الأحد الأول من الصوم
شفاء الأبرص
إنجيل القديس مرقس1/40-45
آية شفاء الأبرص تدلّ على أن الصوم الكبير مسيرة تغيير مثلث. في العلاقة مع الذات والله والناس. فالأبرص طُهر من برصه مسترجعاً جمال طبيعته البشرية، وتصالح مع الله مقدماً قربان التكفير، وعاد إلى حياة الشركة مع الجماعة. بالصوم والتقشف وسماع كلام الله نهذّب الذات؛ وبالصلاة والتوبة نرمّم علاقة البنوة والبرارة مع الله؛ وبأفعال المحبة والرحمة نشدد أواصر الأخوّة مع من هم في الحاجة. والصوم زمن الخلاص الشامل نبلغ إليه بالعبور الفصحي من قديم الى جديد، بدفق محبة الآب وفعل نعمة الابن، وحلول الروح القدس، كما جرى للأبرص.
أولاً، شرح النص الإنجيلي
1- البرص علامة الخطيئة
البرص مرض جلدي يظهر بقروح تتآكل الجسم البشري وتشوهه. وهو بحسب الشريعة اليهودية نجاسة وعقاب إلهي لخطيئة المصاب، لذلك يُنبذ من الجماعة لحين شفائه وتطهيره الطقسي الذي يستلزم تقدمة التكفير عن خطيئته. وقد نظم سفر الأحبار حالة البرص، إعلاناً، وشفاءً، وتكفيراً: يطّلع الكاهن على حالة المصاب ويعلن وجود البرص، فيحكم بنجاسة الأبرص، ويلزمه بالإقامة منفرداً بعيداً عن الجماعة في القفر، فتكون ثيابه ممزقة، وشعره مهدولاً، وينادي بالمارّة: “نجس!ّ” لكي يتجنبوه، لأن من يمسه يكون نجساً مثله ( احبار 13/11 و45-46).
هذا الأبرص، عندما سمع بيسوع ورآه، تجاسر واقتحم الجماعة مخالفاً الشريعة وسقط على قدميه متوسلاً الشفاء، بإيمان واعٍ وأكيد: ” إذا شئت، فأنت قادر أن تطهرني” ( مر1/40). وبالمقابل تجاسر يسوع، بفيض من الرحمة والحنان، فمدّ يده ولمسه، متجاوزاً الشريعة، ولبى مطلبه قائلاً: ” شئت، فاطهر! ” فزال برصه وطهر لساعته. وهكذا اتخذت الشريعة معناها وروحها، لأنها هي للإنسان، لا الإنسان للشريعة، وإلا اصبحت حرفاً يقتل، بينما ينبغي أن تكون روحاً يحيي ( 2 كور3/16). بهذا المعنى قال الرب يسوع: ” كلامي روح وحياة” (يو6/63).
وقضت شريعة اللاويين أن يؤتى بالأبرص، الذي يشفى، إلى الكاهن الذي يخرج لملاقاته خارج محلة الجماعة. فإذا رأى أن الأبرص قد برىء، أمره بتقديم قربان التكفير عن خطيئته، كما يرسم سفر الأحبار (الفصل 14). لذلك قال يسوع للأبرص بعد أن طهرّه: ” اذهب أولاً إلى الكهنة، وأرهم نفسك، وقدّم القربان عن طهرك، كما أمر موسى (مر1/43). يسوع يخضع كلياً للشريعة ويكمّلها، على ما أكدّ يوماً: ” لا تظنوا أني أتيت لأحلّ الناموس أو الأنبياء، ما اتيت لأحلّ، بل لأكمل” ( متى5/17).
البرص علامة الخطيئة، وتهديد لكل شعب يعصي الله، على ما جاء في سفر تثنية الاشتراع: “اسمع يا شعبي، يقول الله، إن لم تسمع لصوت الرب إلهك، حافظاً وصاياه، ولم تعمل بها… يضربك الرب بقروح البرص، وبالجنون والعمى وحيرة القلب، فتتلمّس في الظهيرة، كما يتلمس الأعمى في الظلمة، ولا تنجح في سبيلك، وتكون مستعبداً ومسلوباً طول أيامك، وليس لك مخلص” ( 28/15، 27-29).
إن يسوع المسيح، لكي يشفي الجنس البشري من برص الخطيئة، تعاطف معه، فصار إنساناً، وحمل خطيئة الإنسان برحمته، من دون أن يرتكب خطيئة شخصية واحدة، ودفع ثمن خطايا جميع الناس، وافتداهم بتقديم ذاته ذبيحة على الصليب، متروكاً من الجميع. عنه تنبأ اشعيا: ” لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. مزدرى ومتروك من الناس، رجل أوجاع… فلم نعبأ به. لقد حمل آلامنا، واحتمل أوجاعنا فحسبناه ذا برص، مضروباً من الله ومذللاً، طعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا، نزل به العقاب من أجل سلامنا وبجرحه شفينا” ( اشعيا 53/2-5).
