عِبَرٌ من إنجيل الأعمى
الأعمى الذي نستمدد من خبره ملاحظات هذه المقالة هو الواردُ ذكره في إنجيل يوحنا، الإصحاح التاسع، من الآية الأولى إلى الآية الثامنة والثلاثين. يُتلى هذا الإنجيل في الأحد الخامس بعد الفصح عندنا.
أول الكلام، في شأنه، أنّ العمى الجسدي، تحديداً، عَطَبٌ في جهاز البصر يحول دون تفاعل العين مع الضوء. ثمّ العين هي المطرح الذي يتجلّى فيه كيان الإنسان بامتياز. لذا الجسد عين أولاً. ومَعين العين القلب. القلب هو المركز.
وإذا كانت عين الجسد هي نافذة القلب إلى العالم الخارجي فالقلب نافذة العين إلى العالم الداخلي. بين العين والقلب، إذاً، توحّد. الكلام على الأعمى هو، بالأَولى، مؤشِّر إلى الكلام على القلب، على العين الداخلية. يسوع، في كل حال، كان يتكلّم على الحسِّيات ليبلِّغ سامعيه إلى الروحيات.
من هنا أنّ الحديث عن الأعمى لا يصيب المرمى إلاّ إذا ارتحلت أذهاننا إلى عمى القلب لدى الناس، وأدركنا أنّ العَطَب الأساس أصاب القلوب فأعتمت ولمّا يعدْ لكل عينِ قلبٍ أن تتفاعل مع نور الله النازل من فوق باستقامة. هكذا دخلت الخطيئة، أي الظلمة، إلى العالم وبالخطيئة دخل الموت.
كان الإنسان الذي اجتاز به يسوع أعمى منذ مولده. كل البشريّة، في ضوء ما تقدّم، تولد عمياء محرومة من نور الله. نور الله نقتنيه بالنعمة والجهاد. “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله“. ونور الله هو الله عينه. الله يأتينا، أبداً، كنور. “أنا هو نور العالم” (يو 8: 12).
“أنا جئتُ نوراً إلى العالم حتى كلُّ مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة” (يو 12: 46). إذاً، نحن، بالأحرى، بإزاء العالم كلّه راتعاً في الخطيئة، ناهداً إلى النور.
وسأل يسوعَ تلاميذُه: “يا ربّ، مَن أخطأ، أهذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟” وراء كل عاهة أو مصيبة أو ضيق خطيئة مردّها الشخص المعنيّ أو والداه. هذا في الظنّ. جواب يسوع سفّه هذا الحسبان. الموضوع أعمق من أن يُحصَر في المعتلّ وذويه.
“لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكنْ لتظهر أعمال الله فيه“. ربما يخطر بالبال أنّ الله هو مَن ضربه بالعمى ليأتي، من ثَمَّ، ويشفيه. هذا ظنّ ملتوٍ. كل البشريّة، بآدم وحواء، اعتلّت لأنّها انحرمت، عن سذاجة الجدّين الأوّلين، من نور الله.
ليس الله مَن رذلها، بدءاً، بل هي قطعت نفسها عنه. كل ما عانته البشرية كان نتيجة هذا الحرمان. واستمر الأمر كذلك إلى أن بلغ ابن الله المتجسِّد المنى. جاء ليصل ما انقطع ما بين الله والبشرية، لتظهر أعمال الله في ظلمة الإنسانية العمياء من جديد.
ليس العمى من الله بل البصر. العمى كان بالخطيئة. جاء يسوع ليردّ البصر إلى العيون التي سبق لها أن رفضت النور عن جهلٍ وعشقٍ للذات.
“قال هذا وتفل على الأرض وصنع من تفلته طيناً وطلى بالطين عيني الأعمى وقال له: اذهب واغتسل في بركة سلوام (الذي تفسيره المرسَل)”. هذا يردّنا إلى أول خلق آدم وحواء حين جبل الربّ الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفْساً حيّة (تك 2: 7).
التفل تراب وماء من السيّد. ولكنْ ماءُ السيّد روحُه. أن يطلي بالطين عيني الأعمى معناه، بالأحرى، أنّه يعطيه قلباً جديداً وروحاً جديدة وفق ما سبق فأنبأ به حزقيال: “وأُعطيكم قلباً جديداً في داخلكم… وأجعل روحي في داخلكم“. هكذا أضحى الأعمى مرسَلاً أي رسولاً، في الحقيقة. صار بمثابة بِركةَ سلوام يحدث عمَن أرسله. جلّ ما فعله أنّه أطاع واقتبل. “مضى واغتسل وعاد بصيراً“.
