عرس قانا الجليل
(يوحنا 2: 1-12)
الصوم الكبير هو زمن التغيير الداخلي في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة. افتتحه الربّ يسوع بآية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، للدلالة أنّه قادر، بكلمته ونعمته وعطيّة الروح القدس، على تحويل حياة كلّ إنسان إلى الأفضل والاجمل. هنا موضوع رسالتي الراعوية الأولى في مناسبة الصوم، وعنوانها: “الصوم الكبير زمن التغيير”.
أوّلاً، الصّوم الكبير
الصوم الكبير هو زمن التغيير في اتجاهات ثلاثة: التغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من أجل استعادة بهاء البنوّة الإلهية؛ والتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والإماتة بهدف التحرُّر من كلِّ ما يعيب هذه البنوّة وصورة الله فينا، ومن أجل تدريب الإرادة على كبح الأميال والغرائز المنحرفة، والسيطرة على الذات؛ والتغيير في العلاقة مع كلِّ إنسان، ولاسيّما مع ذوي الحاجة، بأعمال المحبة والرحمة والتصدُّق، بُغية ترميم الأخوّة الشاملة. من شأن هذا التغيير المثلّث أن يُدخلنا في عمق سرّ الشركة والمحبة. يتزامن الصوم الكبير في قسم منه مع ربيع الطبيعة التي تتغيّر بلباس ثوب جديد استعداداً لموسم العطاء. فكم يجدر بالإنسان أن يكون شبيهاً بالطبيعة. فلا بدّ من أن ننزع منا أنماط الحياة العتيقة بالتقشف والتوبة، كما فعلت الطبيعة في فصل الشتاء، وأن نلبس ثوب الحياة الجديدة على مستوى التفكير والرؤية، والأفعال والمسلك.
فها يوحنا المعمدان ينادي: “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مرقس 15: 1) ، وبولس الرسول: “لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تغيّروا بتجديد أفكاركم، مميِّزين أين هي مشيئة الله الصالحة والمقبولة والكاملة” (روم 12: 2).
أما وسائل التغيير، في هذا الزمن، ثلاثة متكاملة ومترابطة هي الصلاة والصوم والصدقة.
الصلاة ضرورة حياتيّة. فالروح القدس الذي يملأ كيان المصلِّي والمصلِّية يحرِّره، كما يقول بولس الرسول، من أعمال الجسد المنحرفة، ويثمر فيه ثمار الروح كالمحبة والفرح والسلام واللطف والطهر والتواضع والصلاة والصبر (غلا 5: 18-23). الصلاة تقرِّب القلب من الروح القدس الذي يقود حياتنا ويحرِّرنا من عبودية الخطيئة. يؤكِّد القديس يوحنا فم الذهب أنّه “من غير الممكن أنّ الإنسان الذي يصلِّي، يُستعبد للخطيئة. فالصلاة تجعل غير الممكن ممكناً، والصعب سهلاً”. ويجزم القديس ألفونس دي ليغوري: “منْ يصلِّي يَخلُص حتماً. والذي لا يصلِّي يهلك بالتأكيد”. لكنّ الصلاة تنبع من الإيمان بالله ومحبته. فالذي لا يؤمن ولا يحب، لا يستطيع أن يصلِّي، وبالتالي أن يَخلُص (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2744-2745).
والصوم حاجة لأنّ به، وبما فيه من حرمان للذات من الطعام والشراب، يُكَفِّر كلُّ إنسان عن خطاياه والشرور التي ارتكبها، بالتعويض عنها. فالمسيح، ابن الله، كفّر عن خطايا جميع الناس وشرورهم بآلامه وموته، وهو بريءٌ من كلّ خطيئة شخصيّة (راجع 2 قور5: 21)، بل ما صنع إلّا الخير لجميع الناس (راجع أعمال 10:38).
