شفاء الأعمى – الرؤية الجديدة
2 كورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
نبدأ الأسبوع السادس من الصوم الكبير، وهو الأخير قبل عيد الشعانين، وفيه تذكارآية شفاء الأعمى، رمز التغيير في الرؤية. إنه يوم الرؤية الجديدة. الأعمى يعلن أن يسوع هو ابن داود الذي يرحم ويخلص. والشعب في أورشليم يهتف: ” هوشعنا، يا رب خلّص. مبارك الآتي باسم الرب”.
رسالة القديس بولس الرسول لهذا الأحد تدعونا إلى تصحيح الأفكار الخاطئة بنورالمسيح، وبالتالي إلى رؤية جديدة. وإنجيل شفاء الأعمى يعلن أن يسوع وحده يُعطينا هذه الرؤية الجديدة، لكونه نور العالم.
أولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والإنجيل
1. رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس/10/1-7
أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا. وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين. أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛ لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ الـمَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة، وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح. ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم. أِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذـلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
يشدد القديس بولس الرسول على فكرة أساسية هي: ” هدم الأفكار الخاطئة بإخضاع العقل إلى طاعة المسيح” (الآيتان 5 و6). هذه هي الغاية من مسيرة الصوم التي قامت على تحرير الذات مما هو عتيق في القول والمسلك والموقف. كانت الأصوام والإماتات تهدف إلى السمو على الغرائز والشهوات، “فلا نكون جسديين”، كما يقول بولس الرسول. إنه يميّز بين ” العيش في الجسد” والتصرف ” كأناس جسديين”. إننا نعيش في الجسد كبشر ولدنا فيه، وله قيمته ودوره في مسيرتنا التاريخية، لكننا لا نتصرف حسب رغبات الجسد التي تتنافى ومقتضيات الروح المعطاة لنا من الله، وبها خلقنا على صورته ومثاله.
إن النفس البشرية مزيّنة بالعقل والإرادة الحرّة، ما يجعل الشخص البشري مشدوداً إلى الله منذ الحبل به، ومعَّداً للسعادة الأبدية. من أجل هذه الغاية، عليه أن يتبع الشريعة الأخلاقية التي تحثّه على ” فعل ما هو خير، وتجنّب ما هو شرّ”. وهي شريعة يسمعها في عمق ضميره، ويعيشها بمحبته لله ولكل إنسان[1]. وهكذا ” يعيش في الجسد” لكنه “يسلك ويتصرف وفق مقتضيات الروح”. وبكلمة ” نحيا بالجسد، ولسنا جسديين” ( 2كور 9/3).
وكانت في مسيرة الصوم أعمال محبة ومصالحات ورحمة. هذه جعلتنا محررين من العيش بحسب الجسد، إذ أخرجتنا من الأنانية والانطواء على الذات، وفتحت لنا القلب واليد على حاجات الأخوة الضعفاء، الفقير والمحتاج، الحزين والمهمّش والمجروح في كرامته والأسير في حقده وبغضه.
وكانت أيام صلاة وتوبة، استغفار وغفران، حملتنا على تصحيح العلاقة مع الله والناس، بالتحرر من حالات الخطيئة والشر.
من أجل ذلك انتصرنا على الشرير الذي حملنا على الإفراط في الحرية، والسقوط في تجاريبه، وعمل الشر أمام الله، بقوة نعمة المسيح الذي حررنا بموته وقيامته من الشيطان والخطيئة، واستحق لنا الحياة الجديدة بالروح القدس. فنعمته ترمم فينا ما شوّهته الخطيئة[2]. هذا ما عناه بولس الرسول بقوله: ” نهدم الافكار الخاطئة، وكل شموخ يرتفع ضد معرفة الله، ونأسر كل فكر لطاعة المسيح” (2كور9/5-6).
هذه هي ” الرؤية الجديدة” التي نسعى إليها في مسيرة الصوم الكبير.
2. أعمى أريحا والرؤية الجديدة ( مرقس10/46-52).
بين الجمع الكثير الذي كان يتبع يسوع، وهو خارج من أريحا، متجهاً إلى أورشليم، واحد رآه على حقيقته هو الأعمى طيما بن طيما. كلهم عرفوه بعيونهم إنه يسوع الناصري، أما هو فعرفه بقلبه أنه ابن داود. ولما سأله يسوع: ” ماذا تريد أن اصنع لك “، أجابه بما أملى عليه إيمانه من فهم: ” رابوني، أي يا معلم، أن أبصر”.
