الابن الضال و عفو الآب
للقديس بطرس كريسولوجوس
أسقف رافنا بإيطاليا (406-450م)
+ «وإذ كان لم يَزَل بعيداً، رآه أبوه فتحنَّن وركض ووقع على عنقه وقبَّله» (لو 15: 20).
+ «أقوم وأذهب إلى أبي» (لو 15: 18).
قال (الابن الضال) هذا بعد أن خارت قواه وسقط على الأرض (صريع الجوع والعُري)، ورجع إلى نفسه وأحسَّ بالهوَّة التي نزل إليها ومدى الهلاك الذي تعرَّض له؛ فرأى نفسه غائصاً في وحل الخطيئة، فصرخ بشدة حاثّاً نفسه: «أقوم (الآن) وأذهب إلى أبي».
مِن أين يأتيه هذا الرجاء، وهذا اليقين، وهذه الثقة؟
مِن واقع ما يعرفه عن أبيه كان يُناجي نفسه قائلاً: “لقد فقدتُ امتيازي كابن، أما هو فلم يفقد شيئاً من امتيازه كأب.
إنه لا يحتاج إلى إنسان آخر غريب يتوسل لأجلي لديه. إن محبة أبي الحانية هي التي تتوسَّط وتتوسَّل وتلحُّ من أعماق القلب.
إن أحشاءه الأبوية هي التي ستدفعه أن يتبنَّى من جديد ابنه بإصدار الصفح الكامل عنه. لقد ارتكبتُ كلَّ مُنكرٍ، ولكني سأذهب إلى أبي”.
وأما الأب فلدى رؤيته لابنه، ستر في الحال وِزرَه، ولما قام بدور القاضي غلبته عليه أُبوَّته، فحَكَمَ على الفور بالبراءة، هذا لأنه يودُّ رجوع الابن لا هلاكه…
+ «وقع (الأب) على عنقه (عنق الابن) وقبَّله (واحتضنه)» (لو 15: 20).
وهذه الكلمات تُبيِّن كيف يقضي الأب، وكيف يُصلِح ويؤدِّب؟
إنه يُعطي بدلاً من العقوبة قُبلة. إن قوة المحبة لا تُقيم وزناً للخطيئة، ولذا فإن الأب بقُبلة يعفو عن ذنب ابنه، وبعواطفه الأبويَّة يغمره.
الأب لا يفضح ولده، ولا يُشهِّر بابنه؛ بل يضمد جروحه تماماً، حتى لا تترك أثراً لأيِّ غَضَن أو عيب: «طوبى لِمَن غُفرت زلَّته، وسُترت خطيته» (مز 32: 1).
فإذا كان الماضي المُشين لهذا الشاب، يُثير فينا الاشمئزاز، وشروده يبعث فينا النفور؛ فلنحترس، إذن، ألاَّ نبتعد عن مثل هذا الأب.
إن مجرد رؤية هذا الأب تكفي لأن تجعلنا نفرُّ من الخطيئة، ونتجنَّب الإثم، ونجحد كل شرٍّ وكل غواية.
ولكن إذا ما كنا قد ابتعدنا عن الأب، وإذا ما كنا قد بدَّدنا كل ما منحه لنا من خير بعَيْشٍ مُسرف وحياة مُنحلَّة، وإذا ما كان قد حدث لنا أن ارتكبنا إثماً أو مُنكراً،
وإذا ما كنا قد سقطنا في هوَّة الكُفر السحيقة والإفلاس (الروحي) المُطلق؛ فلنَقُم بعد هذا كله ونرجع إلى مثل مَن كانت هذه أُبوَّته، متشجِّعين بهذا المثال.
+ «وإذ كان لم يَزَل بعيداً رآه أبوه، فتحنَّن ووقع على عنقه وقبَّله» (لو 15: 20).
إني أسأله: أي مكانٍ هنا لليأس؟ أو أي مجالٍ حتى للاعتذار أو مظهر للخوف؟
اللَّهُم إلاَّ إذا كنا نعتقد أنه للانتقام وليس للترحيب والصفح، أن يأتي الأب ويجتذب ابنه من يده، بل ويشدُّه إلى صدره ويُطوِّقه بذراعيه.
ولكن هذا الفكر المضاد لخلاصنا والمُنافي لواقع الحال، يصبح غير ذي بال وبلا فحوى، إذا رأينا ما يتبع ذلك:
+ «فقال الأب لعبيده: أَخرِجوا (عاجلاً) الحُلَّة الأولى وألبسوه؛ واجعلوا خاتماً في يده؛ وحذاءً في رجليه؛ وقدِّموا العجل المُسمَّن، واذبحوه فنأكل ونفرح؛ لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 22-24).
بعد أن سمعنا هذا كله، أيمكننا أن نتباطأ في الرجوع إلى الآب؟!!
دير القديس أنبا مقار
Discussion about this post