شفاء الأبرص
التحرر من عبودية الخطيئة
الأحد الثاني من الصوم
روم 6/12-23
مر 1/25-45
سميّنا الصوم الكبير ” زمن التغيير” في باطن الإنسان وفي علاقته مع الله والذات والناس. كانت علامة التغيير آية تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، اجترحها الرب يسوع للدلالة إنه قادرعلى تغيير الإنسان في جوهره الداخلي بقوة الإنجيل ونعمة الأسرار وفعل الروح القدس.
رسالة بولس الرسول لهذا الأحد تدعونا الى التحرر من الخطيئة والعيش في حالة النعمة. هذا التحرر هو تغيير في النفس والقلب. فالخطيئة تؤول إلى الموت، والنعمة إلى الحياة الأبدية في المسيح.
آية شفاء الأبرص التي يرويها الإنجيل علامة خارجية للشفاء من البرص الداخلي الذي هو الخطيئة. فكما البرص يتآكل جلد الإنسان ويشوهه ويصبح مرضاً معدياً، ويؤدي إلى الموت الحسي، كذلك الخطيئة تتآكل العقل والإرادة والقلب والضمير، وتشوّه صورة الله في الإنسان، وتفسد أخلاق الآخرين، وتؤدي إلى الموت الروحي والهلاك الأبدي.
أولاً، عام القديس بولس، شرح الرسالة والإنجيل
1- رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية 6/12-23
إِذًا فَلا تَمْلِكَنَّ الـخَطيئَةُ بَعْدُ في جَسَدِكُمُ الـمَائِت، فَتُطيعُوا شَهَوَاتِهِ. وَلا تَجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاَحَ ظُلْمٍ لِلخَطِيئَة، بَلْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُم للهِ كَأَحْيَاءٍ قَامُوا مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، واجْعَلُوا أَعْضَاءَكُم سِلاحَ بِرٍّ لله. فلا تَتَسَلَّطْ عَلَيْكُمُ الـخَطِيئَة، لأَنَّكُم لَسْتُم في حُكْمِ الشَّرِيعَةِ بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة. فَمَاذَا إِذًا؟ هَلْ نَخْطَأُ لأَنَّنَا لَسْنَا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، بَلْ في حُكْمِ النِّعْمَة؟ حَاشَا! أَلا تَعْلَمُونَ أَنَّكُم عِنْدَمَا تَجْعَلُونَ أَنْفُسَكُم عَبيدًا لأَحَدٍ فَتُطيعُونَهُ، تَكُونُونَ عَبيدًا للَّذي تُطيعُونَه: إِمَّا عَبيدًا لِلخَطِيئَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى الـمَوت، وإِمَّا لِلطَّاعَةِ الَّتي تَؤُولُ إِلى البِرّ. فَشُكْرًا للهِ لأَنَّكُم بَعْدَمَا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطيئَة، أَطَعْتُم مِنْ كُلِّ قَلْبِكُم مِثَالَ التَّعْلِيمِ الَّذي سُلِّمْتُمْ إِلَيْه. وَبَعْدَ أَنْ حُرِّرْتُم مِنَ الـخَطِيئَة، صِرْتُم عَبيدًا لِلبِرّ. وأَقُولُ قَوْلاً بَشَرِيًّا مُرَاعَاةً لِضُعْفِكُم: فَكَمَا جَعَلْتُم أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ في سَبِيلِ الإِثْم، كَذـلِكَ اجْعَلُوا الآنَ أَعْضَاءَكُم عَبيدًا لَلبِرِّ في سَبيلِ القَدَاسَة. فَلَمَّا كُنْتُم عَبيدَ الـخَطِيئَة، كُنْتُم أَحْرَارًا مِنَ البِرّ. فأَيَّ ثَمَرٍ جَنَيْتُم حِينَئِذٍ مِنْ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتي تَسْتَحُونَ مِنْهَا الآن؟ فإِنَّ عَاقِبَتَهَا الـمَوْت. أَمَّا الآن، وقَدْ صِرْتُم أَحراَرًا مِنَ الـخَطِيئَةِ وعَبيدًا لله، فإِنَّكُم تَجْنُونَ ثَمَرًا لِلقَدَاسَة، وعَاقِبَتُهَا الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّة. لأَنَّ أُجْرَةَ الـخَطِيئَةِ هِيَ الـمَوت. أَمَّا مَوْهِبَةُ اللهِ فَهيَ الـحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ في الـمَسيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.
