تذكار الموتى المؤمنين
الشماس نوري إيشوع مندو
القراءات الطقسية:القراءة الأولى: حزقيال 37 / 1 _ 14 وكانت عليَّ يد الرب فأخرجني . . .
القراءة الثانية: 1 قورنتس 15 / 34 _ 57 إصحوا كما ينبغي ولا تخطأوا . . .
القراءة الثالثة: متى 25 / 31 _ 46 وإذا جاء ابن الإنسان في مجده . . .
الموتى المؤمنين: تذكرنا الكنيسة اليوم بملايين البشر الذين عاشوا قبلنا في هذا العالم، وانتقلوا منها بعد حياة قصيرة أو طويلة، مملوءة من المفاجآت والصعوبات والأفراح والأتراح. والصلوات الطقسية في هذا اليوم تدعونا إلى التأمل في معنى حياتنا وقيامتنا الأبدية.
إنها تتوقف على مدى عيشنا متطلبات إيماننا وعلى الخير الذي حققناه لغيرنا. وتذكرنا بمثال الذين سبقونا إلى الآب، والذين يبقون أحياء في قلوبنا وصلاتنا.
وتؤكد الصلوات الطقسية على اليوم الأخير والدينونة، وعلى ما قام به الإنسان في هذه الحياة من الأعمال الصالحة، والتي تؤدي به إلى الخلاص.
أما الأعمال الغير صالحة فتقوده إلى الهلاك. ولهذا يتكلم الرب يسوع عند مجيئه الثاني وهو الديان العادل، عندما تجتمع أمامه كل الشعوب. فيدعو مباركي أبيه إلى الملكوت المعد لهم منذ إنشاء العالم، أما الأشرار فيبعدهم عنه إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وأعوانه.
وقد استخدم الرب يسوع مثال الخراف والجداء ليبين الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين. فالخراف والجداء كثيراً ما ترعى معاً، ولكنها تعزل عن بعضها عندما يأتي موسم الجزاز.ويشير حزقيال النبي إلى الفصل بين الغنم والماعز (34: 17 _ 24 ).
وبعد أن توضح لنا هذا الرباط بين الخطيئة والموت، نستطيع أن نرى جانباً كاملاً من وجودنا على وجهه الحقيقي، فالخطيئة شر، لا لأنها تضاد فقط طبيعتنا، وتخالف الإرادة الإلهية. ولكنها بالأحرى تشكل بالنسبة لنا واقعياً طريقاً إلى الموت. وذلك هو تعليم الحكماء ” من يتبع الشر نحو الموت يمضي ” ( أمثال 11: 19 ).
” ومن يسير وراء الجهالة ” ( أمثال 7: 27 ). ” فمصيره إلى أودية الجحيم ” ( أمثال 9: 18 ) فالعقاب الأبدي يتم في الجحيم، فهو مكان القصاص بعد الموت لكل من يرفض التوبة. وهناك ثلاث كلمات في الكتاب المقدس تستخدم للتعبير عن الجحيم هي:
1_ ” شيئول “ كلمة عبرية معناها الهاوية، واستخدمت في العهد القديم للإشارة إلى القبر مكان الأموات. ويعتقد بصفة عامة أنها تحت الأرض.
2_ ” هادز “ وهي الكلمة اليونانية الدالة على العالم السفلي، وتقابل شيئول العبرية.
3_ ” جهنم “ وسميت كذلك نسبة إلى ” وادي هنوم ” بالقرب من أورشليم حيث كان الأطفال يحرقون بالنار قرباناً للآلهة الوثنية. وهو مكان النار الأبدية المعد لإبليس وملائكته، وكل من لا يؤمنون بالله.
وهذه هي الحالة الأبدية والنهائية للأشرار بعد القيامة والدينونة الأخيرة. وعندما يحذر الرب يسوع من عدم الإيمان، فهو إنما يسعى لإنقاذنا من هذا العذاب الرهيب.
ولا يهب الله النجاة من الموت دون تمييز. هناك شروط ومطالب دقيقة. فالخطيئة هي سبب موت الخاطئ، ولا يسر الله بموته، بل بأن يتوب عن طريقه ويحيا ( حزقيال 18: 33 ، 33: 11 ).
