مدخل الصوم- عرس قانا الجليل
الصوم زمن التجدد والتغيير
إنجيل القديس يوحنا 2/1-11
بعد ثلاثة أيام من اعتماد الرب يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، افتتح حياته العلنية بالمشاركة مع تلاميذه ومريم أمه في عرس قانا الجليل وأجرى آية تحويل الماء إلى خمر ممتاز.
الآية هي علامة العهد المسيحاني الذي يصنع كل شيء جديداً بالكلمة ونعمة الفداء. مع المسيح كل قديم يمضي. يطل يسوع كأدم الجديد، ومريم كحواء الجديدة، وتبدأ ولادة جديدة وخلق جديد. لهذا السبب اختارت الكنيسة إنجيل هذه الآية في مدخل الصوم الكبير للدلالة أنه زمن التغيير استعداداً لولادة فصحية جديدة: تغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من أجل استعادة البنوّة له؛ وتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والإماتة من أجل التحرر من كل ما يعيب هذه البنوة وصورة الله فينا؛ وتغيير في العلاقة مع الناس بأعمال الرحمة والمحبة والتصدق من أجل ترميم الأخوّة الشاملة. مثل هذا التغيير، بوجوهه الثلاثة، لا يجريه الاّ المسيح الفادي، بقدرته الإلهية وحلول الروح القدس، بتشفع مريم أمه وام البشرية جمعاء. هذا ما تدل عليه معجزة تحويل الماء إلى خمرة جيدة في عرس قانا الجليل، فالأعجوبة علامة.
أولاً، شرح الإنجيل
1- مع المسيح كل قديم يمضي
” كان هناك ست اجاجين من صخر موضوعة لتطهير اليهود” (يو2/6).
كانت الاجاجين تستعمل لتطهير اليهود طقوسياً بالاغتسال بالماء قبل الطعام ولغسل كل ما يبتاعونه من السوق قبل أكله، مع الكؤوس والصحون واواني النحاس والأسرّة(مرقس7/2-4). كانت تسع الواحدة نسبياً مئة ليتر، والست معدل 600 ليتراً. ارتضى يسوع تحويل الماء إلى خمر ليكون رمزاً واعلاناً مسبقاً لتصميم الخلاص الشامل الذي هو خمرة المسيح المتفجرة من الأسرار.
تمثّل الاجاجين الست الستة الآف سنة من تاريخ العالم، وتمثّل الخمر الجديدة ” سبت العالم” الذي حمله يسوع إلى تمامه بإعادة بهاء صورة الله في الإنسان المخلوق في اليوم السادس بالفداء (تكوين1/26-32). الاجاجين والممارسات الطقوسية اليهودية ترمز إلى كل تدبير العهد القديم (القديس افرام)، وبالتالي إلى شريعة موسى. أما الخمرة الجديدة فترمز إلى النعمة المعطاة بالمسيح، على ما جاء في مقدمة انجيل يوحنا: “إن كان الناموس بموسى، فبيسوع كانت النعمة والحق” (يو1/17).الخمرة القديمة التي نفدت هي رمز للشريعة والانبياء، والجديدة التي أعطاها يسوع تعني العقيدة الجديدة (اوريجانوس)، على ما أعلن الرب: “لا تظنوا أني أتيت لأحلّ الناموس أو الأنبياء، ما أتيت لأحلّ بل لأكمّل”(متى1/17). التعليم الجديد هو الخبز والخمر اللذين يسدان الجوع والعطش: ” أنا هو خبز الحياة. من يأت إلي فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش إلى الأبد. من يأكل من جسدي ويشرب من دمي، فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو6/35و54). هذا التفسير يستند إلى دعوة الرب في سفر الأمثال: ” هلموا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجت، اتركوا السذاجة فتحيوا، اسلكوا طريق الفطنة” ( امثال9/5-6). خبز المسيح وخمرته هما خبز الكلمة والقربان.
ويرمز الخمر إلى الروح القدس الذي يعطيه المسيح والذي سماه الماء الحي: ” من هو عطشان فليأت إليّ ويشرب. من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه أنهار ماء الحياة. هذا قاله عن الروح الذي سوف يقبله المؤمنون” (يو7/37-39).الاجاجين الفارغة من الماء ترمز إلى عدم أمانة اليهود وعدم مشاركتهم في عرس المسيح مع الكنيسة، فحلّ محلهم شعوب الأمم المرموز إليهم بالماء الذي ملأ الاجاجين (القديس قبريانوس ).ورأى فيها القديس كليمانض الاسكندري نهاية التطهير بالماء وبداية التقديس بدم الفداء وبالروح القدس المرموز إليهما بالخمرة الجديدة. قدم المسيح وعمل الروح يغسلان خطايا البشر. إن العالم يتجدد بالمسيح والروح القدس: ” أرسل روحك أيها المسيح فيتجدد وجه الأرض”.