التطهير من البرص أصبح في الإنجيل من العلامات المسيحانية. عندما أرسل يسوع الاثني عشر أعطاهم السلطان لتطهير البرص، وإعلان إقتراب ملكوت السماوات ( متى10/8). وعندما أرسل يوحنا بعثة إلى يسوع تسأله : أانت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ أجرى معجزات شفاء أمامهم وقال: قولوا ليوحنا: العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون… وطوبى لمن لا يشك فيّ” ( متى 11/15-16). هذه شهادة لظهور ” سرّ التقوى” أي سرّ المسيح، في تعبير بولس الرسول، الذي ظهر في الجسد البشري، وصار باراً بفعل الروح القدس، وقدّم ذاته عمّن ليسوا أبراراً، وأعلن عنه أنه حامل الخلاص، وآمن الكل به في العالم أنه مرسل من الآب، وأن الآب عينه أصعده إلى السماء كرب” ( اتيمو 3/15-16). يسوع المسيح هو ” سرّ التقوى العظيم” الذي يغلب خطيئة الإنسان التي هي “سرّ الإثم”، وينتصر عليها، ويدمّرها، ويندرج في دينامية التاريخ ليطهره من برصه، وينفذ غلى أعماق الإثم الخفية ليبعث في نفوسنا حركة ارتداد ويوجهها إلى المصالحة مع الله والذات والناس. فالمسيح الراعي الصالح وقدرّه الله هو رجاؤنا (الارشاد الرسولي ” رجاء جديد للبنان”).
الرب يسوع الذي افتتح رسالته العامة بتحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، هو وحده يستطيع أن يحوّل النجاسة إلى حالة طهارة، والخطيئة والشر إلى حالة نعمة وخير. إنه فادي الإنسان الذي تتجلى فيه رحمة الله، وهو طبيب الأجساد والأرواح، يواصل الشفاء بواسطة الكنيسة وخدمة الكهنة، بكلمة الإنجيل ونعمة الأسرار. الفداء عملية تحرير بامتياز للإنسان، وبواسطته للتاريخ البشري وللشعوب من عبودياتهم، فينعكس مجد الله في العالم ( مذكرة مجمع عقيدة الايمان: الحرية المسيحية والتحرر، 3 و33).
2. البرص الاجتماعي والخلقي والسياسي
لا يقتصر البرص على المرض الجلدي، بل يتعداه إلى المستوى الروحي بالخطيئة وإلى كل من المستوى الاجتماعي والخلقي والسياسي.
أ-فاجتماعياً، ثمة أناس عديدون منبوذون ومهمشون في قلب عائلاتهم، وكأنهم مصابون ببرص يفصلهم عن الجماعة: المرأة عن زوجها، أو الرجل عن زوجته، وربما أولاد عن والديهم أو والدون عن أبنائهم وبناتهم. وهناك منبوذون ومهمشون في حيّهم وبلدتهم ومجتمعهم، فلا احترام لهم، ولا دور في الحياة العامة لأسباب عائلية اوسياسية. وهناك فقراء ومرضى ومعاقون ومسنون متروكون ومهملون. الحاجة كبيرة إلى إحياء شركة الأشخاص وتقاسم الخيرات، لكي يكون المجتمع أكثرإنسانية وإنصافاً وعدلاً.
يسوع لم يلتق الأبرص صدفة. بل قصده إلى محيطه، حيث يعيش بعيداً عن الجماعة. حمل إليه إنجيل رحمته وحنانه ومحبته. هذا المنبوذ أصبح شاهداً له ورسولاً، إذ راح ينادي عالياً ويذيع الخبر ( مر1/45). لقد ” اختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار جهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الوضيعة احسابهم في العالم والمنبوذين والذين ليسوا بشيء ليبطل المعدودين، لكي لا يفتخر بين يديه كل ذي جسد” (1كور1/27-29). هؤلاء يريد يسوع أن نقصدهم ونشهد لمحبته ورحمته وعنايته بهم: ” كل مرة فعلتم ذلك إلى أحد اخوتي الصغار فإلي فعلتموه” (متى25/40). الصوم هو زمن إنجيل الرحمة والمحبة. على هذا الإنجيل سندان: “جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني…” (متى25/41-42). يتماهى يسوع مع الإنسانية المتألمة والمعذبة في جسدها وروحها ومعنوياتها، ويجعل نفسه مرئياً فيها، ويريدها طريقاً إليه في مجده.
