أحد مدخل الصوم
الصوم زمن العبور الى حياة جديدة
عرس قانا الجليل 6 آذار 2011
روم 14/14-23
يوحنا 2/1-11
نفتتح اليوم زمن الصوم الكبير، ونبدأه غداً باثنين الرماد. فماذا يعني زمن الصوم، إلى ماذا ترمز رتبة الرماد؟ وماذا يقول لنا كلام الله في قراءات هذا الأحد.
أولاً، زمن الصوم
زمن الصوم هو اتباع يسوع في طريق التواضع والتشبّه به في قبول إرادة الله، وفي الانتصار على تجربة الشرير وروح الشر[1].
انفرد يسوع في برّية اليهودية في الصوم والصلاة ومحاربة تجارب الشيطان، أربعين يوماً، بعد قبوله المعمودية في نهر الأردن من يد يوحنا المعمدان. كل هذه الأيام الأربعين التي قضاها يسوع في الصمت والصوم، كانت له تسليماً كاملاً للآب ولتصميم حبّه. هذه كانت “معموديته” التي تعني الارتماء في إرادة الآب، مثل ” النزول في الماء” (الغطاس)، وبهذا المعنى هي استباق لآلامه وللصليب.
عيشه في البرّية لهذه المدة الطويلة يعني مواجهة المجرّب وهجوماته وحيداً بسلاح الصلاة والتواضع. هذا المجرّب أوقع آدم وحواء وتسبب بطردهما من الفردوس لعصيانهما الله. الطرد من الفردوس يرمز إلى الخروج من شركة الاتحاد والحب مع الله. فعل يسوع كل ذلك من أجل خلاصنا، بالطاعة الكاملة لمحبة الآب الرحيمة، الآب الذي ” هكذا أحب العالم، حتى جاد بابنه الوحيد” ( يو 3/ 16).
اتباع يسوع في ” برّية الصوم”، بالإصغاء لكلام الله والاغتذاء منه، وبالصلاة والصمت الداخلي، وبالانتصار على التجارب الشريرة، هو الشرط لقبول عطية الخلاص من الله، واستعادة شركة الاتحاد والحب معه، والمشاركة في ” فصحه” الذي هو عبور إلى الحياة مع الله.
زمن الصوم اذن زمن ليتورجي يدعونا في كل سنة لتجديد خيار اتباع يسوع في الصلاة والتقشف وسماع كلام الله والتواضع لنشارك في انتصاره على الخطيئة والموت.
أما رتبة الرماد، فهي علامة التوبة، وفعل تواضع أمام الله. أقرّ انا المؤمن ما انا عليه، خليقة سريعة العطب، مصنوعة من التراب وعائدة إلى التراب، لكنها أيضاً مخلوقة على صورة الله، ومرتّبة لتنطلق إليه. من تراب نعم، لكنها خليقة محبوبة، صنعها الحب الإلهي، ونفخ فيها نسمة الحياة. إنها قادرة على تمييز صوته والإجابة عليه. حرّة ولكن قادرة على معصيته بالسقوط في تجربة الكبرياء والاكتفاء الذاتي. هذه هي الخطيئة، معصية الله والنقص في محبته. في زمن الصوم يُدعى كل واحد منا ليطبّق على نفسه صلاة المزمور 50: ” أنا عارف بآثامي، وخطيئتي أمامي في كل حين. لك وحدك خطئت، والشرّ قدامك صنعت” ( مزمور 50: 5-6).
***
ثانياً، القراءات المقدسة
إنجيل القديس يوحنا 2/1-11.
قال يوحنا الرسول: في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: “لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر”. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: “مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!”. فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: “مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَاْفعَلُوه!”. وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: “إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً”. فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: “إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة”. فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا – وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون – فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: “كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!”. تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.
بدأ يسوع رسالته الخلاصية بحضور عرس في قانا الجليل، ليكشف من جديد قيمة الزواج وقدسيته، وكرامة العائلة ودورها، روحياً ككنيسة بيتية تصلي وتنقل الإيمان من جيل إلى جيل، وتربوياً كمدرسة طبيعية أولى تربي على العلم والمعرفة والقيم، واجتماعياً كخليّة اساسية للمجتمع تدرّب على نسج العلاقات بين الأشخاص على أساس من الحب والتفاني والاحترام. نقول ” يكشف من جديد”، لأنه أظهر ذلك أولاً بولادته وتربيته ونموه في عائلة يوسف ومريم في الناصرة.
ويريد بذلك ان تكون العائلة بأبعادها الثلاثة نموذجاً ومنطلقاً للعائلة المسيحية، بل لكل عائلة دموية، وبالتالي للعائلة الاوسع، على مستوى المجتمع والوطن.