2. مريم المرأة الجديدة
” ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد” (يو2/4)
استعمل يسوع لفظة ” يا امرأة” بدلاً من ” يا أمي” للدلالة على الجديد فيها: ليست مريم أم يسوع وحسب، بل وأم البشرية المفتداة التي هي الكنيسة، المتمثلة بشخص يوحنا على أقدام الصليب:” يا يوحنا هذه أمك”، بل هي الوسيطة بين يسوع والبشر. إنها في آن شريكة المسيح الفادي، وخاضعة خضوعاً كاملاً له، وتسمى امرأة العهد الجديد. المرأة مريم هي حواء الجديدة، أم جميع الأحياء ( تكوين3/20)، كما تعني لفظة “امرأة”. وهي بالتالي عروس المسيح آدم الجديد، كما كانت حواء المرأة القديمة عروس أدم الأول (1كور15/21-26؛ 54-57). إنها عروس المسيح في عمل الخلاص الذي بدأ في عرس قانا، وسيتحقق على الجلجلة: ” يا امرأة، هذا ابنك” (يو19/26)، وسيكتمل بانتصار المرأة، رمز الكنيسة، على التنين في رؤيا يوحنا (الفصل21)، تحقيقاً لوعد الله في سفر التكوين بأن المرأة، مريم البريئة من دنس الخطيئة الاصلية، ستنتصر على الحية: ” اضع عداوة بينك وبين المرأة: هي تسحق رأسك، “وانت تترصدين عقبها” (تكوين3/15)، للدلالة أن الكنيسة المتمثلة بالمرأة الجديدة تبقى موضوع اضطهاد الحية وأنصارها من قوى الشر، من دون أن تقوى عليها ( انظر متى 16/18).
مريم المرأة هي ” عروس المسيح”، الكلمة المتجسد: ” هلمي معي من لبنان أيتها العروس! هلمي معي من لبنان، من مرابض الأسود، من جبال النمور” ( اناشيد 4/8). في عرس قانا الجليل يتجلى ” عرس يسوع ومريم” اللذين حققا تحويل الماء إلى خمرة جديدة، رمز العبور من العهد القديم إلى الجديد، وكأن مريم أم يسوع “تعمل” كعروس الكلمة المتجسد، رأس شعب الله الجديد، هذا الذي يمثله التلاميذ الأول الحاضرون في العرس، وقد رأوا مجده فآمنوا به” (يو2/11). ومريم هي بالتالي أم هذا الشعب الجديد، الذي هو الكنيسة. وهكذا عرس قانا يصبح، في الرمز، العرس الخلاصي، عرس محبة المسيح للبشرية، في العهد الجديد؛ وهو عرس لا يتحقق من دون مريم، أم النعمة والرحمة. ان كل تقليد الكنيسة ينقل لنا هذا التفسير. في آية قانا رمى يسوع أول زرع لعرس حبه الروحي الذي أراد الاحتفال به مع البشرية جمعاء، مفتدياً إياها وموحدها في كنيسته. في هذا العرس مريم حاضرة وتتوسط لاجراء المعجزة، لكونها ام الشعوب، ولأن “جميع الشعوب تطوبها” (لو1/48). سيكتمل العرس بعرس الحمل الإلهي في السماء، حيث تتحول آلامنا إلى خمرة حب في السعادة الأبدية. وهكذا في عرس قانا تتمثل ثلاثة أسرار: المعمودية (بالماء)، والافخارستيا (بالخمر)، والزواج (بالعرس)Mariologia biblica p. 332-337) P. Stefano Manelli,).
