شفاء المخلع
يسوع المسيح طبيب الأرواح والأجساد
1 طيموتاوس 5/24؛6: 1-5
مرقس 2/1-12
نحن في بداية الاسبوع الخامس من مسيرة الصوم الكبير، الذي هو مسيرة توبة. وقد أدركنا الخطيئة ومعناها ونتائجها المميتة.
في شفاء الأبرص بانت الخطيئة كبرص النفس، وفي شفاء المرأة النازفة، بانت كنزيف للقيم الروحية والخلقية، وفي مثل الابن الضال بانت كابتعاد عن الله وتعلّق بالخلوقات. اليوم في آية شفاء المخلع تبدو الخطيئة تفككاً لقوى النفس وعجزاً عن السير والتحرك وفقاً لقيم الروح، كما يصفها بولس الرسول في رسالته.
كل هذه الشفاءات الجسدية بيّنت أن يسوع بقدرته الإلهية قادر وحده أن يشفي الإنسان من خطاياه المتنوعة. وكان البرهان الناطق، عن قدرة الله بالمسيح على مغفرة الخطايا من خلال شفاء المخلع.
أولاً، القراءات البيبلية
انجيل القديس مرقس 2: 1-12
بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ الـمَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله. فأَتَوْهُ بِمُخَلَّعٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَال. وبِسَبَبِ الـجَمْعِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الوُصُولَ بِهِ إِلى يَسُوع، فكَشَفُوا السَّقْفَ فَوْقَ يَسُوع، ونَبَشُوه، ودَلَّوا الفِرَاشَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مَطْرُوحًا عَلَيْه. ورَأَى يَسُوعُ إِيْمَانَهُم، فقَالَ لِلْمُخَلَّع: “يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!”. وكانَ بَعْضُ الكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ يُفَكِّرُونَ في قُلُوبِهِم: “لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هـذَا الرَّجُلُ هـكَذَا؟ إِنَّهُ يُجَدِّف! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟”. في الـحَالِ عَرَفَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هـكَذَا في أَنْفُسِهِم فَقَالَ لَهُم: “لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهـذَا في قُلُوبِكُم؟ ما هُوَ الأَسْهَل؟ أَنْ يُقَالَ لِلْمُخَلَّع: مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك؟ أَمْ أَنْ يُقَال: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَامْشِ؟ ولِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا أَنْ يَغْفِرَ الـخَطَايَا عَلَى الأَرْض”، قالَ لِلْمُخَلَّع: “لَكَ أَقُول: قُم، إِحْمِلْ فِرَاشَكَ، واذْهَبْ إِلى بَيْتِكَ!”. فقَامَ في الـحَالِ وحَمَلَ فِرَاشَهُ، وخَرَجَ أَمامَ الـجَمِيع، حَتَّى دَهِشُوا كُلُّهُم ومَجَّدُوا اللهَ قَائِلين: “مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هـذَا البَتَّة!”.
يسوع في بيت سمعان- بطرس في كفرناحوم، حيث اعتاد أن يقيم كما في بيته. احتشد القوم لسماع كلام الله، مولّد الإيمان. بقوة هذا الإيمان، وفي ضوء كلامه، قام ثلاثة رجال بمبادرة إيمانية ملفتة: ثقبوا السقف المكوّن من خشب وتراب، ودلّوا المخلّع مع سريره حيث كان يسوع.
مفتاح هذه الآية كلمة مرقس الإنجيلي: ” لما رأى يسوع إيمانهم”. الإيمان هو قدرة الإنسان على نيل كل ما يسأل الله ويطلبه منه. المبادرة الصامتة كانت ناطقة. فعلٌ منهم ورؤية من يسوع. لكن إيمان الإنسان يلقى عند الله تجاوباً وعطاء أكبر مما يطلب، وأوسع مما ينتظر.
لقد طرحوا المخلع أمام يسوع لإيمانهم بأنه قادر على شفائه. أما يسوع ففاجأهم بالشفاء الأكبر والأكمل والضروري، فشفا المخلع من الشلل الروحي الذي يعطّل العقل عن معرفة الحقيقة والعيش في نورها، والإرادة عن فعل الخير والالتزام به، والقلب عن الحب والرحمة والمشاعر الإنسانية. الشلل الحقيقي المميت هو العيش في الكذب والضلال والالتواء، وهو فعل الشر على تنوّعه، والحقد والضغينة والبغض.
بيت سمعان-بطرس اليوم هو الكنيسة حيث نلتقي المسيح في كلمة الإنجيل والقربان والتوبة وسائر الأسرار.
صحيح أن ” الله وحده” يستطيع أن يغفر الخطايا”، كما فكّر الفريسيون. الإنسان يستطيع ارتكاب الخطايا، والله يستطيع أن يغفرها. لكن البعض في أيامنا يقول: ” انا نفسي اشتكي على نفسي، ووحدي أستطيع أن أحلّ من خطاياي”.