وإذا كان بالمرض يضع الله الإنسان في خطر الموت، فهذا لكي يقوّمه عندما يتوب عن خطيئته، ينتزعه الله من الحفرة الجهنمية ( أيوب 33: 19 _ 30 ).
من هنا تظهر أهمية الإنذارات النبوية التي تدعو الإنسان إلى التوبة، وتهدف إلى إنقاذ النفس من الموت ( حزقيال 3: 18 _ 21 ). فالله وحده ينقذ البشر من الموت، ولكن ليس بدون مساهمة الإنسان.
وإنجيل متى الذي يقرأ في تذكار الموتى المؤمنين، يصف لنا أعمال الرحمة التي يمكننا جميعاً القيام بها كل يوم.
وهذه الأعمال لا تتوقف على الثروة أو القدرة أو الذكاء، بل هي أعمال بسيطة تقدم مجاناً، وتؤخذ مجاناً. ولا عذر لنا في إهمال من هم في حاجة شديدة. وقد ثار جدل شديد حول من المقصودون بـ” إخوتي “. فيقول البعض إنها تشير إلى اليهود، ويقول آخرون إنها تشير إلى كل المسيحيين، ويقول غيرهم إنها تشير إلى المتألمين في كل مكان. وهذا الجدل شبيه بسؤال عالم الشريعة الذي سأل يسوع. من هو قريبي؟.
فليست النقطة المهمة في المثل هي من هم؟. بل ما حالهم؟. فمساعدة المحتاجين يتم حيثما وجد المحتاج. فالنقطة المركزية في هذا المثل هي أنه يجب علينا أن نحب جميع الناس، ونخدم كل إنسان حسبما نستطيع، فهذه المحبة للآخرين تمجد الله لأنها تعكس محبتنا له.
ومع موت يسوع وقيامته تغيرت المفاهيم عن الموت. فموت يسوع كان خصباً مثل موت حبة الحنطة الملقاة في الأرض (يوحنا 12: 24 _ 32 ). وإن بدا في الظاهر كعقاب للخطيئة، إلا أنه كان في الحقيقة ذبيحة تكفيرية ( عبرانيين 9 ).
ومنذ تلك اللحظة تغيرت علاقة البشر بالموت، فالمسيح المنتصر يضيء من الآن فصاعداً الشعب الجالس في ظلال الموت (لوقا 1: 79 ). فقد حررهم من شريعة الخطيئة والموت، هذه التي كانوا مستعبدين لها حتى ذلك الزمان ( رومة 8: 2 ). فبعد أن كان الموت مصيراً مقلقاً.
أضحى إذاً موضوع تطويب: طوبى للأموات الذين يموتون في رضا الرب ! فليستريحوا منذ اليوم الأول من المتاعب ( رؤيا 14: 13 ). إن موت الأبرار هو دخول في السلام ( حكمة 3: 13 ). في الراحة الأبدية وفي النور. ولهذا يرى المسيحي في الموت ربحاً ما دام المسيح حياته. إنه يرغب في أن ينطلق ليكون مع المسيح ( فيلبي 1: 21 _ 23 ).
ومن خلال تعاليم الكنيسة نعلم أن الصلاة من أجل راحة الموتى مفيدة من أجل خلاصهم. ففي كتاب تعليم الرسل ” ديدسكالية” . يأمر المسيحيين عن الرسل بالقول :” أما أنتم فبموجب الإنجيل فاجتمعوا في المقابر واقرأوا الكتب المقدسة وكملوا بلا تذمر خدمتكم وصلاتكم لله، قدموا الأفخارستيا اللذيذة في اجتماعاتكم ومقابركم.
صلوا وقدموا الذبيحة بدون تردد البتة من أجل الراقدين. فلنصلِ من أجل أخوتنا الذين رقدوا بالمسيح حتى يغفر الرب الرحوم على البشر للنفس التي قبضها، وإذا تحنن الرب لصلواتنا يرأف بها ويسكنها ديار الأحياء “.