لكنّ الصوم يشمل أيضاً حرمان الذات ممّا يسمّيها بولس الرسول “أعمال الجسد” وهي: “الزنى والنجاسة والدعارة وعبادة الأوثان والسِّحر والعداوة والخصومة والحسد والغضب والعصيان والإنقسام والبدع والقتل والسِّكر وكلّ ما يشبه ذلك” (غلا 5: 19-21). والله يؤكّد بلسان أشعيا النبي: “أليسَ الصوم الذي فضَّلتُه هو هذا: حلُّ قيود الشرّ، وفكُّ ربط الظلم، وإطلاقُ المُستَضعفين أحراراً، وتحطيمُ كلِّ استعباد؟” (أش 58: 6) .
والصوم، إلى جانب كونه شريعة إنجيليّة، هو أيضاً وصيّة كنسيّة من وصاياها السبع: “صُم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة، وانقطعْ عن الزفر يوم الجمعة” (الوصيتان الثانية والثالثة). ويأمر القانون 882 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة أن “يتقيّد المؤمنون المسيحيون بواجب حفظ الصوم والقطاعة، بالطريقة التي يرسمها الشرع الخاص بكلِّ كنيسة”. تحدِّد كنيستنا المارونية في المجمع اللبناني أنّ “الصوم الكبير، المعروف بالأربعين، يبدأ يوم الإثنين التالي أحد مدخل الصوم، وهو “اثنين الرماد”، ثمَّ يتواصل في اسبوع الآلام للمشاركة في آلام الفداء، وينتهي يوم السبت السابق أحد القيامة. ولا يُصام في أيّام الآحاد والسبوت إلّا السبت المقدّس، المعروف “بسبت النور”، وفي الأعياد الواقعة أثناء الصوم الكبير وهي: دخول المسيح إلى الهيكل، والقديس مارون، والقديس يوحنا مارون، والأربعين شهيداً، والقديس يوسف، وبشارة مريم العذراء. والصوم هو الإنقطاع عن الطعام والشراب من نصف الليل إلى نصف النهار. كما يجب القطاعة عن أكل اللحم كلَّ يوم جمعة على مدار السنة، ما عدا ما كان منها موافقاً للأعياد المأمورة، وفي الأسبوع السابق لبدء الصوم الكبير، وفي المدّة الواقعة بين عيدَي الميلاد والغطاس، وبين أحد القيامة واحد العنصرة” (المجمع اللبناني: الباب الرابع، في الأعياد والأصوام، الأعداد 1 -3).
والصدقة تجاه الفقراء، وهي تعبير عن واجب العدالة ووصيّة المحبة الأخويّة: “أحبّ قريبك حبَّك لنفسك” (متى 22: 39). أوصى بها الربّ يسوع: “تصدّقوا بما هو لديكم” (لو 11: 41)؛ ويوحنا المعمدان: ” منْ له قميصان، فليعطِ من ليس له” (لو 3: 11) ؛ ويعقوب الرسول: “إن كان أخٌ أو أخت عريانين، وليس لهما قوت يوم، وقال لهما أحدكم: إذهبا بسلام واستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا انتفعا؟ كذلك الإيمان وحده، بدون أعمال ميت” (يعقوب 2: 15-17)؛ ويوحنا الحبيب: “من كان له مقتنى الدنيا، ويرى أخاه في فاقة، ويُمسك عنه مراحمه، فكيف تكون محبة الله فيه؟“. فلا يكنْ حبُّ بعضنا بعضاً بالكلام واللسان، بل بالأعمال والحقّ” (1 يو 3: 17-18).
الصدقة هي مجمل أعمال الرحمة بأفعال محبة نساعد بها إخوتنا وأخواتنا سواء في حاجاتهم الجسدية بإطعام الجائع، وإيواء الشريد والغريب، وكساء العريان، وزيارة المريض والسجين (متى 25: 31-46)، أم في حاجاتهم الروحية بالتعليم والتربية والتعزية والمشورة والتشجيع (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2447).
ويعود السيدُ الربّ لينبّه بلسان أشعيا النبي: ” أليسَ الصوم الذي فضّلتُه هو أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل البائسين المطرودين بيتَك؟ وإذا رأيتَ العريان تكسوه…حينئذٍ يبزغ كالفجر نورك، ويسير برّك أمامك، ومجد الربّ يجمع شملك. وحينئذٍ تدعو، فيستجيب الربّ” (أش 58: 6-9).
