شفاء المرأة النازفة
الصلاة والألم باب الرجاء
2 قورنتس 7/4-11
لوقا 8/43-48
المرأة النازفة لم تجد رجاءها إلا في المسيح، من بعد أن خيّب آمالها فن الطب، وقد انفقت كل مقتناها. فقصدت يسوع بصلاة صامتة ظهرت في مبادرتها بلمس طرف ثوبه، بإيمان وطيد أنها بهذا اللمس ستنال نعمة الشفاء. الصوم الكبير هو زمن الصلاة والرجاء.
أولاً، القراءات البيبلية
من إنجيل القديس لوقا 8: 43-48
َكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا.دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: “مَنْ لَمَسَنِي؟”. وَأَنْكَرَ الـجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: “يا مُعَلِّم، إِنَّ الـجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!”. َقَالَ يَسُوع: “إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!”.وَرَأَتِ الـمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: “يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!.
الصلاة والرجاء ظهرا في آية شفاء المرأة النازفة منذ اثنتي عشرة سنة. من الصلاة والألم تعلّمت الرجاء بالمسيح وبقوة هذا الرجاء اقتحمت الجمع خلسة ولمست طرف ثوب يسوع، يقيناً منها أنها ستشفى. فلم يخيّبها رجاؤها. والرجاء لا يخيّب.
يدعونا الصوم الكبير إلى الصلاة والتوبة والصيام، وهي مناسبة دبّرتها العناية الإلهية، من شأنها أن تجعل رجاءنا أكثر حيوية وصلابة. الصلاة بإيمان تغذي الرجاء. ومن دون الصلاة لا يوجد رجاء[2].
لقد صلّت المرأة النازفة وتألمت شديداً من جراء نزف دمها منذ اثنتي عشرة سنة. فتشدد إيمانها وعظم رجاؤها، وكانا لها الدواء الوحيد الذي شفاها، بشهادة الرب يسوع: ” تشجعي يا ابنتي! إيمانك أحياك! اذهبي بسلام” ( لو8:48).
المرأة المتألمة منذ اثنتي عشرة سنة تمثّل كل إنسان يتألم في وحدة موحشة خائفة، وكأنه متروك من الله والناس، هذا الاختبار عاشه يسوع أربعين يوماً في البرية حيث كان يصلي لأبيه سراً ويصوم ويجوع، فانتصر على تجارب الشيطان الثلاث (متى 4: 1-11). وعاشه في بستان الزيتون حيث في الحزن والحسرة الخانقة صلّى لأبيه سراً: ” إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (متى 27: 46؛ مز 21: 1). إنها صرخة كل إنسان متألم يشعر وكأن الله غائب عنه، بل هي صرخة البشرية جمعاء. وتكتمل صرخة الصلاة هذه بالثقة البنوية الكبيرة والمطمئنة: ” يا أبتِ بين يديك استودع روحي” (لو23: 46؛ مز 30:6).
إن الله هو مرساة الخلاص الوحيدة، عنده يجد كل متألم الشفاء الروحي والمعنوي والجسدي. المرأة ” كانت انفقت جميع مقتناها على الأطباء، ولم يستطع أحد أن يشفيها” ( لو8: 43). هذه هي الغاية من زمن الصوم الكبير. نعود إلى الله، نبحث عنه بالصلاة والصوم والتصدق في الخفاء. وهو الذي يرى في الخفية يجازي ويشفي (متى6: 4 و6 و18). نبحث عن الله لنخرج من همومنا ومشاكلنا وأمراضنا ووحشتنا، ونبتهل اليه في هذا الزمن المقبول، زمن الصوم، بصلاة الملكة استير: ” أيها الرب ملكنا، أنت الأوحد. أغثني أنا الوحيدة، والتي لا نصير لي سواك. فإني أخاطر بنفسي” (استير 4: 17). بوجه المخاطر الكبيرة نحتاج إلى رجاء كبير، وهذا لا يتكل إلاّ على الله. وبقدر ما يكون الرجاء كبيراً، بقدر ذلك تكبر طاقتنا على احتمال الألم[3].
نزيف المرأة يرمز إلى نزيف القيم من جراء الخطايا التي لا يتوب عنها الإنسان، فتتراكم وتظهر في فقدانه القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية والاجتماعية. هذه حال عصرنا وبيئتنا. الصوم الكبير هو زمن الوقوف أمام الله والإنجيل وتعليم الكنيسة، زمن اللجوء الى المسيح لالتماس نعمة الشفاء من خلال وسائل ثلاث: الصلاة والتوبة لاستعادة القيم الروحية؛ الصوم والأمانة لاستعادة القيم الإنسانية؛ التصدق وأعمال الرحمة لاستعادة القيم الاجتماعية.
