أحد شفاء الأبرص
|
13 آذار 2011 روم 6/12-23 مرقس 1/40-45
نعمة يسوع وحدها تبرر الإنسان من آية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، تبدأ عملية تحويل الإنسان من حالة المرض إلى حالة الصحة، ومن حالة الخطيئة إلى حالة النعمة، ومن حالة الفساد إلى حالة الطهر والنقاء. يسوع، فادي الإنسان، هو طبيب الأجساد والأرواح. زمن الصوم هو زمن التحوّل والتجدد.
أولاً، القراءات المقدسة إنجيل القديس مرقس 1: 40-45 أَتَى الى يَسُوعُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: “إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!”. فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: “قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!”. وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: “أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم”. أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.
إيمان والتماس وشفاء. الأبرص يعرب عن إيمانه بأن يسوع قادر على شفائه، فتوسّل إليه ليشفيه. يسوع استجاب لصلاته، وأعطاه حسب إيمانه أي الشفاء من البرص، هذا المرض المشوّه لجسد الإنسان، والمعدي الذي يفصل المصاب به عن الجماعة، ويلزمه بالعيش في البراري. لكن يسوع هو دائماً صاحب المبادرة الأولى الذي يبحث عن الخاطىء والمريض ليشفيه. أليس هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، كلمة الله وابن الآب، الذي “نزل من السماء لأجلنا ولأجل خلاصنا”، كما نقول اسمه ” يسوع” يعني ” الله الذي يحلّص شعبه من خطاياهم” ( متى 1: 21)، و” عمانوئيل ” الله معنا” ( متى 1: 23). قصد يسوع الأبرص في القفر: ” قام قبل طلوع الفجر، وذهب إلى مكان قفر، وأخذ يصلي هناك… ثم سار في كل الجليل، فوافاه أبرص”. البرص هو رمز الخطيئة التي تشوّه نفس الإنسان، عقله وإرادته وقلبه، حريته وضميره. إنها مرض مميت مثل البرص، يدنّس الكائن البشري، المخلوق في الأساس على صورة الله، صورة القدوس والبارّ. بالخطيئة خسر الإنسان براءته، ولا يستطيع أن يصبح باراً من جديد إلاّ ببرارة الله، وبرارة حبّه. هذه البرارة ظهرت في الإيمان بيسوع المسيح“ (روم 3: 22).[1] الخطيئة هي في أساس كل فساد وظلم وشر في العالم، المعبّر عنه ” بالإثم” في الكتب المقدسة. إن أول عمل برّ أو صلاح هو الإقرار بالغثم الشخصي المتأصل في أعماق الذات، والتماس الشفاء منه والغفران: ” إذا، شئت، فأنت قادر أن تطهّرني”. الصيام والتقشف والتأسف ثلاثة تبقى من دون قيمة في نظر الله، ما لم تكن علامة القلب التائب حقاً وبإخلاص. هكذا ينبغي ان تكون ممارسات الصوم والصلاة والتصدّق وأفعال الرحمة علامات لتوبة القلب، في نظر الله الذي يسبر أعماق القلوب، لا في نظر الإنسان. فالمكافأة الحقيقية ليست من إعجاب الآخرين بل من صداقة الله والنعمة التي يمنحها، وهي نعمة تعطي السلام والقوة لفعل الخير، ولمحبة من لا يستحق، ولمغفرة الإساءة. إن برّ المسيح ظاهر في محبته للأبرص، وقد راح يبحث عنه حيث هو. الأبرص يحمل مرضاً معدياً، وهو علامة لخطيئته العظيمة أمام الله الذي عاقبه بالبرص، حسب مفهوم العهد القديم. فكان ينبغي على الكاهن أن يتحقق من برصه، ويأمر بفصله عن الجماعة، لئلا يعديها جسدياً وروحياً. وكان على الكاهن، عندما يعرف بشفاء أبرص، أن يتحقق من شفائه ويأمر باعادته إلى الحياة مع الجماعة، على أن يقدّم تقدمة تكفير وشكر وعرفان لله ( راجع احبار 13: 46؛ 14: 19-20). لهذا السبب أمر يسوع الأبرص أن يُري نفسه للكاهن ويقدّم تقدمة عن طهره، شهادة للجماعة. أما هو فلم يكتفِ بذلك بل راح يشهد لمحبة يسوع التي تشفي وتبرر. لا بدّ، في زمن الصوم، وهو