ثانياً، شرح نصّ الإنجيل
من إنجيل القديس يوحنّا 2: 1-12
قال يوحنّا الرّسول: في اليوم الثالث، كان عرسٌ في قانا الجليل، وكانت أمّ يسوع هناك. ودُعِيَ أيضاً يسوعُ وتلاميذُهُ إلى العُرْس. ونفدَ الخمْر، فقالت ليسُعَ أمُّهُ: “ليس لديهم خَمْر”. فقالَ لها يسوع: “ما لي ولكِ، يا امرأة؟ لم تأتِ ساعَتِي بعْد!” فقَالَتْ أمُّهُ للخَدَم: “مَهْمَا يقُلْ لكم فافعلوه!”. وكان هناكَ ستّةُ أجرانٍ من حَجَر، مُعَدّةٌ لتطهير اليهود، يسَعُ كلّ منها من ثمانين إلى مئة وعشرين وعشرين ليتراً، فقالَ يشوع للخدَم: “إملأوا الأجرانَ ماءً”. فملأُوها إلى فةق. قالَ لهم: “إستَقُوا الآنَ، وقدِّموا لرئيسِ الوليمة” فقَدّموا. وذاقَ الرّئيسُ الماءَ، الّذي صارَ خمْراً – وكان لا يَعْلَمُ من أينَ هُوَ، والخَدَمُ الّذين استَقَوا يعْلَمُون – فَدَعَا إليه العريسَ وقال له: “كلُّ إنسانٍ يقدّمُ الخمرَ الجيّد أوّلاً، حتّى إذا سَكِرَ المدعوّون، يقدّمُ الأقلَّ جودةً، أمّا أنت فقد أبقيتَ الخمْرَ الجيّد إلى الآن!” تلك كانت أولى آيات يسوع، صَنَعَهَا في قَانا الجليل، فأظهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ به تلاميذُه.
يسوع المسيح، إبن اللّه المتجسّد لفداء البشر وخلاصهم، يبدأ رسالته الخلاصيّة بحضور عرس قانا الجليل، للدّلالة إلى الفرح الكبير في الأزمنة المسيحانيّة الّتي يحقّق فيها الخلاص. فعرس الإنسان الحقيقي عندما يلتقي اللّه بالمسيح الإله الّذي يغيّره في الدّخل، ويزرع في قلبه فرحاً وسلاماً لا يمكن للعالم أن يُعطيهما.
الخمر رمز الفرح، وتحويل الماء في ستّة أجاجين إلى خمر فائق الجودة، علامة للخمر الفائض في أزمنة الخلاص. هذه الآية الّتي أجراها يسوع في عرس البشر، إستَبْقَتْ وهيّأَت تحويل الخمر إلى دمه الافخارستي، دم الفداء، في ذلك العشاء، عرس يسوع الخلاصي الّذي منه فرح الإنسان الحقيقي وسعادته الحقيقيّة. فبدمه يغسل يسوع خطايا البشر، وخطايا كلّ إنسان. نقص الخمر علامة حزن وكآبة حسب ما جاء في أقوال الأنبياء. فأشعيا، مثلاً، يقول: “زال الفرح والإبتهاج من البستان، فلا هتاف في الكروم، ولا يدوس دائس خمراً في المعاصر(16:10)؛ ويوئيل: “إستيقظوا يا جميع شرّاب الخمر ووَلولوا، فإنّه انقطع عن أفواهكم”(1:5). وكذلك نقص دم الإفخارستيّا وعدم الجلوس إلى مائدته القربانيّة، حزن وكآبة روحيّة، لأنّ الإنسان مازال أسير خطيئته وشروره الّتي لا يغسلها دم القربان تتسبّب بتفشّي الشرّ وبإنزال الأضرار المتنوّعة بكثير من النّاس. والخطايا الشّخصيّة الّتي لا يتوب عنها النّاس، ولا يغسلونها بدم القربان الّذي منه جرى ينبوع الغفران، تصبح بتراكمها هيكليةَ خطيئةٍ اجتماعيّة.