الرؤية الجديدة هي رؤية القلب أي رؤية الإيمان المقرونة برؤية العقل. هذه هي هبة الفهم، إحدى مواهب الروح القدس. ليست الرؤية الحقيقية رؤية العين بل البصيرة الداخلية، بصيرة القلب والعقل: ” أؤمن لأفهم “، حسب مقولة القديس انسلموس. وجّه السيد المسيح ملامة اشعيا إلى الذين “ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون” (متى13/13): “سمعاً تسمعون ولا تفهمون. ونظراً تنظرون ولا تدركون. لأن قلب هذا الشعب بات غليظاً . فثقّلوا آذانهم، واغمضوا عيونهم ، لئلا يبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرتدوا فأشفيهم” (اشعيا6/9).
هذا ما حصل مع الجمع الذي سمع صرخة الأعمى: ” يا ابن داود ارحمني” لكنهم لم يفهموا، بل ” انتهروه ليسكت”. كانت صرخته بمثابة نداء لهم من فوق، فلم يدركوه. كانت مجرد صرخة سمعتها أذانهم، لا قلوبهم وعقولهم. هؤلاء لم يرتدوا إلى يسوع ليشفيهم من عمى قلوبهم وعقولهم، كما فعل الأعمى ليشفى من عمى عيونه، بعد أن شفي بالإيمان بيسوع من عمى البصيرة الداخلية. آية شفائه علمتهم أنهم هم العميان حقاً وأن الأعمى هو المبصر حقاً. والتفت يسوع إلى تلاميذه، أي المؤمنين به، وقال: “أما أنتم، فطوبى لعيونكم التي ترى ولآذانكم التي تسمع” (متى13/16).
العمى الحقيقي هو عمى الروح، منه يريد السيد المسيح أن يشفينا، والبرهان أنه قادرعلى ذلك هو آية شفاء الأعمى: بما أنه يستطيع أن يعطي نوراً للعيون المنطفئة، يستطيع أيضاً أن ينير القلوب والعقول والضمائر المظلمة. كلنا عرضة لهذا العمى. الصوم والسنة اليوبيلية البولسية هما زمن الشفاء من عمى الروح. إلى المسيح “النور الحق الذي ينير كل إنسان” (يو1/9)، نرفع صلاتنا: ” أضىء علينا بنور وجهك، يا رب ” ( مز4/7)، “فبنورك نرى النور يا يسوع النور”، وهكذا نصير، كما يقول بولس الرسول، “نوراً في الرب” و ” أبناء النور” (افسس5/8)، وبالتالي ، يقول بطرس الرسول: ” تصير نفوسكم مقدسة بالطاعة للحق، وتحبون بعضكم بعضاً حباً أخوياً بلا رياء” 1( بطرس1/22). هذا ما تضمّنه قول يسوع للأعمى: “اذهب، إيمانك خلّصك “.
الرب معنا في سرّ القربان، لينير طريقنا بشخصه وكلامه ونعمته ومحبته، فنشهد له الشهادة الصحيحة في أقوالنا وافعالنا ومواقفنا. الرؤية الجديدة هي أن نرتفع بالإيمان من المنظور والمسموع والمحسوس إلى الحقيقة الموحاة، إلى سرّ المسيح. هذا ما فعله أعمى أريحا، وما غفل عنه الجمع المرافق ليسوع. في الواقع، الإيمان لا يستند إلى الحواس، فمن يؤمن هو يؤمن بما لا يرى، كما يقول بولس الرسول: ” الإيمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه” (عبرانيين 11/1).
” وللوقت أبصر” ( مز10/52)
أبصر الأعمى بعينيه بعد أن كان مبصراً بإيمانه وعقله: آمن ففهم. كانت لديه المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل. ” يسوع الناصري” ليس عنده يسوع ابن يوسف النجار فقط بل هو “ ابن داود” أي المسيح المنتظر الذي كتب عنه الأنبياء. كتب البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة ” الإيمان والعقل”[3] في سياق شرحه لكلمة القديس انسلموس “أؤمن لأفهم”: ” لا يمكن الفصل بين العقل والإيمان، بدون أن يفقد الإنسان قدرته على أن يعرف ذاته، ويعرف الله والعالم معرفة وافية. إن معرفة احوال العالم وأحداث التاريخ معرفة راسخة لا تتم إلاّ إذا رافقها إعلان إيماننا بالله الذي يعمل فيها. فالإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف، في سياق هذه الأحداث، ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل” ( عدد16).