ويريد فوق ذلك أن يستبق عرسه الخلاصي بافتداء البشرية جمعاء، واتحاده بالكنيسة عروسته. لقد استبق عرس الحمل الذي يدعو إليه كل من يؤمن به، وينفتح لعمله الخلاصي.ويتقدس بنعمته ويتجدد بروحه القدوس: ” طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل” ( رؤيا 19: 9).
حضوره برفقة أمه مريم الشفيعة والكلية القداسة وتلاميذه في عرس قانا، هو علامة لحضور الكنيسة في أساس الزواج وحياة العائلة، ومن خلال خدمة الكلمة ونعمة السّر المقدس يحضر الله بفعل روحه القدوس، ويقدس حبّ الزوجين وأعمالهم وافراحهم وأحزانهم، كما يقدّس الحياة العائلية. هذا يعني أن الزواج والعائلة وسيلة لتلبية الدعوة الشاملة إلى القداسة.
مريم، أم يسوع، وأمنا، تسهر على حاجات الحياة الزوجية والعائلية، وتتشفع لدى ابنها الإلهي من أجل تلبية هذه الحاجات: ” ليس عندهم خمر”. وتدعو الأزواج وأعضاء العائلة ليصنعوا بموجب كلام الإنجيل: ” افعلوا ما يقوله لكم”.
يسوع يحوّل بقدرته الإلهية الماء إلى خمر فائق الجودة، للدلالة أن عطاء الله كامل، ويفوق كل انتظاراتنا. لكنه بهذه الآية-العلامة استبق تحويل الخمر إلى دمه الفادي، في عرسه الخلاصي. هذا ما سيفعله في ذاك ” خميس الأسرار”، ليلة آلامه وموته، ويفعله هو إياه اسرارياً في القداس الإلهي، الذي هو استمرارية ذبيحة الفداء وليمة جسده ودمه لحياة العالم. من خلال هذا التحويل المزدوج يريد أن يحوّل حياة الإنسان من الداخل: ” ها أنا آتٍ لأصنع كل شيء جديداً” (رؤيا 21: 5).
إن الخمر الفائق الجودة الذي أبهج كل المدعوين إلى العرس يرمز إلى عطية الروح القدس، وهو محبة الله المسكوبة في قلب الزوجين. هذا الحب الإلهي يقدّس حب الزوجين ويطهرّه ويسنده ويقويّه، ويشركهما في عمل الخلق ونقل الحياة البشرية، بأبوة وأمومة مسؤولة، ويجعل منهما ” جماعة حب وحياة” على صورة الله الثالوث، متحدين برباط لا ينفصم مثل اتحاد المسيح بالكنيسة (افسس 5: 31-32).
في رسالة القديس بولس إلى أهل روما ( 14: 14-23)، التي تقرأها الكنيسة في هذا الأحد، تذكرنا بأننا بالمعمودية والميرون ننتمي إلى ملكوت المسيح المعروف بملكوت الله، الذي يبدأ في الكنيسة، ويكتمل في ملكوت السماء. هذا الانتماء يتعدى الأكل والشرب، ليكون التزاماً في الخير والسلام والفرح في الروح القدس. من يفعل ذلك إنما يخدم المسيح، ويكون مرضيّاً لدى الله، ومقبولاً لدى الناس.
***
ثالثاً، عائلة جماعة المؤمنين [2]
زمن الصوم مناسبة لتجديد الحياة الزوجية والعائلية في قدسيتها وكرامتها ورسالتها، ومناسبة أيضاً لبناء العائلة الاجتماعية بعناصرها الأربعة، على مثال الجماعة المسيحية الأولى، كما يصفها كتاب أعمال الرسل:
” كان جماعة المؤمنين مواظبين على سماع تعليم الرسل، والشركة الأخوية وكسر الخبز والصلاة” ( اعمال 2: 42).
العنصر الأول تعليم الرسل، أي ما يختص بسرّ يسوع المسيح: حياته ورسالته وموته وقيامته. هذا ما يسمّيه بولس الرسول ” الإنجيل” أي الخبر السّار. الجماعة المسيحية مدعوة لسماع هذا التعليم الذي تنقله الكنيسة، والذي يجمع المؤمنين ويوحدّهم.
العنصر الثاني الشركة الأخوية، وهي وحدتهم الروحية التي يعبّرون عنها بتقاسم خيرات الدنيا مع المحتاجين والفقراء، ” فلم يكن بينهم محتاج” (اعمال 2: 42-45). الشركة والتقاسم هما أساس الأخوّة بين الناس والصداقة والمودّة. الشركة هي أولاً الاتحاد بالله عبر الإيمان، ووحدة مع جميع الناس، وتقاسم خيرات الدنيا مع الأخوة الفقراء.
