آية عرس قانا الجليل
الصوم زمن التجديد والتحويل
أحد مدخل الصوم
من إنجيل القديس يوحنا 2/1-11.
قال يوحنا الرسول: في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: “لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر”. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: “مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!”. فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: “مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَاْعَلُوه!”. وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: “إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً”. فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: “إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة”. فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا – وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ ا]سْتَقَوا يَعْلَمُون – فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: “كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!”. تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.
آية تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، تتلوها الكنيسة في هذا الأحد المعروف بمدخل الصوم، كعلامة للتجدد الداخلي والتحوّل في القلب والنظرة والمسلك. هذا التحوّل يحققه فينا الرب يسوع بقوة الروح القدس وبتشفع السيدة العذراء، إذا التزمنا العيش بموجب ما يقول لنا. المسيح الذي يحوّل الماء الى خمر قادر أن يحوّل الإنسان في داخله. زمن الصوم هو مناسبة وموعد لهذا التحول فينا. عرس قانا وآية تحويل الماء إلى خمر استباق لعرس الفداء وتحويل الخمر والخبز إلى دم المسيح وجسده لحياة العالم.
***
أولاً، شرح نص الإنجيل
1- الصوم زمن التجديد والتحويل
زمن الصوم هو زمن التجديد والتحويل الداخلي والتعبير في الحياة الاجتماعية للمحبة التي يضعها الله في قلب من يؤمن. إنه التجدد والتحول في علاقات ثلاث متلازمة ومتكاملة:
العلاقة مع الذات تتجدد بالصوم والاماتة والتقشف. فيجري تحريرها من عبودية الجسد والنزوة والشهوة، وتتم السيطرة على الذات وتًحمى بالعفة من فساد اللسان والعين واليد والقلب.
العلاقة مع الله تتجدد بسماع كلامه والتعمق فيه، من خلال مواعظ الصوم والرياضات في الرعايا والأديار، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، والمنشورات والمقالات الدينية. يجري تغيير في الذهنية والحكم على الأمور والنظرة إلى شؤون الدنيا والإنسان. وندخل في حوار مع الله لاكتشاف إرادته وتحقيق تصاميم حبه الخلاصي: ” كلامك مصباح لخطاي ونور لسبيلي”. بين الصوم عن الطعام وسماع كلام الله رباط حياتي يكشف ان الإنسان يحتاج، لكي يحيا ملء الحياة، إلى طعام الخبز المادي وطعام الكلمة الروحي، كما أكدّ الرب يسوع عندما صام أربعين يوماً في الصحراء: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” ( متى4/4).
العلاقة مع الانسان تتجدد بعيش المحبة على تنوعها: مساعدة الفقير، مصالحة المخاسم والمسيء، زيارة المريض، تعزية الحزين، صلاة من أجل الخاطىء. إنه زمن المساعدة المادية والروحية والمعنوية، به تنفتح بقلبك ويدك ونفسك على الآخرين وكلهم إخوة في الإنسانية. على هذا الأساس تقوم مبادرات مشاركة وتعاون ودعم للمؤسسات الخيرية، وفي مقدمتها رابطة كاريتاس لبنان التي هي جهاز الكنيسة الاجتماعي، وسواها من الأجهزة والهيئات والمؤسسات. بين الصوم وأعمال الرحمة رباط عضوي: إن ما توفره في زمن الصوم من مال بالامتناع عن أكل وشرب وترفيه ونزهات، وبالتقشف في الصرف والبذخ، تخصصه لأفعال المحبة والرحمة، بذاتك أو بواسطة المؤسسات المذكورة أو بشبكات تعاون.
2- عرس قانا مدخل لتجليات الروح القدس
سيظهر في إنجيل يوحنا أن الروح هو صانع الولادة الجديدة في الإنسان بمعمودية الماء والروح. أكّد يسوع لنيقوديموس: ” ينبغي لكم أن تولدوا ثانية. لأن المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح” ( يو3/6-7).
الروح القدس هو نبع الماء الحي الذي تجري منه الحياة الإلهية فينا، كما وعد الرب يسوع: “من يؤمن بي تجري من جوفه أنهار ماء الحياة. هذا قاله عن الروح الذي سوف يقبله المؤمنون” (يو7/38-39).
الروح القدس، البارقليط المعزي وروح الحق ( يو14/16-17) يقودنا جميعاً الى الحقيقة كلها، ويقول لنا كل ما يسمع ويطلعنا على ما سيكون ( يو16/13).
الروح القدس جاد به الله على العالم كثمرة للفداء: ” حنى يسوع رأسه وجاد بروحه” (يو19/30). عندما قام من الموت منحه لرسله إذ نفخ فيهم وقال: ” خذوا الروح القدس” (يو20/22).