يتكلم بولس الرسول عن عملية التحرير من عبودية الخطيئة والعيش في حالة النعمة التي هي حرية أبناء الله. هذا التحرير تمَّ بالمعمودية التي هي موت عن الخطيئة وقيامة إلى الحياة الأبدية بالمسيح. فصارت حياة المسيحي سعياً دائماً إلى هذا التحرر بتعليم الكنيسة الذي سُلّم اليه. فبمقدار ما يعيش الإنسان في نور الحقيقة ويصنع الخير، يصير أكثر حرية. لا توجد حريّة حقيقية إلا في خدمة ما هو خير وعدل. خيار فعل الشر هو إفراط في الحرية ويقود إلى “عبودية الخطيئة” (الآية 17) ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1733).
التحرير هو في جوهره تغيير في نفس الإنسان وفي مسلكه الجسدي، فيغيّر أعضاء جسده من وسيلة للخطيئة إلى وسيلة للخير (الآية 13). لكن هذا التغيير الخارجي إنما هو نتيجة التغيير في النية والقلب. النفس الجميلة تجمّل الجسد، والقبيحة تفسده: ” إن جذور الخطايا تكمن في قلب الإنسان” (المرجع نفسه،1873).
الخطيئة بحدّ ذاتها تجرح طبيعة الإنسان والتضامن البشري، لأنها إساءة للعقل والحقيقة والضمير المستقيم. ولأنها كذلك فهي إساءة لله: ” لك وحدك خطئت، والشر قدامك صنعت” (مز51/4). إنها نقص في محبة الله ومحبة القريب. بل هي ضد محبة الله لنا. وتبعد قلبنا عنه، وتعصاه، وتسعى ” لتكون مثل الله” ( تك3/5) في سلطة الأمر والنهي (المرجع نفسه،1849-1850).
إن يسوع المسيح الذي ” شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة” (عبرانيين 4/15)، هو الإنسان المثالي. إليه يتوق الإنسان بعيش سرّ الصليب والفصح، كسرّ عبور من الانطواء على نفسه وانانيته، ومن إثبات ذاته، إلى الانفتاح على الله. يجد الإنسان نفسه في تجاوز ذاته. والحال أن يسوع هو الإنسان الذي تجاوز نفسه كلياً، و” أخلى ذاته”، فوجد نفسه حقاً، إذ ” رفعه الله وأعطاه اسماً يفوق كل الأسماء…” ( فيليبي2/6 و9)[4].
مَسَحَ المسيح إساءة الإنسان اللامتناهية لله بموته على الصليب، وجعلنا بقيامته “تحت حكم النعمة” ( روم6/14). ذلك أننا وُلدنا من جنبه المطعون بالحربة وقد ” جرى منه دم وماء” ( يو19/34) يمثلان سرَّي العماد والقربان، اللذين منهما يولد الإنسان، وتتكون جماعة المؤمنين التي هي الكنيسة.
” جنب يسوع المفتوح” جعل وجود يسوع منفتحاً كلياً على كل إنسان ليجتذبه إليه إنساناً جديداً، إنسان المستقبل، إنسان التضحية والانفتاح والعطاء. أن مستقبل الإنسان متعلّق بالصليب، وخلاصه هو الصليب. ولن يجد الإنسان نفسه ما لم ” ينظر إلى ذاك الذي طُعن” ( يو 19/37)[5].
هذه هي عملية التحرير بالمسيح، لاستعادة بهاء صورة الله في الإنسان.
2- آية شفاء الأبرص عملية تحرير ( مرقس1/25-45).
يسوع المنفتح على الآخر اجتذب الأبرص إليه. وهذا التمس منه أن يحرره من برصه. فكان له ما طلب. شفاه يسوع من برص جسده، ليبيّن لنا أنه وحده قادر على شفائنا من برص النفس والعقل والإرادة والقلب الذي هو الخطيئة، وأنه وحده قادر أن يعيد إلينا بهاء صورة الله.
ظلله بالرحمة الإلهية ” فأشفق عليه ومدّ يده ولمسه وقال: قد شئت فأطهر” (مر1/41).