العنصر الثالث كسر الخبز الذي هو ذبيحة القداس، حيث يسوع يهب ذاته لحياة المؤمنين: ” هذا هو جسدي يُبذل من أجلكم. هذا هو دمي يراق من أجلكم”. الكنيسة بكل أبنائها وبناتها تعيش من الأفخارستيا.
العنصر الرابع الصلاة، هو موقف المؤمنين بالمسيح الذي يرافق حياتهم اليومية بالطاعة لإرادة الله، عملاً بدعوة بولس الرسول: ” كونوا فرحين دائماً، وصلّوا من دون انقطاع، وارفعوا الشكر لله عن كل شيء. هذه هي مشيئة الله نحونا بالمسيح يسوع ( اتسا5: 16-18). الصلاة هي موقف الأبناء تجاه الآب السماوي الذي ينفتح على الأخوّة مع جميع الناس. الصلاة المسيحية مشاركة في صلاة يسوع، واختبار بنوي بامتياز.
على هذه العناصر الأربعة يقوم أيضاً زمن الصوم، بالإضافة إلى ممارسة الصيام والتقشف.
***
رابعاً، اتباع يسوع في درب صليبه
في كل يوم جمعة من زمن الصوم نتذكر آلام يسوع الخلاصية ونتبعه في درب صليبه، لالتماس الغفران، ونضمّ آلامنا إلى آلامه تعويضاً وتكفيراً عن خطايانا، ومن اجل تواصل آلام الفداء لخلاص العالم. في كل أسبوع نتأمل في مرحلتين من مراحل درب الصليب.
المرحلة الأولى، يسوع محكوم عليه بالموت
حكم رؤساء اليهود على يسوع بالموت لأنه قال عن نفسه أنه ابن الله، وادّعى أنه ملك هذا العالم، ملك اليهود، ” هو الذي مرّ يعمل الخير” (اعمال 10: 38). لكن الإنجيل والكتب المقدسة تقول أنه مات من أجلنا، ولأن الله احبنا حتى أنه جاد بابنه الوحيد لكي تكون لنا الحياة (يو 3: 16-17). فلنوجّه أنظارنا إلى خطايانا وإلى الله الغني بالرحمة الذي يسمّينا أحباءه (يو 15: 15). درب الصليب هو درب حياتنا المطبوع بالتوبة والآلم وعرفان الجميل لله، درب الإيمان والفرح.
المرحلة الثانية، يسوع يحمل صليبه
بعد الحكم عليه بالموت من قلوب متحجرة، كان الإذلال والشتم والسخرية. من المؤسف أن الآلاف من صفحات تاريخ البشر ملاءى بمثل هذه المظالم. إن كل تحقير وإذلال وتعذيب لأي إنسان هو إعادة لما جرى ليسوع، البريء والقدوس: ” كل ما فعلتم لإخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه” ( متى 25: 40). درب الصليب التماس للغفران عن كل الإساءات، وتجديد للعزم على تجنّبها والكفّ عنها.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، اجتذبنا، في زمن الصوم الذي نبدأه، لنتبعك على طريق التواضع والتوبة، متشبهين بك في قبول إرادة الله، وفي الانتصار على تجارب الشرير وعلى روح الشّر. وليكن غذاؤنا الأساسي، كلام الحياة الذي يملأ نفوسنا رجاء بك، ويغني عقولنا وقلوبنا من حقيقتك، فتفتحها على آفاق جديدة ورؤية جديدة ومسلك جديد. قدّس بكلمتك ونعمتك وحلول روحك القدوس الأزواج والعائلات، واحفظ الأسرة كنيسة بيتية للصلاة والإيمان، ومدرسة طبيعية للقيم، وخليّة حيّة للمجتمع. وأنتِ يا مريم، اسهري على الحياة الزوجية والعائلية، وتشفعي من أجلها، وألهمي الأزواج والآباء والأمهات وأولادهم ليعملوا بما يطلب منهم الرب في الإنجيل والكنيسة في تعليمها، فتتحقق رغباتك ورغبات القلب الإلهي. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
***
[1]. افكار مستوحاة من عظة البابا بندكتوس السادس عشر، الاربعاء 17 شباط 2010 في كنيسة القديسة سابينا روما.
[2]. الافكار مستوحاة من خطاب البابا بندكتوس السادس عشر، في مقابلة الاربعاء 19 كاتنون الثاني 2011.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post