الابن الشاطر
خطيئة الانسان وغفران الله
إنجيل القديس لوقا 15 /11-32
نحن في منتصف زمن الصوم، بل في قمته وهي المصالحة وترمم العلاقة مع الله والذات والأخوة. كانت الأسابيع السابقة تحضيراً لهذا التغيير العميق في القلوب، من خلال آيات ثلاث تأملنا فيها : تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، تطهير الأبرص، وشفاء المرأة النازفة. واليوم، ننبسط مع الآحاد الثلاثة المقبلة نحو مستقبل تحرّر في كل من المسلك بعودة المشي إلى المخلع، والرؤية بانفتاح عيني الأعمى، والموقف باستقبال السيد المسيح ملكاً جديداً وابدياًً يوم الشعانين في مدينة أورشليم، رمز كل مدينة وبلد.
إنجيل الابن الضال يتناول رحمة الله، وخطيئة الإنسان، والتوبة والمصالحة، وثمار غفران الله.
أولاً، مضمون المثل الإنجيلي
1- إنجيل الرحمة الإلهية
الابن “الشاطر” هو الذي شطر حصته من الإرث العائد له ولآخيه من أبيه: ” أعطني حصتي من ميراثك، فشطر الأب ماله بين ابنيه “. وهو الذي انشطر عن بيت أبيه ليعيش في التبذير المادي والخلقي: ” جمع ما أصابه وسافر إلى بلد بعيد ، وهناك بدّد ماله، مبذراً “. المثل الإنجيلي يوضح جلياً جوهر الرحمة الإلهية، التي هي محبة الآب الأمينة رغم تبذير الابن. لفظتان في العبرية تعبّران عن رحمة الله: “حِسِد”، تعني أمانة الله لمحبته التي يحب بها شعبه، والأمانة لمواعيده الخلاصية؛ و” رحاميم”، وهي المحبة من الأحشاء مثل محبة الأم، بما فيها من مشاعر حنان وعطف. تتجلى رحمة الله هذه في موقفه تجاه الابن الاصغر: الآلم لغيابه وضياعه ، ترقب عودته، الإسراع الى مسامحته، والوليمة على شرفه، لأنه “كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد”. الله أمين لأبوته، أمين لمحبته الدائمة.
الابن الأصغر هو إنسان كل زمان، رجلاً كان أو امرأة، تعلّق قلبه بعطايا الله ونسيه، ابتعد عنه وتعبّد لعطاياه، فأضاع ميراث النعمة والبرارة الأصلية. لقد تسلّم من أبيه خيوراً مادية، لكنه بتصرفه خسر كرامته كأبن. هذا هو جوهر خطيئة الإنسان ( في الرحمة الالهية،5).
الخطيئة هي انحراف في الحرّية ، وفي سوء فهمها واستعمالها. الحرية هبة من الله تزين الإنسان في عقله وإرادته، فيتخذ خيارات ومواقف في خدمة الحقيقة التي يدركها بعقله السليم والمستنير، وفي محبة الخير الذي يحققه ويسعى في أثره بإرادته الواعية. ففي عمق أعماق الإنسان ، تنفتح الحرية على الحقيقة والحب أو تنغلق.
الخطيئة انغلاق عن الحقيقة والخير والحب النقي، وخروج عن إطار الحرية التي تحرر، وعيش في الاستعباد لنزوات دنيئة ومصالح رخيصة وعادات قبيحة، تصبح أصناماً تسيطر عليه وتذل إنسانيته: “من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة ” (لو8/34). هذه حال الابن الشاطر والكثيرين من الناس، وبخاصة بعض الشبان والشابات، بل العديد من المسؤولين السياسيين والإداريين والعسكريين، ورجال القضاء المؤتمنين على أشرف كنزين: الحقيقة والعدالة. هؤلاء يعيشون باسم الحرية الذين باسم الحرية في عبودية الخطيئة والذل الإنساني والانحطاط الخلقي، مبتعدين عن الله والكنيسة. فلا ممارسة دينية عندهم ولا ثقافة مسيحية، بل إسقاط الدين والأخلاق من حياتهم، معتقدين أن ذلك حداثة وحضارة. وكأن الله غريب عن هذا العالم، فلا أنزل شرائع ولا وضع وصايا ولا حقق خلاصاً. بعضهم ينصب العداء للكنيسة ورعاتها، ويتنكر للإنجيل وتعليمه. إن الكنيسة تعاني الاضطهاد اليوم من ابنائها وبناتها. هذه الحالة تحتاج إلى توبة شاملة وصادقة.