ب- خلقياً، تتشوه كرامة الشخص البشري بعادات وأفعال منحرفة ، وكأن البرص تآكل ضمير الإنسان وقلبه، مثل: السرقة، الرشوة، الغش في التجارة، استغلال جهل الغير أو عوزه لرفع الأسعار بغية جني الأرباح، اغتصاب إيرادات الدولة والمجتمع والاستئثار بها، التزوير في تأدية الضرائب والسندات والبيانات المالية، التنفيذ العاطل والناقص للأعمال العامة، البذخ في المعيشة وتبذير المال دونما اعتبار للمعوزين، التسلط واستعباد الناس وبيعهم وشراؤهم كما لو كانوا سلعة (تألق الحقيقة،100).
إننا بحاجة الى ذهنيات جديدة تعكس ” حضارة المحبة”. نحتاج إلى أشخاص يميزون بين الخير والشر، ولا يضعون مصالحهم وضعفهم الخلقي مقياساً للخير، ولا يعذرون ذواتهم فيتخلون عن التماس معونة الله ونعمته بتوبة صادقة. إن أصحاب العادات والأفعال المنحرفة يفسدون أخلاقية المجتمع كله، ويشككون في حقيقة الشريعة الأخلاقية، ويتنكرون لوصايا الله الناهية. يحتاج مجتمعنا إلى أشخاص أحرار لا ينقادون إلى شهواتهم بل يعيشون نعمة الفداء، ويتحلون بفضائل يقوم عليها الشأن الاقتصادي والاجتماعي السليم مثل: فضيلة القناعة لكبح جماح جشع التمتع بخيرات الأرض، وفضيلة العدالة لاحترام حقوق القريب وإعطائه ما يحق له وتأمين سائر الأوضاع والظروف والسبل لعيشه الكريم ونموه الشخصي، وفضيلة التضامن الإنساني التي تتحمل المسؤولية تجاه الآخر وترفعه من حاجته وكبوته (المرجع نفسه،100، 103، 104).
ج- سياسياً، نشهد برصاً يشوه كرامة السلطة السياسية، فتنحرف عن مبرر وجودها، أي خدمة الخير العام الذي يؤدي إلى خير كل إنسان وكل الإنسان. هذا البرص يتآكل روح المسؤولية والضمير، ويصل بالمواطنين إلى أوخم النتائج: إلى العوز الاقتصادي والبؤس الاجتماعي، وألى امتهان كرامتهم وقهرهم بحرمانهم حقوقهم.
نشهد في لبنان موت المسؤولية السياسية وتخلفها عن تنظيم وتأمين مقتضيات الحياة العامة، كما نشهد فقدان القرار السياسي. فالوزارات تحتاج إلى قرار سياسي لتنفيذ ما ترسم من مشاريع انمائية ووقائية، والبلديات تحتاج إلى قرار سياسي يعطيها الصلاحيات ويحقق مشروع اللامركزية ويسلمها مالها لتتولى مسؤولياتها، والمحافظات تحتاج إلى قرار سياسي يمكنها من أخذ التدابير اللازمة دونما تقيد بحسابات النافذين وسلطات الأمر الواقع؛ والمواطنون بحاجة إلى قرار سياسي لينعموا بتوزيع عدالة القانون دونما حماية لأحد بداعي المحسوبيات؛ بل الوطن كله بحاجة إلى قرار سياسي يحميه من تعطيل مقدراته ومؤسساته. فأين الحكم والحكومة من مسؤوليتهم في اتخاذ هذا القرار السياسي؟
إن الرجاء بالمسيح والكنيسة والإرادات الطيبة اكبر من موت الضمائر ومن مرض البرص، كما يعلمنا إنجيل اليوم.
من أجل الذين يعانون من ” برص” ما، ومن أجل كل ضحاياه، نتوسل إلى فادي الإنسان بإيمان وباستحقاقات الذين يعيشون زمن الصوم صياماً وتوبة وأفعال رحمة: ” يا رب إن شئت، فأنت قادر على أن تطهرنا”.
ثانيا، الخطة الراعوية
في ضوء ما ترمز إليه آية شفاء الأبرص، وقد أدركنا ان البرص يتعدى الإطار الحسي ليشمل المستوى الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، فإن الخطة الراعوية لهذا الأسبوع ترتكز على البعدين العائلي والاجتماعي.
