شفاء الأبرص
التحرر من برص النفس
روم 6/12-23
مرقس 1/40-45
آية شفاء الأبرص في الأسبوع الثاني من زمن الصوم علامة لرحمة الله وحنانه نحو بؤس الإنسان، ولقدرته المتجلية في المسيح، الكاهن الأزلي، على إزالة الخطيئة بالغفران والحياة الجديدة. تفعل الخطيئة في النفس فعل البرص في الجسد. وكلاهما تشويه وعزلة وموت. يتكلم نص الإنجيل عن شفاء الأبرص، ورسالة القديس بولس عن الخطيئة والتحرر منها.
أولاً، القراءات البيبلية
إنجيل القديس مرقس 1: 40-45
أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: “إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!”. فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: “قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!”. وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: “أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم”. أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.
مشكلة البرص في الاعتقاد القديم مثلثة: إنه مرض معدٍ يتآكل الجسم، وقصاص على خطيئة صاحبه أو أهله، وفصل المريض عن حياة الجماعة. كانت الشريعة الكتابية توجب إحضار الشخص المشبوه بالمرض أمام الكاهن، لكي يتأكد من الأمر ويعلن أن هذا الرجل مصاب بالبرص. فيتوجب عليه أن يلبس ثياباً رثّة، ويكشف رأسه، ويطوّل لحيته، ويصيح: نجسّ، نجسّ! ينعزل عن الجماعة، ويعيش خارج المحلّة المـأهولة (الاحبار 13: 1-3؛44-46).
أما مع المسيح فتبدّل كل شيء.
لقد مرّ بالمكان حيث كان الابرص، وأتاح له إمكانية الوصول اليه، والوقوع على قدميه والتماس الشفاء، خلافاً لما كان مفروضاً على الأبرص. ويسوع لمسه بيده، فيما كان أهل زمانه يمنعون الاقتراب منه تجنباً للعدوى. ما يدل أن محبة يسوع ورحمته أقوى من الخوف من البرص. وقال له يسوع الكلمة الإلهية الأرفع والأبسط: “لقد شئت، فأطهر” ( مر1: 41).
يعيش في العالم اليوم حوالي عشرين مليون أبرص. ولكن يوجد أمراض تسمى ” البرص الجديد” مثل الايدز والمخدّرات. هؤلاء المصابون ينبذهم المجتمع، ويفصلهم عن الجماعة، فيعيشون على هامشها. غير أن تصرف المسيح مع الأبرص يعلمنا أن نمدّ يدنا إليهم، ونساعدهم ونشجعهم ونخفف من وحشتهم. ولنا أمثال في شخص كل من القديس فرنسيس الأسيزي وراؤل فولّيرو (+1973).
الخطيئة هي برص النفس
إنها تشوّه النفس بحيث تنتزع منها بهاء الصورة الإلهية، وتميل بالعقل نحو الكذب، وبالإرادة نحو الشر، وبالقلب نحو الحقد والبغض. ومن المعلوم أن زينة النفس هي العقل موطن الحقيقة، والإرادة موطن الخير، والقلب موطن المحبة والمشاعر الإنسانية.
كما أعاد يسوع النضارة والنقاء لجسد الأبرص بشفائه، كذلك بالغفران الإلهي وقوة الروح القدس يعيد يسوع إلى النفس نقاوتها.
الخطيئة تستعبد النفس والجسد للخطيئة، كما يصفها القديس بولس الرسول في رسالته لهذا اليوم (روميه6: 12 و20 و21). والغفران يحرر منها ومن الموت الروحي الذي تتسبب به. والغفران يجعلنا عبّاداً لله أحراراً، ويعطينا الحياة الإلهية. أن كلمة المسيح للأبرص ” لقد شئت، فأطهر” أصبحت اليوم للتائب الملتمس مغفرة الخطايا من الله: ” أنا بالسلطان المعطى لي أحلّك باسم الآب والابن والروح القدس”.
مطلوب من كل واحد منا الإقرار بخطاياه، وبكشف جرحاته لمن هو قادر على شفائها. ينبغي تجاوز المقاومة الداخلية والحياء البشري أمام ثقافة مجتمع ينكر الخطيئة، ويتكلّم عنها بهزء. ملك فرنسا القديس لويس التاسع قال يوماً في العلن: “أفضّل ثلاثين مرة ان أصاب بالبرص من ان ارتكب خطيئة مميتة واحدة”.