بل هناك من ينكر وجود معضلة تُسمى خطيئة. وهذه علامة لفقدان الحسّ الأخلاقي في ثقافة اليوم. عن هؤلاء يتكلم بولس الرسول في رسالته لهذا الأحد: ” مِن الناس مَن خطاياهم معروفة وتسبقهم إلى القضاء. ومنهم من خطاياهم تتبعهم”، مثل ” الكبرياء ومرض السعي إلى المجادلات والمماحكات، والحسد والخصام، والتجديف وسوء الظن والنزاعات. هذه أفسدت ضمائر أصحابها، فتعرّوا من الحق، وحسبوا خوف الله تجارة (انظر 1طيم 5: 24؛6: 4-5).
ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، كاهن الخلاص والفداء يغفر الخطايا بقدرته الإلهية.
وسلّم هذا السلطان الإلهي إلى كهنة العهد الجديد الذين بواسطتهم يغفر الخطايا، وقد استحق هذا الغفران بموته لفداء الجنس البشري، وبقيامته لبعثهم للحياة الجديدة بالروح القدس.
آية شفاء المخلّع تقول لنا إن عندنا إلهاً يغفر الخطايا، وينساها ويمحوها ويجعل منا خلقاً جديداً، ويعطينا ورقة بيضاء لنكتب عليها صفحة جديدة من حياتنا. ينبغي أن نحوّل وخز الضمير إلى مديح وشكر لرحمة الله.
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع مصلوباً ( لو23: 33-39)
يسوع يُصلب على تلة الجلجلة مع مجرمين عن يمينه وشماله. فهتف: ” أبتِ، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون”. أما الجند فاقترعوا على ثيابه، والشعب يعاين بصمت، والرؤساء يتهكمون: ” أحيا آخرين! فليحيي نفسه إن كان هو المسيح مختار الله”! والجنود يهزأون: ” إن كنت ملك اليهود، فأحيي نفسك”!. ولص الشمال يشتمه: ” إن كنت أنت المسيح، فنجِّ نفسك، ونجّنا نحن أيضاً وكان فوق رأسه علّة صلبه: ” هذا هو ملك اليهود!”
لقد وعد يسوع ذات يوم: ” إذا ما رُفعت عن الأرض، اجتذبت إليّ الجميع” (لو12:23). ساعةُ صلبه حققت هذا الوعد. يسوع يتمم إخوّته الكاملة والشاملة، كأبن لله، مع الإسان الذي يتألم وينازع ويموت. وما من إنسان ألاّ ويمر بهذه الثلاثة:
فيما كان اللصان لا يشعران إلا بأوجاع المسامير، كان يسوع يشعر بألمه المقدّم لخلاص العالم. قلبه المطعون كان ينبض حباً خلاصياً.
ها نبوءة اشعيا تتحقق: ” طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شفينا… قرّب نفسه ذبيحة إثم” (اشعيا53: 5 و10).
بيديه الممدودتين فوق الصليب يضم الكون كله، مثل الدجاجة تجمع فراخها تحت جناحيها (لو13: 34).
في ساعة الغفران المتفجر من الصليب، كان لص اليمين يوبّخ رفيقه، ويعترف بخطأه وباستحقاقه عقاب الصلب، ويعلن براءة يسوع. وبروح التوبة والرجاء يهتف إلى يسوع: ” اذكرني يا سيدي متى أتيت في ملكوتك”.
ويسوع يستجيب بفيض من حبه ورحمته: ” الحق أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس” ( لو23: 40-43)
هذه اللحظة الأخيرة تفتح كل آفاق الرجاء أمام الخطأة، ولاسيما المزمنين المدمنين الرازحين في حالة الخطيئة الدائمة. إن محبة المسيح، التي تتجلّى فيها كل محبة الله، أقوى من كل خطيئة وشر.
بالمسيح صالح الله جميع البشر. ويدعوهم إلى سعادة الغفران والخلاص.
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم أسرار الكنيسة الخلاصية
نواصل في هذه السنة الكهنوتية إبراز وجه الكاهن ورسالته الكهنوتية من خلال خدمة أسرار الكنيسة للخلاص، كما جاء في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
الكاهن، باسم المسيح وبشخصه، يحيي ليتورجيا التدبير الخلاصي.
الليتورجيا هي الاحتفال بسرّ خلاصنا الذي يتحقق في الأسرار المقدسة، وهي بمثابة ينابيع تجري من محبة الآب ومن موت المسيح وقيامته وتبلغ إلينا حياةً جديدة بالروح القدس.