وفي مجموعة قوانين المجامع للقس غريغوريوس أبي الفرج ابن الطيب الكلداني المتوقى حوالي سنة 1040 نقرأ عن القداس لأجل الموتى ما نصه:
” وذكر الموتى على القانون القديم وقانون الرسل يكون في اليوم الثالث والتاسع “. وكانت هذه القوانين ذات نفوذ عظيم في الكنائس الشرقية.
والمجمع التريدنتيني أثبت بأن الموتى يستفيدون من الذبيحة الإلهية إذا كانوا في المطهر: ” وبما أنه في هذه الذبيحة الإلهية التي تكمل في القداس، يوجد المسيح ويذبح بنوع غير دموي، وهو نفسه الذي قدم ذاته على خشبة الصليب بنوع دموي مرة واحدة.
فلذلك يعلم المجمع المقدس بأن هذه الذبيحة هي تكفيرية. ومن ثم تقدم ليس فقط عن خطايا المؤمنين الأحياء، وعقوباتهم والتفكير عنها وباقي حاجاتهم، بل هي أيضاً من أجل الراقدين بالمسيح، الذين لم يتنقوا تماماً وذلك بموجب تقليد الرسل “.
وتعتقد بعض الكنائس أن نفوس الأموات الذين ماتوا في حالة النعمة، من دون أن يكفّروا عن جميع خطاياهم، تمر بحالة اطهار تسمَّى المطهر، ولقد وصلت تلك الكنائس إلى هذا الاعتقاد من عادة الصلاة من أجل الأموات.
إن الكنيسة الكاثوليكية تعتقد وتؤمن بوجود مكان ثالث غير السماء وجهنم، تتعذب فيه النفوس البارة بعد انفصالها من أجسادها وفاء عن العقوبات الزمنية التي تستوجبها عن الخطايا التي نالت عنها الغفران بتوبة صادقة، أو عن الخطايا العرضية التي لم تكفر عنها وهي في قيد الحياة.
وهذا المكان يدعى ” المطهر “ لأن فيه تتطهر وتتنقى النفوس من العقوبات الزمنية.
وتعتقد الكنيسة أن ما يقدمه المؤمنون الأحياء من القرابين والذبائح والصدقات والصلوات والأصوام والإماتات إسعافاً للأنفس المتعذبة في المطهر يفيدها حقاً، ويخفف من عذابها أو ينقذها منه بالكلية.
أما موضع المطهر وكيفية الوفاء ومدته ونوع العذابات وغير ذلك مما يتعلق بهذه القضية فليس من الإيمان. وسوف نستشهد عن حقيقة المطهر بمثال واحد من كل العهد القديم والعهد الجديد ومؤلفات آباء الكنيسة القديسين.
ففي العهد القديم نجد يهوذا المكابي كيف يجمع ألفي درهم من الفضة ويرسلها إلى أورشليم لتقدم بها ذبيحة عن خطايا الذين سقطوا في القتال: ” لأنه لو لم يكن يرجو قيامة الذين سقطوا، لكانت صلاته من أجل الموتى أمراً سخيفاً لا طائل تحته.
وإن عدَّ أن الذين رقدوا بالتقوى قد ادُّخر لهم ثواب جميل، كان في هذا فكر مقدس تقوي.
ولهذا قدم ذبيحة التكفير عن الأموات، ليحلوا من الخطيئة “. ( مكابيين الثاني 12: 44 _ 45 ). يعبر هذا النص عن الاعتقاد بأن الصلاة والذبيحة التكفيرية فعّاليتان لغفران خطايا الأموات. وهذا الاعتقاد هو مرحلة جديدة مهمة في التفكير اللاهوتي اليهودي.
وفي العهد الجديد يخاطب يسوع الفريسيين قائلاً: ” ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، أما من قال على الروح القدس، فلن يغفر له لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة “. ( متى 12: 32 ). نفهم من هذه الآية أن بعض الخطايا تغفر في العالم الآتي.
والحال ما من غفران في جهنم البتة. فيكون كلام المخلص عن الخطايا العرضية أو العقوبات الزمنية التي تغفر في المطهر. لأنه لو لم تكن بعض الخطايا أو عقوبات الخطايا تغفر بعد الموت في المطهر كما تعلم الكنيسة، لكان عبثاً قوله: ” لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة “.