يعيش أناس على مستوى العائلة والمجتمع نوعاً من النبذ والتهميش. فتقضتي الخطة الراعوية العمل بتوصيات المجمع البطريركي الماروني وهي:
1- مساعدة العائلات على قبول حالات الإعاقة فيها، وتعزيز المراكز المتخصصة للعناية بالمعوقين، وصون كرامتهم الإنسانية، ومساعدتهم على الاندماج في حياة الكنيسة والمجتمع باتحاد دورهم فيهما. في الواقع، تعاني بعض العائلات من نظرة المجتمع السلبية وعدم الاهتمام، بسبب إصابة أحد أفرادها بإعاقة، يجعلها وحيدة في مواجهة واقع يتخطى قدرتها، وفي حمل عبء يرهق العائلة عاطفياً ومعنوياً ومادياً، ويهدد وحدتها وسلامتها (النص المجمعي العاشر: في العائلة، 39؛ التوصيات).
لا بد من اتخاذ مبادرات على صعيد الرعية والمنظمات الرسولية والجماعات العائلية لمساعدة هذه العائلات، وبهذا يشهد الجميع أن كرامة الإنسان ليست بسلامته الجسدية وقدرته على الإنتاج وحسب، بل وخاصة بمشاركته في آلام الفداء وفي غنى نفسه وقلبه.
2- تعزيز راعوية الحالات الشاذة في بعض العائلات، التي توقع أفرادها في نوع من العزلة والنبذ والتهميش. إنها حالات التفكك العائلي من جراء انفصال الزوجين والهجر، واللجوء إلى طوائف اخرى سعياً وراء الطلاق، وانحلال الرابطة الزوجية، ووقوع النتائج الوخيمة على الأولاد (النص العاشر: في العائلة،40).
تقتضي الخطة الراعوية أن تتولى القوى الحية في الرعية العناية بهذه الحالات بحكم التضامن والشركة التي تربط أعضاء جسد المسيح السرّي، بالعمل على تقريب وجهات النظر، والمساعدة على إزالة الأسباب، والتشجيع على ما في المصالحة من نبل وكبر في النفس، والتذكير بأن المغفرة والاستغفار هما من شيم الكبار. فالعهد الزوجي الذي قطعه الزوجان لا يقتصر عليهما وحدهما، بل هو عهد ايضاً مع الله بتجسيد حبّه وعنايته ورحمته، وعهد مع التاريخ البشري بنقل الحياة البشرية وتربيتها وإعالتها بكرامة وسعادة، وبتوفير جوٍ من الدفء العاطفي بين الوالدين، مع الاستقرار في العلاقات بينهما وبين الأولاد، من أجل أن تكون العائلة حقاً المدرسة الطبيعية الأولى للتربية على الحب والحوار والتعاضد والتفاني، والمجال الأساسي للانفتاح على المجتمع بروح الاتزان والنضج العاطفي.
3- ويوصي المجمع البطريركي بمواجهة التحدي المطروح على الكنيسة اليوم، بمؤسساتها ورعاياها وعائلاتها الملتزمة، وهو إعداد راعوية خاصة لتنشئة الشبيبة على مفهوم سرّ الزواج، ومرافقة العائلات الناشئة عن قرب للحدّ من أخطار التفكك والتنابذ والتهميش (النص 10: في العائلة، 41).
صلاة
يا رب، اله الجودة والرحمة، انظر إلى العائلة المحاصرة اليوم من كل جانب، كيف تفقد الإيمان والتقوى والتقاليد الروحية. ساعدها، فإنها عمل يديك، واحمِ فيها الفضائل الزوجية والعائلية التي تضمن لها الاتفاق والسلام. تعال وابعث رسلاً للأزمنة الجديدة، مؤمنين ومؤمنات ورعاة، يدعون باسمك الأزواج إلى الأمانة، والوالدين إلى ممارسة سلطتهم النابعة من حبك ورحمتك، والأولاد الى الطاعة، والبنات الى التواضع، والعقول والضمائر إلى محبة البيت الذي باركته يمينك. وعندما تترمم العائلة المسيحية بيسوع المسيح، على مثال عائلة الناصرة، فلتستعِدْ هذه العائلة وجهها: ليعّدْ البيت هيكلاً مقدساً للحب والحياة، ولتشتعل فيه شعلة الإيمان، وليحتمل المصاعب بصبر، ويقبل البحبوحة باعتدال، ويرتّب كل شيء بانتظام وسلام. إلى عنايتك نكل العائلة، يا رب، فتصير واحة الفضائل ومدرسة الحكمة والحب. وتصبح واحة في متاعب الحياة، وشهادة لمواعيد المسيح. وهكذا ترفع أمام العالم المجد لك ولابنك الوحيد، وتنشد بالروح القدس مع كل أعضائها آيات التسبيح إلى أبد الأبدين، آمين! ( صلاة البابا بيوس الثاني عشر).
Discussion about this post