الخطيئة تكسر الشركة مع الكنيسة، المتمثلة بالجماعة الرعوية، فلا بدّ من أجل استعادتها من أن يلجأ الخاطىء التائب إلى الكاهن، رأس الجماعة وراعيها، لكي يعيدها إليه بالغفران والمصالحة، مثلما أعاد كاهن العهد القديم الأبرص الذي شفي إلى حياته وسط الجماعة. لهذا السبب قال يسوع للأبرص: ” اذهب إلى الكاهن، وأره نفسك” (مر1: 44). فكما أن الكاهن هو الذي أعلن مرضه وفصله عن الجماعة، كذلك هو نفسه يعلن شفاءه وعودته إلى حياة الجماعة.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل في الحكم على يسوع بالموت. حكم عليه أولاً مجلس شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة والكتبة وعددهم 71، لأنه قال عن نفسه أنه المسيح ابن الله، مجيباً على السؤالين الموجهين إليه (لوقا22: 66-71). إن الذين حكموا عليه هم أبناء جماعته الدينية، وأبناء وطنه. كتب عنه يوحنا في مقدمة إنجيله: ” جاء الى خاصته، وخاصته لم تعرفه” (يو11: 11). وفيه تمّت صلاة المزمور: ” لو أن عدواً عيّرني لاحتملته، ولو أن مبغضي تعاظم حقده عليّ لتواريت عنه، ولكنك أنت، يا حليفي وأنيسي، يا من تربطني به أحلى معاشرة، حين كنا معاً في بيت الله نسير” (مز55: 13-14).
العرفان بالجميل فضيلة سامية، ما أحوج مجتمعنا إليها، كعلامة للحضارة الإنسانية والخلقية وللترقّي. إنها في أساس الحياة العائلية والاجتماعية.
أراد يسوع أن يرتقي بهم إلى سمو دعوتهم المتجلية فيه: حين قال: ” إن ابن الإنسان سيجلس عن يمين الآب”. فاستنتجوا وسألوه: ” أنت إذاً ابن الله؟” وعندما أجابهم: ” أنتم تقولون أني هو”، اثبتوا الجريمة ولم يدركوا أن هذا ابن الله صار إنساناً ليشرك الإنسان في حياته الإلهية. ومن جهة ثانية، بقوله الحقيقة من دون خوف أو هرب، يدعونا يسوع إلى الشهادة للحقيقة بجرأة وبالصوت العالي.
ثم حكم الوالي بيلاطس على يسوع بالموت، نزولاً عند الحاح رؤساء الكهنة والقادة والشعب، رغم اقتناعه وترداده أن يسوع بريء ولا يستحق الموت. ونزولاً عند رغبتهم، عفا عن برأبّا القاتل والمجرم، بمناسبة عيد الفصح، وأسلم يسوع إلى مشيئتهم (لو23: 13-25).
إن بيلاطس، بموقفه المتراجع عن الحقيقة والعدل، إرضاء للرؤساء وللشعب الأعمى والمعتدي، إنما يجسّد صورة المسؤول الجبان. فيه ينكشف كل صاحب سلطة غير مكترث للعدالة والحق الذي يعطي الأولوية للوصولية والاستمرار في السلطة. هذه اللاأخلاقية في ممارسة السلطة تشلّ الضمير، تطفىء وخزه وتنحرف بالعقل، فتسهل الجريمة في إصدار حكم جائر وظالم بكل بساطة. إن لبيلاطس سابقة مماثلة كتب عنها لوقا في إنجيله، وهي أنه ” خلط دماء الجليليين بذبائحهم” (لو13: 1). إن عدم الاكتراث هو الموت البطيء للإنسانية الحقة. بحسب رؤية يوحنا في إنجيله، دعا يسوع بيلاطس إلى معرفة الحقيقة وإلى الاستناد إليها ليواجه مطلب الشعب الحاقد، لكنه رضخ لجبانته ووصوليته وموت ضميره. فاكتفى بالسؤال العابر: ” ما هي الحقيقة؟”. وخاف من معرفتها، فعفا عن برأبّا وأسلم يسوع (يو18: 37-40). على كل حال يبقى السؤال: “وما هي الحقيقة؟” مطروحاً على كل ضمير أمام الشك والحيرة والنسبية الأخلاقية. إذا أجاب عليه الإنسان بجديّة وإخلاص، وجد المخرج الآمن.