فإذاً هذه الآية تثبت وجود المطهر كما أثبته القديسون أوغسطينوس غريغوريوس إيسيدوروس و غيرهم
ويقول مار أفرام النصيبيني في مقالته في القرابين والصدقات التي تقرب من أجل الموتى: ” إن الله كنز المراحم أعطى ورتب وكثر فرصاً وأسباباً ليمكن للميت أن يتبرر بواسطة الأحياء. قد أعطى لك أن تستطيع أن تخلص حبيبك بعد موته بصدقاتك وصلواتك.
قد سمح لك أن تكون تاجراً لعزيزك الميت المدفون وتريح حياته بأعمالك. إن البر يفتح باب الميت المدفون فيمكن أن يتبرر بالصدقات التي تصنع بعد موته. أطلقوا العبيد وحرروهم من أجل الأموات فيتبرروا.
إن الرب يفرح يا أخوتي عندما تذخرون الرجاء لأمواتكم والصدقات لمدفونيكم. كرموا الفقراء وادفنوهم، واريحو نفوس أمواتكم. فإن الحي يستطيع أن يبرر الميت. إن من يدفن الفقراء والمعوزين ينيح محي الكل نفس ميته. فأغيثوا يا أخوتي الموتى بالموتى. يعرف الشيطان أنه يمكن أن ينجو الموتى بواسطة الأحياء، ولذلك يكثر لنا البكاء والدموع. لا تمنع القربان والصدقة من الموتى، لأنهم لا يزرعون زرعاً في القبور. فإن كل رجاء الأموات في القربان الذي يعمله الأحياء. لا يخدعنا الكفار بقولهم:
ماذا يستفيد الموتى من الذكر الذي يصنعه لهم الأحياء. حاشا لمراحم الله أن يثبت أقوال الزنادقة والظالمين، ويحرم الموتى من رجاء صلبه. إن المحبة تحرضني أن أتكلم عن الموتى هل إنهم يستفيدون من القرابين التي يقربها عنهم الأحياء. إن القربان يطلب المحبة والإيمان والسهر والصوم والصلاة والمبخرة الطاهرة. ائت بهذه وأعطها للكاهن لكي يدخل ويضعها على المائدة في بيت المقدس. وحالما يرى الرب محبتك وإيمانك يصنع رجاء للموتى الذين رقدوا على التراب “.
ويقول القديس أفرام النصيبيني في وصيته الأخيرة قبل موته: ” تعالوا يا أخوتي مددوني لأن الأمر قد انقضى ولست أتأخر. زودوني بالصلوات والمزامير والقرابين. وإذا انقضت ثلاثة أيام اذكروني يا أخوتي لأن الأموات ينتفعون من القرابين التي تصنعها الأحياء.
أما رأيتم الخمر في الدن والعنقود الفج في الكرم، فإنه عندما ينضج الحي الذي في الكرم، تتحرك الخمر الميتة التي في الدن. وإن كان البصل ذو الرائحة الكريهة يحس ويشعر يا أخوتي لأنه حالما ينبت ذلك الحي الذي في الحقل، ينبت أيضاً الميت الذي في البيت. فكم بالأحرى يشعر الأموات في الذكران والصلوات والقرابين التي يعملها الأحياء من أجلهم “.
وكنيسة المشرق من خلال صلواتها الطقسية من أجل الموتى تبين لنا أن المسيح نفسه علمنا أن نقدم القرابين والصلوات والصدقات من أجل الموتى لغفران نقائصهم وهفواتهم، وهذا واضح من هذه الصلاة:
” مبارك المسيح الذي علمنا أن نصنع في الكنيسة بالصلوات والصدقات ذكران أمواتنا على رجاء لاهوته ليغفر نقائصهم ولمجد اسمه العظيم لأن حياتنا ومماتنا في يديه “.
وفي تذكار الموتى المؤمنين تظهر الكنيسة المجاهدة على الأرض، وحدتها مع الكنيسة المعذبة في المطهر، لكي تتطهر وتتحد بالكنيسة الممجدة في السماء.
وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الموتى المؤمنين في الجمعة التاسعة من سابوع الدنح.
Discussion about this post