الخطيئة هي في الأساس عمل ضد الله: ” لك وحدك خطئت والشر قدامك صنعت” (مز 50/6)، وبالتالي ضد الأخوة وضد الذات. وتصبح مخالفة لشريعة إلهية أو لقاعدة خلقية. إنها تنبع من إرادة الإنسان الحرة: ” أعطني نصيبي فجمع ماله، وسافر بعيداً، وبدّد ماله بالبذخ “. كلها أفعال لإرادة حرة، لكنها أدّت إلى شر الابن، وقد وعاه ساعة عاد الى نفسه وقال: ” كم أجير في بيت أبي يفضل الخبز عنهم وأنا أموت جوعاً. لقد رجع إلى نقطة الانطلاق: ” من الباطن، من قلوب الناس تصدر أفكار الشر: الفجور، الزنى، السرقة، القتل ، الطمع، الخبث ، الغش ، الفسق ، الحسد، التجديف، الكبرياء، ألسّفه. كل هذه الشرور تصدر من الباطن وتجعل الإنسان نجساً” (مرقس7/20-23). الذين يعيشون مستعبدين لهذه الشرور، إنما ينتهكون الحب الحقيقي، ويجرحون كرامة الإنسان جرحاً بليغاً، ويلحقون وصمة كبيرة بالتضامن البشري، ويعكسون بتصرفاتهم وأقوالهم وأعمالهم أنانية استعبادية (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1849-1850).
الابن الشاطر هو كل إنسان تراوده تجربة الابتعاد عن الله ليعيش على هواه، فيقع في التجربة وينخدع بالأباطيل، ويجد نفسه وحيداً مسلوب الكرامة ومستغّلاً (المصالحة والتوبة ،5). تبدأ الخطيئة بمقاطعة الله، فيصبح الخاطىء محوراً لذاته، ينزع إلى إثبات ذاته وإشباع رغبته إلى الحرية المطلقة، عن طريق تداول الأشياء: المال، السلطة، اللذة. والكل على حساب الآخرين الذين يسلبهم ظلماً، ويتعامل معهم تعامله مع الأشياء والأدوات. هذا الإنسان بحاجة إلى تحرير من الخطيئة واستعباد الذات لها، ومن تماديه في ادّعاء الألوهية: ” تصيران كآلهة” ( تك3/5). كلمة الحية هذه لحواء المرأة الأولى، هي جوهر تجربة الإنسان (الحرية المسيحية والتحرر، 37 و42).
2- التوبة والمصالحة
وعى الابن الشاطر أن كرامته مهدورة وبنوته مفقودة ، عندما عاد إلى نفسه . فندم ندامة كبيرة وقرر استعادة هذه الكرامة والبنوة بالرجوع إلى نقطة الانطلاق : ” أقوم وأمضي إلى أبي “ . هذا الوعي يتوفر لنا بفحص الضمير، بدخول معبد النفس حيث يلتقينا الله ويخاطبنا ويضيء علينا بنور كلامه الحي. إن قرار استعادة الكرامة الإنسانية الأصيلة نتخذه بالندامة على الحالة التي بلغنا إليها بخطايانا وشرورنا، وهو قرار داخلي بالخروج من الحالة الراهنة وأسبابها, وبعدم الرجوع إلى الخطيئة، وببدء حياة جديدة يقدمها الله بصفحه المجاني وبحبه الذي يفوق خطيئتنا: ” اذهبي ولا تعودي تخطئين” (يو8/11)، وبكلام آخر: اذهبي واستعيدي كرامتك المفقودة . بالندامة ننقذ أمراً جوهرياً هو إنسانيتنا التي تسلم لنا ، بعد أن نكون قد بددنا كل الميراث: ” علينا أن ننعم ونفرح لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد “ (في الرحمة الالهية ،6).
انسحق قلب الابن بسبب الاساءة لابيه التي جلبت له الاذلال والعار. فعبّر عن انسحاق قلبه بامرين: الاعتراف بخطيئته: ” يا ابتِ خطئت الى السماء واليك “، والتكفير عنها: ” لا استحق ان اكون لك ابناً، عاملني كأحد اجرائك “. هذا الانسحاق ناتج عن شعوره العميق بكرامته الضائعة ، وعن ادراكه للخسارة الجسيمة : لقد اصبح اجيراً في بيت ابيه، وهذا اذلال وعار كبير تقتضيه العدالة. لا توبة بدون انسحاق القلب الذي هو فعل تواضع عميق امام رحمة الله. المتكبر لا يعترف بخطاياه ولا يكفرّ عنها. هذا هو نداء الصوم : ” تذكر يا انسان انك تراب والى التراب تعود “. دعوة الى انسحاق القلب، اعتراف بالخطايا، وتكفير بالصوم والاماتة والتقشف واعمال الرحمة، ودعوة الى استعادة حالة البنوة لله في يسوع المسيح، مع ما لها من استقرار وخصب وعطاء .