في الجدل الذي تبع، في البلبلة التي حصلت بين اليهود، كان الأعمى شاهداً ليسوع. والداه أخرسهما الخوف عن قول الحقّ. وحده هو واجه. بعض جيرانه أكّد أنّه هو إيّاه مَن كان يجلس ويستعطي. آخرون قالوا إنّه يشبهه. أما هو فأكّد: “إنّي أنا هو”. أجاب بوضوح، باستقامة. كان قلبه قد استنار لا عيناه الحسّيتان فقط. لم يخف. صار كأحد الآباء المدافعين رغم أنّ إيمانه لم يكن قد اكتمل بعد. “كيف انفتحت عيناك؟” “إنسان يُقال له يسوع صنع طيناً وطلى عينيّ…” خبّر بما حدث بلا مواربة.
جاؤوا به إلى الفرّيسيّين. حقّقوا معه. قالوا عن يسوع هذا الإنسان ليس من الله لأنّه لم يحفظ السبت. لم تتفق آراؤهم. سألوه ماذا تقول أنت عنه من حيث إنّه فتح عينيك؟ فقال: إنّه نبيّ. لم يصدّق اليهود إنّه كان أعمى. استمرّ الجدل. تابعوا الأخذ والردّ. ليس في العالم غير الجدل. كل رأي له رأي مضاد. اليقين لا يأتي من تحت. اليقين يأتي من فوق. إن لم يلمس الربّ القلب فعبثاً نتعب. لا وضوح في الرؤية ولا سلام. وأعاد اليهود الكرّة من جديد.
“ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينيك؟ هناك فرق كبير بين أن تحقّق في أمر وأنت في قرارة نفسك ترفضه وأن تحقّق فيه وأنت، في أعماقك، تلتمس الحقّ في شأنه. ليس الموضوع موضوع تحقيقات واستخبارات. الموضوع موضوع نيّة. قالوا عن يسوع إنّه إنسان خاطئ. تكلّموا كعن علم، كعن يقين لأنّهم لم يكونوا مستعدّين أن يؤمنوا به تحت أي ظرف.
جواب الأعمى كان بسيطاً ومفحِماً: “أخاطئ هو لا أعلم، إنما أعلم شيئاً واحداً أنّي كنت أعمى والآن أنا أُبصر”. قالوا إنّهم تلاميذ موسى وأما هو فلا نعلم من أين هو. فسفّه الأعمى عِلمهم وأبان جهلهم. قال لهم: “إنّ في هذا عَجَباً أنّكم ما تعلمون من أين هو وقد فتح عينيّ، ونحن نعلم أنّ الله لا يسمع للخطأة، ولكن إذا أحدٌ اتّقى الله وعمل مشيئته فله يستجيب”. أعطاهم درساً في اللاهوت.
صار لهم معلماً. قال لهم: “منذ الدهر لم يُسمع أنّ أحداً فتح عيني مولود أعمى. فلو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً”. في الحقّ هناك دائماً ما هو بديهي. فقط الذين لا يرومون الحقّ لا يبصرون. فلا عَجَب إن قال يسوع في اليهود: “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون” (يو 9: 39).
في نهاية المطاف لم يجد اليهود حجّة في مقابل حجّة الأعمى. قالوا له: “إنّك في الخطايا قد وُلدتَ بجملتك. أفأنتَ تعلّمنا؟” ليسوا مستعدين لأن يتعلّموا من الحقّ شيئاً جديداً لذا يقتلونه. أقفلوا على أنفسهم في جهلهم. والربّ أخزاهم بالأعمى فأصرّوا على عماهم. فكان أن أخرجوه خارجاً. جعلوه خارج الجماعة. حرموه. أما هو فلم يبال. بعدما سكن الحقّ فيه كيف يبالي بالأركان الضعيفة الواهية؟!
ثمّ إن يسوع التقاه من جديد بعدما أخرجوه خارجاً. لما تكلّم الأعمى مستقيماً واعترف بيسوع كإنسان وكنبيّ، أراد يسوع أن يُكمل الصورة لديه. “أتؤمن بابن الله؟” لم يسبق له أن سمع بابن الله. هو عرف يسوع وآمن به.
لذا كان جواب الأعمى: “فمَن هو يا سيّد لأؤمن به؟” كيانه كان منفتحاً كلّه على يسوع. كان مستعداً أن يقبل ما يقوله له يسوع. بالأَولى كانت النعمة هي تتكلّم فيه. لذا لما قال له يسوع: “قد رأيتَه [عن ابن الله] والذي يتكلّم معك هو هو”.
أجاب: “قد آمنت يا ربّ وسجد له”. هنا اكتمل العِقد. استبان يسوع في عيني قلب الأعمى إنساناً وسيّداً وربّاً وابن الله. وسجد له.
هكذا يكون الأعمى قد تبشّر بالروح والكلمة، فتمّ شفاؤه لا في الجسد فقط بل في النفس أيضاً. آمن وبذا ظهر عمل الله فيه. “وهذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله” (يو 6: 29). بعد ذلك صار كل شيء واضحاً جليّاً
No Result
View All Result
Discussion about this post