3- الروح يقود خطانا في زمن الصوم
كما اقتاد الروح القدس ربنا يسوع إلى البرية ليصوم ويجرب من الشيطان (لو4/1-2)، وبذلك شهد يسوع لثقته الكاملة بإرادة الآب، هكذا يقود الكنيسة في الزمن، ويقود خطانا في صحراء هذا العالم، وبخاصة في زمن الصوم، لنختبر مع المسيح معطوبية الخليقة. الروح يقرّبنا من الله، الذي يخلصنا: ” أقودها إلى البرية وإخاطب قلبها” ( هوشع2/16).
زمن الصوم مسيرة ارتداد بالروح القدس، فنلاقي الله في حياتنا ونلتقي بعضنا بعضاً أخوة بالمسيح.
4- مريم بالروح القدس شريكة الفداء
آية عرس قانا، في بداية رسالة السيد المسيح العامة، هي فجر الأفخارستيا والعنصرة مكوّني العهد الجديد. فمريم، بوحي من الروح القدس الذي يملاءها، دعت يسوع الى إبراز هذا الفجر. بتشفعها ” ليس عندهم خمر”، وبإيحائها للخدام ” افعلوا ما يقوله لكم”، نالت أول آية- معجزة افتتح بها يسوع حياته العامة، وعليها أسس إيمان التلاميذ بحقيقة العهد الجديد: “هذه هي الآية الأولى، صنعها يسوع في قانا الجليل فأظهر مجده، وآمن به تلاميذه” (يو2/11).
هي المرأة، مريم شريكة الفداء، تقف على عتبة كل مرحلة من مراحل تاريخ الخلاص: في الميلاد والطفولة، في بداية الآيات لإعلان ملكوت الله الداخل في تاريخ البشر، على أقدام الصليب، أمام قبر القيامة، على رأس الرسل في العلية يوم العنصرة، وفي انتقالها بالنفس والجسد إلى مجد السماء.
هي بذلك مثال الكنيسة، شعب الله الجديد. بعد الدنح على نهر الأردن كان دنح المسيح ومريم والكنيسة: ” في اليوم الثالث، كان عرس في قانا الجليل، وأم يسوع كانت هناك، ويسوع وتلاميذه دعوا إلى العرس أيضاً (يو2/1-2). إنها الكنيسة، المسيح رأسها، التلاميذ أعضاؤها، الروح القدس مؤلف جماعاتها ومحييها، ومريم العذراء شفيعتها ومثالها، تدعو إلى عرس الخلاص بخمرة دم الفادي، الحمل المذبوح على الجلجلة دموياً وفي الأفخارستيا سرياً. هي الكنيسة أداة الخلاص الشامل وعلامته، والعلامة والأداة للاتحاد بالله ولوحدة الجنس البشري برمته ( نور الام 8، الارشاد الرسولي” رجاء جديد للبنان،19).
****
ثانياً، السلام في العائلة والوطن
نعرض تباعاً في زمن الصوم ما جاء في رسالة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي، أول كانون الثاني 2008، كبرنامج للعام الجديد، وهي بعنوان: ” العائلة البشرية جماعة السلام”.
الفكرة الرئيسية التي تقود الرسالة هي أن السلام، عطية الله العظمى للعالم التي تختصر كل الخيرات الروحية والزمنية، يولد في العائلة الطبيعية، وفيها يختبره الإنسان ويتربى عليه، وإن السلام يتحقق في العائلة الاجتماعية على الأسس وبالوسائل إياها لا التي يقوم عليها السلام في العائلة، أعني: العهد بكلمة ” نعم”، والبيت-الأرض، والاقتصاد لتوفير سبل العيش، والشريعة القانونية والخلقية.
السلام مهمة موكولة الى الناس ليحققوها، فيجدوا سعادتهم ويحققوا رقيّهم، ويمجدوا الله، اله السلام، كما أنشد الملائكة ليلة ميلاد المخلص: ” المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر” ( لو2/14).
العائلة الطبيعية موضع ميلاد السلام وتحقيقه. فلكونها جماعة حب وحياة بين رجل وامرأة، هي المكان الأول لأنسنة الشخص البشري والمجتمع بفضل الحب المتجدد، والحياة التي تولد وتتواصل. وبما أنها أول مجتمع طبيعي أسسه الله الخالق، فهي تشكّل الأساس لحياة الأشخاص، والنموذج لأي نظام اجتماعي، والخلية الاولى والحية لكل جماعة بشرية في الوطن والأسرة الدولية، وكتاب القواعد للعيش معاً بسلام. وبذلك تكون العائلة الطبيعية المربّية الأولى على السلام التي لا بديل عنها، لأن فيها يتم اختبار مقومات السلام الأساسية أي العدالة، والحب بين الأخوة والأخوات، وممارسة السلطة المتمثلة في الأهل، وخدمة المحبة للأفراد الأضعف كالصغار والمرضى والمسنين ( رسالة البابا 1-4).