والقديس بولس في رسالته لهذا الأحد يدعونا إلى حالة الأسف عن الخطايا ونزيف القيم، فإلى العودة إلى الله بالتوبة لنيل المغفرة والحياة الإلهية التي تنعشنا بالقيم. هكذا يخاطبنا، كما خاطب أهل كورتنس: ” لقد فرحت كثيراً، لأن حزنكم أتى بكم إلى التوبة، ولأنكم حزنتم في سبيل الله، فلم تخسروا شيئاً. لأن الحزن في سبيل الله يصنع ندامة لا رجوع عنها، فتُعيد الحياة، وحزن العالم يصنع موتاً” ( 2 كور 7: 9-10).
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
في مسيرة الصليب نتأمل يسوع الذي يُجلد ويكلل باكليل من شوك، ويحاط بالهزء والسخرية (لو22: 63-65؛ يو19: 2-3). لقد تمّت نبوءة يسوع التي سبق وقالها للاثني عشر: ” ها نحن صاعدون إلى أورشليم، ويتمّ كل ما كُتب في الأنبياء على ابن الإنسان، لأنه يُسلّم إلى الشعب، فيهزأون به، ويتفلون في وجهه، ويجلدونه ويهينونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم” (لو18: 31-33).
هذا كله جرى داخل دار الولاية، فيما الشعب ينتظر في الخارج موكب الحكم بالصلب. لقد تمّ في الداخل عمل مشين ومخزِ بحق البشرية والحقيقة والعدل، سيتكرر عبر الأجيال بألف نوع وشكل في ظلمات الأقبية والسجون. يسوع يتضامن مع كل المعذّبين في أجسادهم، والمحقرين في كرامتهم ونفوسهم، من خلال ما تعرّض له من جلد وسخرية وإساءة جسدية ومعنوية. وبهذا التضامن يشجع ويعزّي هؤلاء المعذّبين مثله، ويعطي قيمة خلاص وفداء لآلامهم، إذا عرفوا أن يقرنونها بآلامه البريئة التي افتدى بها الجنس البشري وخلّصه بقيامته.
فيما كان الحراس يسخرون من يسوع على أنه نبي، كما روى إنجيل لوقا (22: 63-65)، راح الجنود بهزأون بملوكيته: فضفروا على رأسه اكليل الشوك بدلاً من التاج الملوكي، وألبسوه كميصاً أحمر بدلاً من وشاح الأرجوان الملكي، وصفعوه على وجهه بدلاً من انحناءة الإجلال للملك، وقالوا له هازئين: “سلاماً يا ملك اليهود” بدلاً من التحية للامبراطور: ” سلام أيها القيصر” ( انظر يو 16: 2-3).
احتمل يسوع كل الألم والاساءة والسخرية لكي يفتدي الإنسان، ويحرره من روح الوحشية، ويرتفع به إلى مستوى بهاء الصورة الإلهية. وترك للعدل الإلهي مصيره، فكانت قيامته من بين الأموات، وكان انتصاره على الخطيئة والحقد والشر، وجعلنا في حالة قيامة إلى النعمة والمحبة والخير. ولهذا دعانا بولس الرسول ” لأن نتخلّق بأخلاق المسيح…” (فيليبي 2: 5). لقد تحوّل يسوع من ملكُ الهزء والسخرية إلى الملك المطلق في السماء وعلى الأرض، الذي تجثو له كل ركبة، وبه يعترف كل لسان (انظر فيليبي 2: 10-11).
هذا الملك الإلهي هو الذي سيدين الشعوب، فيحكم بالهلاك الأبدي على كل الذين ينتهكون حرمة الجسد والنفس والروح عند أي إنسان، ويشرك في مجده ليس فقط ضحايا هؤلاء الظالمين، بل وكل الذين أطعموا جائعا وسقوا عطشاناً وكسوا عرياناً واستقبلوا غريباً وزاروا مريضاً وافتقدوا سجيناً ( متى25: 31-46).
إن وجه يسوع، الذي تجلّى في بهاء الألوهة المشع على جبل طابور (لو9: 29) هو الآن مشوّه بأيدي الحاقدين، وإن الذي هو “ضياء مجد الله وصورة جوهره”(عبرانيين 1: 3)، يُذلّ الآن ويقبّح، تماماً كما وصفه آشعيا منذ خمسة مئة سنة من قبل: ” أسلمت ظهري للضاربين، وخدّي للتافلين، ولم أستر وجهي عن الإهانات والبُصاق” (اشعيا 50: 6).