3- غفران الله
” وفيما كان بعيداً رآه أبوه . فتحّنن عليه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله “.
كل توبة حقيقية تنبع من نظرة الله إلى الخاطىء. كانت عين الأب على ابنه منذ رحل من البيت. ومنذ اللحظة الأولى بدأ الأب يعيش في التململ ، ينتظر ويأمل ويتفحص الأفق. إنه يحترم حرية ابنه ولكنه يتعذب. وعندما قرر الابن أن يعود، أبصره عن بُعد وبادر إليه وضمّه طويلاً بين ذراعيه. هذه حال الله معنا، مع خاطىء يبتعد عنه ويشقى في انحطاطه وخسارة كرامته وهو ابن له مخلوق على صورته ومثاله. نحن نميل عن الله ، لكن نظرة حبه ورحمته لنا لا تميل ، نظرته رغبة في الصفح والغفران. هذه النظرة ترجمها في ذبيحة الفداء وأظهر بها للخاطىء أنه لا يزال موضوع تقديره وحبه، وكشف، بأنوار الروح القدس، الحالة السيئة التي سقط فيها، وشجعه على أخذ القرار بتغيير حياته. الإنسان الذي يتذوق طعم رحمة الله والغفران، لا يقوى على أن يعيش إلاّ في عودة الى الله مستمرة (الرحمة الالهية، 13).
غفران الله يعيد إلى الخاطىء كرامته الإنسانية ويرمم بنوته لله: يضع في يده خاتماً رمز عهد البنوة، ويلبسه أفخر حلّة رمز الحياة الجديدة، ويضع في رجليه حذاء رمز الكرامة المستعادة، ويولم له العجل المسّمن رمزمائدة الافخارستيا.
مثل الابن الشاطر قصة محبة الله الرحومة يقدّم لنا بها المصالحة الكاملة. الابن الاكبر يمثل كل إنسان حجّرت الأنانية قلبه وأعمته وقطعت عليه مجال العودة إلى الآخرين والى الله، فكان لسعادة الأخ العائد طعم مرارة لديه. إنه بحاجة إلى العودة والاهتداء والمصالحة، وقد ” انشطر” بدوره عن الشركة العائلية. لقد تمسّك الاخ الاكبر بالعدالة، لكن أباه دعاه لتلطيفها بالرحمة، وإلاّ انغلقت في دائرة الثأر. العدالة من دون الرحمة تصبح ظلماً وثأراً. معروف القول المأثور: “أقصى العدالة، أقصى الظلم”.
المصالحة مع الله هي المصالحة الأساس التي منها تنبع كل مصالحة عائلية واجتماعية(المصالحة والتوبة،6).
**
ثانياً، الخطة الراعوية
سوء استعمال الحرية، وهذه عطية ثمينة من الله، أدّى إلى ضياع الابن الشاطر وتوتر العائلة ونقمة الأخ الأكبر. ينبّه المجمع البطريركي الماروني في النص العاشر حول العائلة، ان هذه الأخيرة ” تتعرض الى التباس في المقياس الموضوعي لخياراتها الأخلاقية، فغالباً ما تختار ما يوافقها من حلول، بغض النظر عن أبعادها الروحية والخلقية، بسبب ما يعطي الإنسان من مفهوم خاطىء لحريته وذاته وغاية وجوده. فتتزعزع اركان العائلة، خاصة عندما يصرّ كل فرد، باسم الحرية، على استباحة ما يشاء” ( عدد34).