3. العائلة الطبيعية هي الفاعلة الأساسية للسلام. لذلك، لها حق الحماية من المجتمع والدولة، لكي تؤمّن حقوق أفرادها، وفقاً ” للشرعة العالمية لحقوق الإنسان” ( مادة 16/3)، ولشرعة حقوق العائلة (المقدمة،أ).
من يعرقل العائلة في حقوقها يجعل السلام سريع العطب في الجماعة العائلية والوطنية والدولية. هذا ما يحصل:
– إذا حُّدّ من جهوزيتها لقبول حياة بشرية بشكل مسؤول.
– إذا حرمت المسكن أو العمل أو حرم الأهل دورهم في البيت أو المدرسة، أو حُرمت العناية الطبية الاساسية.
– إذا لم يلتزم المجتمع والسلطة السياسية في خدمة العائلة على هذه المستويات،
– إذا لم تعزز وسائل الإعلام احترام العائلة، أو لا تعبّر عن انتظاراتها وحقوقها، أو لا تبيّن جمالها ( رسالة البابا،5).
***
ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تتناول الخطة الراعوية، وفقاً لبرنامج الأمانة العامة للمجمع البطريركي الماروني، النص المجمعي السابع وعنوانه: ” الكهنة في الكنيسة المارونية: كهنوتهم وخدمتهم الراعوية، دعوتهم وتنشئتهم”. نعني بالخطة الراعوية أن الهيكليات الرعائية والجماعات الديرية والمنظمات الرسولية والعائلة وكل جماعة منظمة تلتقي أسبوعياً لتقبّل النص ولاتخاذ مبادرات تطبيقية.
- الكاهن إنسان ” أخذه الله من بين الناس، وأقامه لديه، من اجل الناس” (عبرايين 5/1). جوهر كهنوته وهوية خدمته ينبعان من كهنوت المسيح، الكاهن الأوحد والأعظم، والوسيط الوحيد بين الله والناس ( فقرة1). منوط به ” عمل النفوس وخدمة القداس وتقدمة الذبائح” (لفظة كاهن)، وكذلك ” خدمة الشعب وترؤس الجماعة ( لفظة قسيس من السريانية قشيشو). يُمنح الكهنوت بوضع اليد، أو الرسامة. هذا يعني الدعوة الإلهية وعطية الروح القدس ووقف الذات على الله والكنيسة (الفقرة 2)
- الكهنوت في طبيعته أنشأه الكاهن الأوحد والأبدي، يسوع المسيح، في شخصه لخدمة الشعب الكهنوتي الذي هو الكنيسة، بفضل المعمودية والميرون. يُسمى الكهنوت المسيحاني او البيعي. بدأه المسيح قبل الدهور، وأظهره بالرمز في خلق الإنسان الذي جبله الله ليرفع له التسبيح والشكر عن المخلوقات كلها، وسلّطه على الكون جاعلاً إياه كاهناً وحبراً وملكاً (الليتورجيا المارونية). إنه الكهنوت الطبيعي. ثم تممه المسيح بتجسده وموته على الصليب، وقد أصبح فيه “تقدمة قربان أو افخارستيا”، يقدّم ذاته قرباناً لأبيه فداءً عن البشر، ويمنحها لهم خبز حياة لخلاصهم. إنه الكهنوت الحق. يواصله، وهو عن يمين الآب، حيث يشفع لنا على الدوام (عبرانيين7/25). هذا الكهنوت وَكَلَه المسيح إلى الكنيسة عروسته بقوة الروح القدس. وهو يستمر فيها عبر الرسل والأساقفة خلفائهم الذين ينقلونه جيلاً بعد جيل إلى شمامسة وكهنة” (الفقرات3-5).
***
صلاة
أيها الرب يسوع في عرس قانا الجليل، حوّلت الماء إلى خمر، بتشفع مريم أمك الكلية القداسة، لتبيّن لنا أنك عريس البشرية: تلتقيك فتتغيّر وتتجدد وتملأها السعادة والفرح، وتغنيها بعطاياك، بفضل الأم السماوية الساهرة على أبنائها وبناتها المسافرين في بحر هذا العالم. أعطنا أن نفعل ما تقوله لنا في كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة والهامات الروح القدس. لقد استبقت عرس الخلاص بموتك فداءً عنا وبقيامتك لتبريرنا، وجعلته قائماً أبداً بتحويل الخبز والخمر إلى جسدك ودمك، ذبيحة الفداء ووليمة الحياة الإلهية فينا. نشكرك ربي، على نعمة الكهنوت الذي يقيم لنا هذا العرس الخلاصي مدى الدهور. لك المجد والشكر مع أبيك وروحك القدوس، الآن وإلى الأبد. آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post