الأفخارستيا هي الاحتفال ” بعرس الحمل”، والكنيسة تتهيأ بابنائها وبناتها، بحجارتها وأثاثها لهذا العرس. كما يشهد يوحنا: ” سمعت مثل صوت جمع كثير يقول: هللويا! الرب إلهنا القدير قد ملك. فلنفرح ونبتهج! ولنمجّد الله، فقد حان عرس الحمل، وعروسه قد تزينت ولبست كتاناً براقاً خالصاً هو اعمال البر التي يقوم بها القديسون”(رؤيا19/6-8). وكانت الدعوة الشاملة إلى وليمة الخلاص: ” وقال لي الملاك: اكتب ” طوبى للمدعوين الى وليمة عرس الحمل” ( رؤيا19/9). الذبيحة هي عرس الحمل، والمناولة القربانية هي الوليمة التي هو مضيفها. القداس ذبيحة وتقدمة ووليمة، كما ننشد في طلبة زياح القربان المقدس: ” يا ذبيحة بلا دم، يا تقدمة طاهرة، يا وليمة حلوة تخدمها الملائكة”.
3. وساطة مريم أم يسوع وأمنا
” ليس عندهم خمر…افعلوا ما يقوله لكم” (يو2/3و5).
لولا وساطة مريم لما كانت الآية، ولما كانت كل معانيها. كُتب الكثير عن جواب يسوع” ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد”، وعن كلمة مريم ” افعلوا ما يقوله لكم”. ينبغي أن نفهم ذلك انطلاقاً من فهم مريم لا من فهمنا نحن للألفاظ: بالنسبة إلى فهم مريم، فقد شعرت بأن المعجزة آتية لا محاله، لأنها تعرف يسوع في العمق، وعايشته ثلاثين سنة في الناصرة، واختبرت قدرته على العجائب من خلال معجزات خفية داخل جدران البيت الوضيع (انظر Manelli، ص321 الحاشية11). ولذلك قالت ببساطة: ” افعلوا ما يقوله لكم”.
هي مريم الوسيطة التي “تقف بين ابنها يسوع والبشر في واقع ما يعانون من حرمان وفقر وألم. إنها تتخذ لذاتها مكاناً ” في الوسط”، إذ تقوم بدور الوسيط، ليس من الخارج، بل من موقع أمومتها، مدركة قدرتها على أن تعرض لابنها حاجات البشر أو بالأحرى حقها في ذلك. وساطتها تحمل طابع الضراعة: ” مريم تضرع” لأجل البشر (البابا يوحنا بولس الثاني: ام الفادي،21).بسبب تشفع مريم، ظهر الكثير في آية عرس قانا: إيمان مريم الكبير بابنها، ومحبتها للعروسين، وقدوتها للتلاميذ، وحب يسوع لامه، وجودته وقدرته ومجده، وإيمان التلاميذ الأول. وظهرت بنوع خاص قدرة مريم أم يسوع بحيث أن الله يستجيب كل طلب يصل اليه بواسطة مريم، ويجعل ” ساعة” تدخله في تاريخ البشر ” ساعة ” وساطتها. ولهذا سمتها التقوى المسيحية “أماً قديرة” و” أم المعونة الدائمة”. فكما بكلمة نعم: ” ليكن لي حسب قولك”، يوم البشارة، فتحت الأبواب لتجسد الكلمة، وكانت الباب الذي عبر من خلاله ابن الله من السماء إلى الأرض، كذلك، بوساطتها في عرس قانا، نالت استباق ” ساعة” ظهور يسوع المسيحاني، فقدمته لجميع الناس (Manelli ، ص325-326)، واستباق ولادة الكنيسة من “ساعة” يسوع على الجلجلة بصلبه، هذه الكنيسة التي ستوزع أسرار الخلاص وتعطي خمرة المسيح في الأفخارستيا (المرجع نفسه، حاشية 23).
مريم نفسها تلهمنا كل يوم ” لان نفعل ما يقول لنا يسوع”، لكي نحصل على ما نلتمس بواسطتها من خير ونعم. في قانا استهل يسوع ” ساعته” بفضل ضراعة مريم وطاعة الخدام، وظهرت مريم أمام البشر وكأنها الناطق باسم ابنها، تعبّر عن إرادته وترشد إلى ما يقتضيه تجلي قدرة المسيح الخلاصية (ام الفادي،21 ).
ثانياً، الخطة الراعوية
بحضور الرب يسوع وتلاميذه في عرس قانا الجليل، وفي آية تحويل الماء إلى خمرة ممتازة بوساطة مريم، تقدس الزواج، وأعيدت إليه كرامته، وتطهر الحب الزوجي، وتبدل الزوجان من ” أنا وأنت” إلى ” نحن”، وأصبح العروسان خمرة جديدة تسكب في المجتمع البشري.