تقتضي الخطة الراعوية من كهنة الرعايا في لقاءاتهم الإنجيلية، ومرشدي المنظمات الرسولية في اجتماعاتها الأسبوعية، والجماعات الديرية، والمجالس واللجان القائمة في الرعايا والمؤسسات والجماعات العائلية، أن ينظروا معاً في الأوضاع الراهنة ويرسموا لها حلولاً، في المجالات التالية:
1- مفهوم الحرية، تنبع الحرية من الحقيقة والعدالة والمحبة، وتتصف بسيطرة الإنسان الداخلية على أفعاله الخاصة وتقرير مصيره. ليست الحرية أن تفعل أي شيء كان، بل الحرية حرية في سبيل الخير ( الحرية المسيحية والتحرر، 27 و27). تجري كل جماعة تحليلاً لواقع الحرية في العائلة، ونقداً موضوعياً، لتستنتج ما ينبغي من خلاصة وحلول. يشير النص المجمعي العاشر إلى ضرورة التنشئة الصحيحة على الحرية التي تثمر مسؤولية وتضامناً وبنياناَ للذات وللآخر” ( فقرة 34). يقتضي التحليل والنقد إبراز النتائج الوخيمة لمفهوم الحرية الخاطىء أي أن ” الحرّ هو من استطاع ان يفعل فقط ما يريده من دون أن يردعه إكراه خارجي، وتمتع بالتالي باستقلال تام” ( الحرية المسيحية والتحرر، 25).
2- الحب والزواج: ثمة انحراف في مفهوم الحب والزواج والإنجاب والتضحية الوالدية، فحُصر الحب في الجنس وتشوهت الحميمية المقدسة التي تربط بين الزوجين بعطاء متبادل منفتح على الحياة، ونشأت علاقات مرفوضة أخلاقياً وكنسياً (النص 10، في العائلة،35). تفكرّ الجماعة معاً في الواقع الراهن، وتلتزم بشهادة الحياة، وتعلن مساهمتها في راعوية الحب والزواج. تجدر الإشارة إلى أن الأساس الجوهري لهذا التزعزع في المفهوم هو النقص في معنى الله الذي أدّى إلى النقص في معنى الإنسان” (البابا يوحنا بولس الثاني).
3- أخلاقيات الحياة: يلفت المجمع البطريركي الماروني إلى ” أن نسبة لا بأس بها من المستشفيات والأطباء والأزواج المسيحيين، تجهل أو تتجاهل شريعة وتعاليم الكنيسة في موضوع أخلاقيات الحياة. فالتطور العلمي والتقني، بالرغم من إيجابياته في تعزيز الحياة بمواجهة الأمراض والآفات، فإنه يقدم حلولاً تتعرض لكرامة الحياة البشرية وقدسيتها ولمفهوم الحب الزوجي ومبدأ ارتباطه بالحياة” ( النص العاشر: في العائلة، 36).
تقتضي الخطة الراعوية أن تشخص الجماعات المذكورة أعلاه الممارسات المنافية للشريعة الإلهية وتعليم الكنيسة، وتشكل خطيئة جسيمة بعضها محفوظ الحلّ منها لمطران الأبرشية. ينبغي أن يصار إلى كشف ممارسات مثل: الإجهاض، ووسائل منع الحمل الصناعية بما فيها العقاقير المجهضة، والإخصاب في الأنبوب، وقتل أجنة في بطون الأمهات، وتجميد أجنة، واستعمال بعضها لاختبارات طبية، والتعامل مع الأجنة من أجل إلغائها، والتعامل مع الجنس من أجل إحداث تغيير فيه، والموت الرحيم، والاستنساخ البشري، وزواج المثليين.
وتهدف الخطة الراعوية إلى إنارة الضمائر بنشر تعليم الكنيسة، وتعزيز الأبوة والأمومة المسؤولة، والتنديد بالأطباء الذين لا يتورعون عن مثل هذه الممارسات.
صلاة
يا رب، إننا في هذا الصوم المبارك، وهو الزمن المقبول، نلتزم بالتكفير عن الخطايا والممارسات المنافية لأخلاقية الحياة والشريعة الإلهية وتعليم الكنيسة. نكفر عن الذين يرفضون إتباعك، أنت الراعي والقدوة، ممعنين في خيانة وعود معموديتهم. إننا نودّ التعويض، بصومنا وتوبتنا وأعمال الرحمة، عن عدم الحشمة في الحياة والمسلك واللباس، وعن الإساءات للأبرياء، وعن الإهانات للكنيسة ورعاتها، وعن انتهاك حقوق الشعوب. تقبّل، أيها الرب يسوع، بشفاعة أمنا مريم العذرء شريكة الفداء، استعدادنا للتكفير والتعويض. أعطنا الثبات في مقاصدنا، لنبلغ مع المؤمنين المخلصين الى الوطن السعيد حيث تملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد، آمين ( صلاة البابا بيوس الحادي عشر).
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post