ولقد وصفها لنا يوحنا الرسول في رؤياه: العرش القائم في السماء الجالس عليه الله الرب، والحمل المذبوح وهو المسيح المصلوب والقائم، وينبوع ماء الحياة الجاري من عرش الله والحمل الرامز إلى الروح القدس (رؤيا 22: 1 ؛ يو4: 10-14).
إنها ليتورجيا السماء التي يقيمها المسيح الكاهن الأسمى في الهيكل الحقيقي الثابت أبداً، حيث يقدّم ذبيحة خلاص ورضى وشكران لله الآب بالروح القدس، ويعطي ذاته ذبيحة فداء، خبزاً روحياً لحياة العالم. ويشارك في هذه الليتورجيا السماوية الآباء والأنبياء والعذراء أم الإله ويوسف البتول والرسل وسائر القديسين.
أما على مذابح الأرض، فتحتفل الجماعة الكنسية بليتورجيا أسرار الخلاص. هذه الجماعة هي المسيح الكلي أي المسيح الرأس وأعضاء جسده الذين ولدوا من جديد بالمعمودية. تحتفل بها بالاتحاد مع كنيسة السماء الممجدة. هذه الليتورجيا الأرضية تعكس وتواصل الليتورجيا السماوية ” الآن وهنا”، بقيادة من أقيموا في درجة الكهنوت المقدسة ليحييوا ليتورجيا أسرار الخلاص باسم المسيح وبشخصه.
إن لكل واحد من أعضاء الجماعة الكنسية، الملتئمة حول المسيح في سرّ القربان، دوره الشخصي ما يستدعي منه مشاركة واعية وفاعلة
الكاهن هو رأس الجماعة، ممثلاً رأسها الحقيقي وكاهنها الأسمى ووسيطها الوحيد يسوع المسيح. إنه يحيي الاحتفال الليتورجي بورع وخشوع، مستحضراً الرب يسوع فاعل العمل الليتورجي مع سائر أعضاء جسده الملتئم حوله. ومن واجب الكاهن أن ينير العقول والضمائر، ويشرح العلامات والرموز المنظورة التي يتمّ من خلالها السرّ الخفي غير المنظور.
إنها علامات ورموز متنوعة. بعض منها مرتبط بالخلق كالماء والنار والشموع، والبعض الآخر بالحياة البشرية كالغسل والمسح بالزيت وكسر الخبز، والبعض الآخر بتاريخ الخلاص كطقوس الآلام.
إن هذه العناصر المادية، والرتب البشرية، والحركات التذكارية لعمل الله، تصبح بكلمة الإيمان وقوة الروح القدس أدوات تحمل عمل المسيح الخلاصي والتقديسي. تأخذ الرموز والعلامات معانيها من ليتورجيا الكلمة التي هي جزء مكمّل للاحتفال الليتورجي، تعلن وتُشرح بالعظة وتعليم الكنيسة
يحرص الكاهن ويعمل بشتى الوسائل على إشراك مؤمني رعيته في جميع الاحتفالات الليتورجية الخلاصية: في يوم الرب الذي هو الأحد، يوم القيامة والجماعة الليتورجية، ويوم العائلة المسيحية، ويوم الفرح والاستراحة من العمل؛ وفي السنة الطقسية التي يدور حول سرّ المسيح من التجسد والميلاد إلى الموت والقيامة،
فإلى الصعود الى السماء وحلول الروح القدس يوم العنصرة، وانتظار الرجاء السعيد لمجيء الرب؛ وفي إحياء تذكار القديسين، العذراء أم الله والرسل والشهداء والأبرار،
في أيام محددة من السنة الطقسية. الكنيسة على الأرض تبيّن بتذكارهم انها متحدة بليتورجيا السماء، وتمجد المسيح الذي أتمّ خلاصه في أعضائه الممجدين، وتعتبر أن مثلهم يشجعها في دربها إلى الآب .
صلاة
أيها الرب يسوع، اشفنا من شللنا الروحي، شلل العقل والإرادة والقلب. وقدّس آلام المتألمين في أجسادهم وأرواحهم.
أنت وحدك طبيب الأجساد والأرواح. أعطنا أن نجعل من آلامنا ومحننا وصعوباتنا وسائل تكفير عن خطايانا وشرورنا، انت الذي كفّرت عن كل واحد منا. ولتكن ذكرى صلبك، وأنت البريء، دعوة لنا وحافزاً لنتوب توبة لص اليمين.
وفيما نحن نحتفل بليتورجيا الأرض، ارفع عقولنا وأفكارنا وقلوبنا إلى ليتورجيا السماء، حيث تُمجّد أنت حملاً مذبوحاً ممجّداً تجري منه ينابيع أسرار الخلاص على أرضنا.
فترتفع من كل كنائس الأرض آيات التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
Discussion about this post