***
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
السنة اليوبيلية دعوة للعودة إلى الجذور من أجل تجديد الحاضر، كما يتوسع فيها السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير في رسالته العامة للمناسبة.
1. جذور الكنيسة المارونية متأصلة في روحانية القديس مارون
استطاع القديس مارون أن يضع القاعدة الروحية للكنيسة المارونية التي تحمل اسمه، بفضل عيشه المخلص للإنجيل، وإيمانه الحي، ونشاطه الخارق، ونمط حياته المثالي، وكرازته النبوية، وإشعاعه وتألقه في محيطه. لقد تميّز ببطولات ثلاث هي أساس الروحانية الكنسية المارونية.
أ- البطولة الروحية، تجلت في نهج الإقامة في العراء وفوق عمود، للتعبير عن التعلق بالوطن السماوي، وللاقتراب من الله بالانفتاح على السماء، والتحرر من الأرض حتى الانفصال عنها. مثاله المسيح المعلق على الصليب في العراء.
ب- البطولة الإنسانية، بلغت ذروتها بقوة الإيمان والكهنوت والنسك وخدمة شعب الله حتى القدرة على اجتراح العجائب.
ج- البطولة الرسولية، ظهرت في الهداية والإرشاد والتبشير بالإنجيل وتحويل الهياكل الوثنية إلى كنائس لعبادة الله وتقديس المؤمنين.
هذه البطولات الثلاث أعطت مارون قوة التأسيس، وجعلته رجل البدايات، والأساس الإيماني الصلب الذي بُنيت عليه الكنيسة المارونية. فكانت بمثابة حركة مسيحية روحية تجددية، تجسّد توق الانسان المطلق إلى الله وإلى الحرية، وانفتاحه على محيطه بخدمة كلمة الإنجيل التي ترتقّي بالإنسان والمجتمع.
2- شهادة إيمان ومسيرة و شعب
هذا هو عنوان السنة اليوبيلية، الذي يعبّر عن المراحل الخمس التي مرّ بها الموارنة في تكوين كنيستهم، هوية وبُنية ورسالة.
انطلقت المارونية من شخص فرد هو مارون الكاهن الناسك، ثم كوّنت مجموعة من التلاميذ المقتفين مثاله، أصبحت فيما بعد جماعة دينية منظمة معروفة ” ببيت مارون”، إلى أن صارت جماعة مؤسسة ذات وجهين: الأول، روحي جعلها كنيسة، والثاني، سوسيولوجي جعلها طائفة. وأخيراً انتقلت إلى مستوى الوجدان الجماعي، المعروف بالإيديولوجية أو العقيدة المارونية. هذه المراحل المرتبطة والمتكاملة جعلت من الموارنة ” أمّة” تحمل في طياتها بذور كيان وطن، حققته على أرض لبنان، عبر العصور، انطلاقاً من حدث مؤسس للتاريخ الماروني، هو الهجرة من سوريا إلى لبنان. لقد وضع الموارنة في أساس تاريخهم التخلي عن الراحة والغنى في أرض الفقر والزهد مع الكرامة، والهرب من الاضطهاد، والبحث عن الحرية والاستقلال الذاتي. من كل هذا وُلد الوجدان الماروني، وسيظل كله المفسّر لكل أحداث تاريخ الموارنة. وبما أن الإيمان الذي عاشه مارون الناسك أصبح قوة تفعل في تاريخ شعب، فإن البعد الإيماني عند الموارنة يعطي معنى لتاريخهم.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، اليك نلتجىء مثل الأبرص، في زمن الصوم، ملتمسين الشفاء من برص النفس الذي هو حالة الخطيئة التي تشوّه صورة الله فينا. معك أيها المسيح يتبدّل كل شيء، لأن منك الغفران والمصالحة والحياة الجديدة. قوِّ كل حامل سلطة لكي يدافع بشجاعة عن الحقيقة والعدالة، مصغياً إلى صوت الله في أعماق ضميره، لا إلى صوت المصلحة الذاتية أو خوفاً من المغرضين. في سنة يوبيل القديس مارون، ساعدنا، بشفاعته، على عيش بطولاته الثلاث: الروحية والإنسانية والرسولية. أيقظ فينا الوجدان الماروني التاريخي من أجل حماية الإيمان والكيان. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post