يعلمنا الرب يسوع بمثله أن نحتمل انتهاك كرامتنا من أجل الخير العام، من أجل الحق والعدل، من أجل الخير الأكبر. على لسانه يضع اشعيا نبوءته:
” السيّد الرب ينصرني، لذلك لم أخجل من الإهانة. ولذلك جعلت وجهي كالصوان، وأنا عالم بأني لا اُخزى. من منكم يخاف الرب فليسمع صوت عبده. ومن يسير في الظلمات ولا ضوء له، فليتوكّل على اسم الرب، وليعتمد على إلهه” (اشعيا 50: 7 و10).
ثالثاً، سنة يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)
من رسالة السيد البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير العامة بمناسبية سنة اليوبيل، نتوقف عند الهوية المارونية.
حدد المجمع البطريركي الماروني الهوية المارونية بستة عناصر[4]:
1- هي كنيسة أنطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص. بأنطاكيتها تحمل أمانة مثلثة: للهوية المسيحية الأساسية، لأن في أنطاكية دُعي تلاميذ المسيح لأول مرة مسيحيين (اعمال11: 26)؛ وللنفحة الرسولية، لأن الكنيسة الانطاكية نشأت من تبشير الرسل وانفتحت على الأمم؛ وللوحدة وللشركة الكاملة والمستمرة مع خليفة بطرس وكنيسة رومية. وبوصفها سريانية، فإنها تحمل تراثاً لاهوتياً وروحياً وليتورجياً وقانونياً، مميّزاً بالطابع المريمي، والدعوة إلى التوبة، ورجاء ملاقاة العروس السماوي في نهاية الزمن. لم تبنَ الكنيسة المارونية على قاعدة اتنية أو عرقية أو جغرافية.
2- هي كنيسة خلقيدونية تؤمن بشخص المسيح الإلهي الواحد وبطبيعتيه الكاملتين، الإلهية والإنسانية. وبهذه الصفة تحافظ على أمانتها لسرّ التدبير الخلاصي بالمسيح، ولمفاعيل سرّ التجسّد، عبر الاتحاد الدائم بالله وعيش روحانية التجسّد في بيئتها المشرقية، من أجل ترقي الإنسان والمجتمع بشمولية أبعاده.
3- هي كنيسة بطريركية ذات طابع كنسي ورهباني، وفقاً للتقليد الكنسي القديم، بحيث أن المجامع المسكونية الأولى اعترفت بالمؤسسة البطريركية. يرئس البطريرك كنيسته بمثابة أب ورأس، ويمارس سلطته عليها بالمجمعية الأسقفية، عبر السينودس البطريركي، وبروح التشاور والتوافق في الشؤون الكنسية العامة. أما طابعها النسكي الرهباني فيميّز روحانيتها وتنظيمها الكنسي، هي التي تكوّنت جماعة كنسية في دير مار مارون وفي ما حوله من اديار وجماعات مؤمنة، وتنظّمت بهيكلية نسكية وراعوية.
4- هي كنيسة في شركة تامة مع كرسي روما على أساس العقيدة الخلقيدونية. بفضل هذه الشركة استطاعت أن تؤدي رسالتها في محيطها بحيوية وفعالية.
5- هي كنيسة متجسّده في بيئتها اللبنانية والمشرقية، تنفحها بقيم الإنجيل وتؤثر في تكوين ثقافتها، وتخدم تدبير الله الخلاصي لكل الناس في الزمان والمكان. لقد انطلقت من الدير الى الوطن.
6- هي كنيسة ذات طابع رسالي، تنتشر في مختلف البلدان، خارج النطاق البطريركي، وتتفاعل مع الثقافات المحلية من خلال تراثها وروحانيتها. إنها مدعوة لتجمع دائماً بين الوطن الروحي، لبنان، حيث البطريركية وكل تراثها الكنسي واللاهوتي على المستوى العمودي، وبين انتشارها الكوني على المستوى الأفقي.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، بالرجاء الوطيد نقبل كلمة الإنجيل وتعليم الكنيسة ونتقبّل نعمة الغفران بالتوبة، ونغتذي بجسدك ودمك، راجين أن يتوقف نزيف قيمنا الروحية والإنسانية والاجتماعية. أعطنا أن نضمّ إلى آلامك الخلاصية كل ما يصيبنا من إساءة وإذلال وهزء بالكرامة الشخصية، من أجل الخير الأكبر. في سنة يوبيل القديس مارون، أنرنا بأنوار روحك القدوس لكي ندرك هوية كنيستنا المارونية المتنوعة العناصر، فيتحقق هدف اليوبيل الذي هو شهادة إيمان ومسيرة حياة، لكي نسبح الثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post