وإذ يَجمع إنجيل يوحنّا بين الماء والخمر في آية عرس قانا الجليل، يعود فيربط بين الماء والدم، اللّذين سالا من جنب يسوع المعلّق على الصّليب، عندما طعنه أحد الجنود بحربة (يو19 :33). فإذا بعناصر آية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في العرس البشريّ، تصبح هي إياها عناصر عرس الخلاص الإلهي: فالماء الّذي جرى من جنب يسوع أصبح ماء المعموديّة للولادة الثانية من الماء والرّوح (يو 3 :5)، والخمر أصبح دم ذبيحة الفداء لغفران الخطايا والحياة الجديدة فينا بالرّوح القدس.
ولأنّ الخمر علامة الفرح، فإنّه يرمز للرّوح القدس، المعروف بخمرة الرّوح الّتي تنعش حياة المؤمنين والمؤمنات وحياة الكنيسة، فيتكلّمون كلام هذا الرّوح، أعني كلام الحقيقة والمحبّة والغفران، كلام العدالة والحريّة والسلام. في الواقع عندما حلّ الرّوح القدس على التّلاميذ، ورحوا يكلّمون الشّعوب المتواجدين في أورشليم لعيد الخمسين، وكان هؤلاء مندهشين إذ سمعوهم يتحدّثون بعظائم اللّه بلغاتهم، وهم “من كلّ الشّعوب الّذين تحت السّماء”، قال بعضهم، ولو بهزء: “هؤلاء شربوا خمراً، فسكروا” (أعمال 2: 1-13). فشرح بطرس أنّ ذلك ليس من شرب الخمر الماديّ، بل من “شرب” خمرة الرّوح لقدس، إذ قال: “كلاّ!” ما هؤلاء سكارى كما تزعمون. بل ما قيل على لسان يوئيل النبي: “يكون في تلك الأيّام الأخيرة، يقول اللّه، أني أُفيضلُ من روحي على كلِّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم… وعلى عبادي أفيضُ من روحي في تلك الأيّام، فيتنبّأون” (أعمال 2:15-18).
أمّا موقع مريم في هذه الآية فهو أنّها تعلّمنا معنى “الحضور” المنفتح على الآخر في حاجته، والعمل على سدّ هذه الحاجات، فقالت ليسوع: “ليس عندهم خمر.” وطلبت إلى الخدّام أن يستعدّوا لأي عمل يقوم به يسوع: “إصنعوا ما يقول لكم.” إنّ حاجاتنا تفتح نفوسنا على الرّجاء بتدخّل اللّه وعنايته، الّذي يُظهر دائماً مجده في عظائم التاريخ.
مريم العذراء هي الوسيطة بين البشر واللّه. والمسيح الوسيط الأوّل والوحيد بين اللّه والنّاس، يُتمّ ما يلتمسه المؤمنون والمؤمنات على يد أمّه مريم العذراء الكليّة القداسة.
* * *
صلاة
نرفع صلاتنا إلى اللّه في زمن الصّوم، الّذي هو الزّمن المقبول، بشفاعة أمّنا مريم العذراء وأبينا القدّيس مارون، ملتمسين النّعمة لنجعل منه ومن تغيير داخلي، نطوي معه صفحة صفراء من حياتنا، ونبدأ مسيرة تجدّد شامل في علاقاتنا الشّخصيّة مع اللّه والذّات وكلّ إنسان. فلترفعنا صلاة كلّ يوم لنابعة من الكتاب المقدّس غلى عالم اللّه لنستمدّ منه قيم الرّوح، وليحرّرنا الصّيام من قيود الجسد، ولتفتح الصّدقة قلوبنا إلى محبّة تكبر مثل نور الفجر إلى وضح النّهار. وليرتفع من كلّ فمٍ وقلبٍ نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
Discussion about this post