الصوم هو زمن الانفتاح على المسيح: يجتذبنا الى التوبة والتماس الغفران. نقف أمامه، مثل الأبرص، بكل حالة برص النفس. يده التي تلمسنا هي كلمة الحياة ونعمة سرّ التوبة والقربان، بواسطة يد الكاهن.
نقف أمامه بعقل شوهته الخطيئة فانحرف عن أنوار الحقيقة المطلقة وجنح إلى الكذب والاحتيال والازدواجية؛ وبإرادة انحرفت عن حب الله والناس، ومالت إلى الشر والظلم والاستبداد؛ وبحرية مالت إلى الاستعباد للذات وللنزوات، ولأشخاص بشريين، ولإيديولوجيات.
والمسيح، بواسطة خدمة الكاهن، يغفر خطيئتنا ويطهرنا ويعيد إلينا جمال صورة الله، ويعود بنا إلى الشركة مع الله والناس. وهذا ما عناه يسوع عندما قال للأبرص: ” اذهب إلى الكاهن، وأرِه نفسك للشهادة”. الغفران يأتي من الله بواسطة خدمة الكاهن الذي يعمل باسم الله الثالوث. قال الطوباوي اسحق: ” إن الكنيسة لا يمكنها أن تغفر شيئاً من دون المسيح. والمسيح لا يريد أن يغفر شيئاً من دون الكنيسة. لا يمكن الكنيسة ان تغفر شيئاً إلا لمن يتوب أي لمن مسّه المسيح أولاً. والمسيح لا يريد أن يمنح مغفرته لمن يحتقر الكنيسة[6].
بفعل تواضع يقرّ الخاطي بخطاياه أمام الكاهن ملتمساً الغفران، كما فعل الأبرص أمام المسيح.
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص البشري[7]
كرامة الكائن البشري
لكل كائن بشري كرامته وقيمته، وهما تتحدران من الزواج كثمرة حب نابع من الله ومسكوب في قلب الوالدين، وتُحاط وتُحترم في إطار العائلة. لقد أسس الله الزواج بحكمته وعنايته، ليحقق في البشرية تصميم حبه. فيما يتبادل الزوجان هبة الذات الشخصية والخاصة والاستئثارية، في شركة الأشخاص التي بها يتكاملان، إنما يعاونان الله في خلق حياة جديدة في تربيتها. فإذا بكلمة “نعم” لشركة الحياة الزوجية، تتواصل لتكون ” نعم” لحياة جديدة تولد منهما بكل مسؤولية وحب. كرامة الكائن البشري تأتي من كون نقل الحياة مكتوباً في الطبيعة، أما شرائعه فتبقى بمثابة قاعدة غير مكتوبة بالأحرف ينبغي التقيد بها (الفقرة 6).
كرامة الكائن البشري تأتي أيضاً من كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله (تك1/26)، ومن كون ابن الله صار بشراً ( انظر يوحنا 1/14)، وضمّ الطبيعة البشرية إلى إلوهيته في وحدة شخصه. وهكذا بتجسده أكّد من جديد كرامة الجسد والنفس اللذين يكوّنان الكائن البشري. فلم يحتقر المسيح الجسد البشري بل كشف معناه وقيمته. “فقط في سرّ الكلمة المتجسد ينجلي سرُّ الإنسان”[8].
وإذ صار الابن واحداً منا، فقد أعطانا أن نكون نحن ” أبناء الله” (يو1/2) و”مشاركين في الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1/4). رفع هكذا كرامة الحياة البشرية إلى شرف القُدسية. فانكشف تدبير حبه وحكمته في أنه أراد أن يكون الناس ” على شبه صورة ابنه الوحيد” ( روم8/29) (الفقرة 7).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي الثالث عشر: ” الرعية والعمل الراعوي”، دور كاهن الرعية (الفقرات 30-40).
كاهن الرعية عطية الله لشعبه، حسب وعده على لسان ارميا: “واعطيكم رعاة على وفق قلبي” ( ارميا3/5). فكان الراعي الصالح بامتياز يسوع المسيح (يو10/11؛ عبرانيين13/20).