ترتكز الخطة الراعوية في هذا الأسبوع على إبراز قيمة الزواج والعائلة، وأهمية التحضير لهما، ومواكبة الأزواج والعائلات الفتية في ضوء توصيات المجمع البطريركي الماروني في النص العاشرحول العائلة في إطار تجدد الأشخاص راعوياً وروحياً. يتم هذا التركيز على مستوى الأسرة ولجنة العائلة في الرعية والمجلس الرعائي والمنظمات الرسولية واللقاءات الإنجيلية ولقاءات الشبيبة.
1- لا بدّ أولاً من التركيز على قيمة الزواج- العهد كما نقرأ في النص المجمعي: الزواج عهد بين الرجل والمرأة، بمعنى شركة حياة وحب على صورة الله الثالوث وعهده الخلاصي مع البشر. إنه عهد حرّ ومسؤول مدى الحياة، يعبّر عنه الزوجان بالرضى المتبادل، اقتداء بعهد الحب بين المسيح والكنيسة ( انظر افسس 5/22-33). عهد يستنير من كلمة الله والإنجيل الذي تتشابك عليه يدا العروسان، ويتثبت ببركة الثالوث الاقدس الذي يجعل الاثنين جسداً واحداً ( انظر متى 19/5)، وخلية جديدة لمجتمع جديد، وكنيسة بيتية مصغرة تعكس كنيسة المسيح. بقوة هذا العهد يسير الزوجان متحليين بالأمانة الزوجية على مستوى وحدة الأفكار والمشاعر والعلاقة الزوجية وإسعاد الواحد الآخر، وتقديس الواحد الآخر، هذه الأمانة هي إكليل مجدهما وكرامتهما. وبفضل هذا العهد ينفتح الزوجان على سرّ نقل الحياة، مشاركين الله في خلقه وأبوته وأمومته، وعلى تربية الحياة مكملين رسالة المسيح الخلاصية ( انظر النص العاشر: في العائلة، 44-55).
2- لبلوغ هذا المفهوم وهذا الهدف، يوصي المجمع البطريركي الماروني:
أ- بإنشاء جماعات عائلية في الرعايا وفقاً للدليل الذي وضعته اللجنة الأسقفية للعائلة والحياة في لبنان.
ب- التزام الخاطبين بتحضير زواجهم في مراكز التحضير للزواج في كل أبرشية، وفقاً للبرنامج الموحّد الذي وضعته اللجنة الأسقفية للعائلة والحياة.
ج- توجيه الأزواج والعائلات، في حالة التعثر إلى ” مركز الإصغاء” في كل أبرشية، حال قيام أي صعوبة أو خلاف، قبل التوجه إلى المحاكم الكنسية.
د- إحياء الصلاة في العائلة باعتماد كتاب ” صلاة العائلة” الذي وضعته اللجنة الأسقفية المذكورة، وفقاً لأزمنة السنة الليتورجية، وتشجيع مبادرات أخرى مثل صلاة المسبحة التأملية مع تكريم ايقونة العذراء والعائلة المقدسة. إن تكريم العذراء مريم والعائلة المقدسة قد احتلّ على مدى الأجيال مكاناًَ مرموقاً في البيوت والعائلات. فمن الضرورة السهر على هذا التقليد في العائلات الجديدة ولمحافظ عليه.
3- تشمل الخطة الراعوية اعتماد الرسالة العامة التي أصدرها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في15آب2005، بعنوان: ” العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة”.
صلاة
أيها المسيح، العروس السماوي، الذي ابهجتَ العروس الأرضي بالماء المحال خمراً، أرونا من ينابيع إنجيلك كلمة الحياة، ومن نِعم أسرارك المحيية. حوّل الشر خيراً، والحزن رجاء، والمرارة حلاوة، والخصومة اتفاقاً وسلاماً، بخمرة دمك السرّي المعصورة بالحربة على الصليب. أروِ بخمرة حبك العائلات المسيحية والذين تعاهدوا على الحياة الزوجية الأمينة، فيسيروا بحسب شريعة الإنجيل، ويوطدوا حياتهم على الإيمان بك والاتكال عليك. با مريم، المرأة الساهرة في قانا على حاجات العروسين، كوني لنا عند ابنك، فادي الإنسان، الشفيعة والمحامية، لكي يسلك الازواج والعائلات حسبما تأمر به كلمته، فيدركوا السعادة الحقة ويشهدوا لجمال الحب والتفاني المتبادل، له المجد والشكر مع الآب والروح القدوس إلى الأبد، آمين.
*****
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post