مناسبة للتوبة والتجدد والتغيير، من أن نقصد الرب يسوع في سرّ الاعتراف، لنقرّ بخطايانا الشخصية لله، بواسطة الكاهن الذي فوََّض غليه الكاهن الأزلي يسوع المسيح، سماع الاعتراف، ومنح نعمة الغفران والشفاء والحياة الجديدة. أما تقدمة التكفير والشكر والعرفان فهي ذبيحة القداس، حيث الرب يسوع يكفّر عن خطايانا، وهو بذبيحته صلاة الشكر والعرفان. لقد حمل يسوع كل خطايانا، وهو البار، لكي نصبح نحن برّ الله (2 كور 5: 21)، وندخل في البّر الأعظم الذي هو برّ المحبة ( راجع روم 13: 8-10). في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روما ( 6: 12-23) لهذا الأحد، الكلمة تدور حول الخطيئة التي إذا تملّكت في الجسد، استعبدتنا لشهواته. فنخسر حرية أبناء الله، ونعيش عبيداً للخطيئة والشهوات المنحطّة. هذه العبودية برص روحي وأخلاقي يشوّه جمال النفس المخلوقة على صورة الله. العبودية للخطيئة والشهوات الرديئة ” تؤدي إلى الموت”، لأنها عصيان على الله وشريعته. في زمن الصوم نلجأ الى الرب يسوع، مثل الأبرص، ملتمسين نعمة الشفاء والحياة الجديدة. يقول لنا بولس الرسول بكلام صريح أن ” أجرة الخطيئة الموت، أما نعمة الله فهي الحياة الأبدية بالمسيح يسوع ربنا”. *** ثانياً، الإرشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالته [1]. من القسم الأول وهو بعنوان ” الله الذي يتكلم”، نتناول ما جاء بموضوع” كلمة الله والروح القدس” (الفقرتان 15 و16). بما أن يسوع المسيح هو الكلمة النهائية التي قالها الله وأعطى الخليقة والتاريخ معناها النهائي، وقال عن نفسه في رؤيا يوحنا: ” أنا الأول والآخر” ( رؤيا 1:17)، لا يمكن أن نفهم فهماً أصيلاً الوحي المسيحي وكلمات الرب من دون فعل الروح القدس البارقليط، ” روح الحق” ( يو 14: 16). لأنه هو الذي أوحى الكتب المقدسة (القديس ايرونيموس)، وهو الذي خلق كلماتها وهو الذي يفتحها ويفسّر مضمونها (القديس غريغوريوس الكبير). فعندما يكشف لنا الروح القدس مضمونها، نستطيع أن نجني ثمارها (القديس يوحنا فم الذهب). لكي ندرك فهم كلمة الله ينبغي أن يُقبل فعل البارقليط في الكنيسة وفي قلب المؤمنين بواسطة النصوص والأفعال الليتورجية حيث تُعلن الكلمة وتُسمع وتُشرح. لذلك تصلي الجماعة المؤمنة: ” أرسل يا رب روحك القدوس البارقليط إلى نفوسنا وأعطنا أن نفهم الكتب التي اوحاها”. ويصلي الواعظ: “أعطني يا رب إمكانية تفسير كلامك كما يليق، لكي يجني المؤمنون الحاضرون ثمارها”. وفي ختام عظته يصلي من جديد: ” أرسل يا إله خلاصنا روحك القدوس إلى شعبك. تعال ايها الرب يسوع وكلّم ضمائر الجميع، وهيّىء قلوبهم للايمان، واقتدْ نفوسنا اليك يا اله المراحم”. أجل، يقول القديس ابريناوس: ” ان الذين لا ينالون شركة الروح القدس، لا يتناولون قوت الحياة من حضن امهم الكنيسة، ولا يستقون شيئاً من الينبوع الفائق النقاوة الذي يجري من جسد المسيح”.فكلمة الله تأتي إلينا في جسد المسيح (الكنيسة)، وفي الجسد القرباني، وفي جسد الكتب المقدسة بفعل الروح القدس. ولذلك، لا نستطيع قبولها وفهمها كاملة إلا بنعمة الروح عينه. لا يمكن الفصل بين رسالة الأبن ورسالة الروح القدس، لأنهما تشكلان تدبير الخلاص الواحد. فالروح القدس الذي فعل عند تجسّد الكلمة في حشى العذراء الأم، هو الذي اقتاد يسوع في جميع مراحل رسالته، ووُعد به للتلاميذ. والروح الذي يتكلم بالأنبياء، هو الذي يعضد الكنيسة ويلهمها في مهمة إعلان كلمة الله وفي كرازة الرسل. هذا الروح عينه هو الذي ألهم مؤلفي الكتب المقدسة. ***
ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه نتابع مسيرتنا وراء يسوع في درب صليبه، تكفيراً وتوبةً، ومسيرة في درب جديد.