1- يقوم الكاهن بعمل الرعاية باسم المسيح وبقوة الروح القدس، فهو الذي وكّل اليه رعاية شعب الله، رعاية الراعي لخرافه ( انظر يو21/15-17؛ 1بطرس5/2). هو الروح القدس، الذي وُسم به الكاهن، يصورّه على صورة يسوع المسيح الكاهن والراعي الصالح. حضوره في الرعية امتداد للمسيح الراعي الأوحد والأعظم، متشّبهاً بنمط حياته، عاكساً صورته بشفافية. اما الثمار الروحية فهي من عمل الروح القدس الذي يحقق بقوة الخلاص الذي تممه الرب يسوع بموته وقيامته.
2- الكاهن هو خادم الجماعة في الكنيسة السّر والشركة والرسالة. في الكنيسة-السّر، يحقق حضور المسيح ويساعد المؤمنين على الاتحاد به وبواسطته بالآب والروح القدس. في الكنيسة- الشركة، يبني وحدة الجماعة بالحقيقة والمحبة، ومن خلال تناغم المواهب والخِدم. في الكنيسة الرسالة، يقود الجماعة إلى الشهادة للمسيح بالانتصار على العداوة والظلم والتفرقة، وباحلال العدالة والمحبة والسلام.
يعمل الكاهن في تحقيق السّر والشركة والرسالة من خلال وظيفته المثلثة كمعلم ومقدّس ومدبّر للجماعة، التي يستمدها من المسيح النبي والكاهن والملك. فالكاهن مكرّس بسرّ الكهنوت على صورة المسيح الكاهن الأعظم والأبدي. إنه، في الوقت عينه، على مثال المسيح، أخ بين إخوته المؤمنين يعكس محبة المسيح والله الآب، وهو لهم أب يلدهم بالإيمان، ويفتقدهم في بيوتهم، ويقف على حاجاتهم الروحية والزمنية.
3- من أجل ان يقوم كاهن الرعية بكامل دوره، يوصي المجمع بما يلي:
أ- تنشئة الكهنة روحياً وثقافياً وراعوياً، فمسكونياً ورسالياً، بدءاً من المدرسة الاكليريكية، وتواصلاً بالتنشئة المستدامة.
ب- تفرّغهم ما أمكن لخدمة الرعية، بحيث يكون لخدمة الرعية الدور الأساس، ويتمكن الكاهن من زيارة ابناء الرعية في بيوتهم، ولاسيما تفقّد المرضى والمتألمين.
ج- تأمين معيشة الكاهن بالتعاون مع أبناء الرعية، بحيث تكون لائقة وعادلة مع ضمانات حياتية.
د- توزيع الكهنة على الرعايا والمناطق وفقاً لحاجاتها، على أن يتم ذلك بالتحاور والتفاهم والطاعة البنوية. وحيث يكثر عدد الكهنة يجب توزيعهم أيضاً على جماعات الانتشار.
ه– الاهتمام بالدعوات بالتعاون الوثيق مع لجنة الدعوات في الأبرشية. يرافق الكاهن الدعوة في رعيته، ويميّز علاماتها ويدرجها في حياة الرعية.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، مثل الأبرص نلجأ إليك، ملتمسين الشفاء من البرص الروحي والأخلاقي الذي يشوّه إنسانيتنا المخلوقة على صورة الله. اسمعنا صوتك ينقينا بلسان الكاهن في سرّ التوبة التي تحررنا من عبوديات الأرض وتدخلنا في حالة حرية أبناء الله. فليكن الصوم الكبير، بما يزخر من صوم وإماتات، وصلاة وتوبة، وأعمال خير ورحمة، زمن التغيير حقاً، مثل الطبيعة التي تتهيأ في الربيع لمواسم العطاء. ألهم العائلات والعاملين في حقل الطب على احترام قدسية الحياة البشرية النابعة من كرامة الزواج الذي أسسه الله الآب بفيض من حبه وحكمته، وقدسته أنت، يا رب، بنعمة السّر. ونصلي لكي يحافظ الجميع على كل كائن بشري يتكوّن في حشى الأم، لأنه أصبح بك ابناً لله وحاملاً صورته، ولأن كل تعدّ عليه جرم ضد الله. بارك يا رب خدمة الكهنة لكي تؤدي بالمؤمنين إلى سرّ الاتحاد بالله الثالوث، وإلى حياة الشركة في الوحدة والتضامن، وإلى الالتزام برسالة الكنيسة في خدمة العدالة والمحبة والسلام. فنرفع التسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post