هي لهم”.
إنَّ مساعدة الفقراء والمحتاجين هي من باب العدالة أولاً، وبدافع من المحبة، لأننا نُعيد لهم ما هو في الأساس من حقّهم. هذه هي ثقافتنا الإنجيلية وتعليم كنيستنا(المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي في رسالة العلمانيين، 8).
لعازر اليوم، الذي هو على ضمير الكنيسة والسلطة السياسية، يتمثَّل في القافلة العديدة من الجائعين والمتسوّلين والذين لا ملجأ لهم، والذين تنقصهم العناية الطبيّة، والذين ينقصهم الرجاء، والمحرومين من حريّاتهم العامة والخاصة ومن حقّهم في الحياة العامّة وفي النشاط الاقتصادي، وسواها من الذين تتآكلهم الحاجات على أنواعها.
تدلُّ الإحصاءات في لبنان إلى أنَّ ثلث الشعب اللبناني تحت مقياس الفقر المُحدَّد بدخل دولارَين في اليوم للشخص. هذه مسؤولية جسيمة تقتضي تضافر جهود الجميع: الكنيسة والدولة والميسورين والقطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي. فليعمل كلٌّ من موقعه بوصية بولس الرسول: “أوصِ أغنياء هذا العالم ألا يتّكلوا على الغنى الذي لا اتّكال عليه، بل على الله الحي الذي وهبنا بكثرة كلَّ شيء لراحتنا، وأن يصنعوا الخير ويطلبوا الغنى بالأعمال الحسنة، فيعطوا ويشاركوا بسهولة”(1طيم 6: 17-18).
* * *
صلاة
أيها الرب يسوع، أرحْ في ملكوتك السماوي موتانا المؤمنين الذين شهدوا لك بعيشهم المحبة الاجتماعية تجاه الإخوة والأخوات في حاجاتهم المادّية والروحية والثقافية والاجتماعية. إفتحْ قلوبنا على الرحمة وروح التضامن والعطاء بسخاء، فإنَّ كلَّ عطية صالحة إنّما هي من جودة الله. أَلهمْ المسؤولين في الكنيسة والمجتمع والدولة على حسن استثمار خيرات الأرض من أجل توفير حياة أقتصادية واجتماعية لجميع الناس، فيتمكّنوا من تحقيق ذواتهم وتحفيز قدراتهم ومواهبهم، فيساهموا في بناء الحياة العامّة. ونرفع جميعاً المجد والتسبيح لله سيّد العطايا، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
Discussion about this post