المرحلة الثالثة، يسوع يقع تحت الصليب مرة أولى عانى يسوع آلاماً حسّية مبرّحة من جراء الجلد في الليلة السابقة واليوم من ثقل الصليب. لكنه قبلها متضامناً مع العائلة البشرية جمعاء، وبخاصة مع كل الذين يعانون هذه الآلام اليوم. إنه يعطيها قيمة خلاصية، ويقدس حامليها، ويمجّد الآب بما ينتج عنها من ثمار فداء في العالم. وفيما نحن ننظر إلى الرب يسوع واقعاً تحت الصليب، نسأله أن يفتح قلوبنا إلى تضامن أوسع مع كل المتألمين من حولنا، لنخفف من أوجاعهم بصلاتنا ومساعدتنا لهم.
المرحلة الرابعة، يسوع يلتقي مريم أمه في هذا اللقاء، مريم أم يسوع التي يحطّم الوجع كل كيانها، تجدد كلمة ” نعم” التي قالتها يوم البشارة، وبها أصبحت أم يسوع التاريخي. واليوم تجددها فتصبح بها أم المسيح الكلّي، الكنيسة، وتفتح لنا وللبشرية جمعاء باب الخلاص. أمومة مريم هي علامة ناطقة لمحبة الله ورحمته لنا، لكل واحد وواحدة منا. إننا بثقة بنوية نلتجىء إلى مريم في ظروف حياتنا الصعبة. نتعلم من مريم، في ضوء آلام الفادي الإلهي، إن الآلام التي تأتينا ونحمل صليبها، ليست آلاماً للموت، بل هي آلام مخاض من أجل حياة جديدة وثمار خلاصية في العالم. صلاة أيها الرب يسوع، نأتي اليك في زمن الصوم، وأنت تأتِ لملاقاتنا، مثل ذاك الأبرص، ملتمسين منك أن تنقي نفوسنا وقلوبنا من الخطيئة التي تشوّهها. أعطنا أن ندرك أن خطايانا الشخصية هي في أساس تفشي الفساد والشر في مجتمعاتنا، حتى بتنا نعيش كفي هيكلية خطيئة. ذلك أن الخطيئة مرض معدٍ. حررنا من الخطيئة لنختبر حرية أبناء الله، ونكون دعاة الحرية الحقيقية التي تعطي الإنسان سعادته وكرامته. أيها الروح القدوس افتح أذهاننا لفهم كلام الله في الإنجيل وتعليم الكنيسة، فنجني ثمارها. وأنت يا مريم امنا، ساعدينا لكي نرى وجه يسوع في كل ألم ينتابنا، وفي كل صليب يأتينا، فنقول مثلك نعم لإرادة الله، لكي تثمر آلامنا حياة جديدة في الكنيسة والعائلة والمجتمع، فنرفع المجد والتسبيح أيها الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين. ***
[1]. الافكار مستوحاة من عظة البابا بندكتوس السادس عشر في اربعاء الرماد 22 شباط 2010. [2]. هذا الارشاد ” كلمة الله Verbum Domini ” اصدره البابا بندكتوس السادس عشر بتاريخ 30 ايلول 2010.
|