وانطلق معه في الطريق ( مر10/52)
بسبب معرفته ليسوع بالإيمان، بدأ الأعمى مسلكاً خلقياً جديداً. وجد عند يسوع الجواب على الخير والشر، ولا شك في أنه طرح ذاك السؤال الأساسي في حياة كل إنسان، الذي وجهه الشاب الغني إلى المسيح: ” أيها المعلم الصالح ماذا أصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية ” (متى19/16).
كل لقاء مع الرب يسوع يعطي الجواب الوحيد على هذا السؤال الذي يملأ رغبات قلب الإنسان. ولذلك ” أقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا اللقاء بالمسيح، لأنها هي تسعى إلى هذا فقط: أن يجد كلُ إنسان المسيحَ، لكي يكمل المسيح مسيرة الحياة معه”[4].
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص[5]
ضخ مني الرجل في البويضة (الفقرة 17).
هو معضلة ثالثة من تقنيات الإخصاب الاصطناعي، قوامها ضخ مني الرجل المصنّف سابقاً في البويضة. وقد أصبحت التقنية الأكثر استعمالاً وأهمية بسبب فعاليتها الأكبر، ولأنها تساعد على تخطّي أنواع مختلفة من عقم الرجال. معلوم أن هذه التقنية تتسبب بمخاطر على صحة الولد الذي حُبل به، وهي قيد الدرس حالياً لدى الاخصّائيين.
هذه التقنية غير جائزة من طبعها، مثل الإخصاب في الانبوب، وهي وجهه الآخر، لأنها تفصل بالكلية الإنجاب عن الفعل الزوجي. في الواقع إنها تجري خارج جسم الزوجين بأفعال أشخاص آخرين، يقرّر نشاطهم التقني بنجاح العملة: فهي تضع حياة الجنين وهويته تحت سلطان الأطباء وعلماء الحياة، وتستعيد تسلّط التقنيات على أصل الشخص البشري ومصيره. وهذا منافٍ للكرامة والمساواة اللتين ينبغي أن تكونا مشتركتين بين الأهل والأولاد.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريكي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي 14: التعليم المسيحي، ما يختص بأماكن التعليم المسيحي للأولاد وتنشئة الراشدين (الفقرات 19-27)، على مستويين: نقل الإرشاد الايماني والمحافظة على أصالته السليمة. هذه الأماكن هي ثمانية.
1. العائلة
هي المكان الأول والأساسي الذي يهيّء الأرض الخصبة للتعليم المسيحي ولتثقيف الإيمان، بجوّ من الصلاة في البيت والسلوك المستقيم وشهادة الحياة. والدور يعود إلى كل من الوالدين والأجداد والأخوة والعرّابين (فقرة 20).
2. الرعية
هي الخلية الثانية الأساسية لنقل مضمون الإيمان. يتاح فيها التعليم والتنشئة وفقاً للفئات المتواجدة فيها ولخصوصياتها: الأطفال، الفتيان، الشبيبة، المعاقين، المسنين، الخاطبين، الأخويات وسائر المنظمات الرسولية، المجالس الرعائية ولجان الأوقاف وسواها. فضلاً عن الدور الكبير في التعليم والتنشئة الذي تقدمه الاحتفالات والرتب الليتورجية (فقرة 21).
3. المدرسة وسائر المؤسسات التربوية
إنها تشكل مكاناً مميّزاً حيث تُعطى الأجيال الطالعة مع العلم والمعرفة، التراث الروحي والاجتماعي، وتتربى على الصلاح والحق، وتنمو بالحكمة والنعمة، وتبني مدينة الأرض على قيم الملكوت الروحية والمسيحية.
ولا بدّ من ذكر الدور الكبير الذي تقوم به معاهد التثقيف الديني للكبار في مختلف الأبرشيات والرهبانيات ( فقرة 23).
4. الأديار وأمكنة الحج والمزارات الوطنية
تشكل واحات روحية لتثقيف الإيمان وممارسته وللخلوات الروحية، التي يستفيد منها كل فئات شعب الله.
5. وسائل الإعلام
نذكر بنوع خاص تليلوميار ونور سات وإذاعة صوت المحبة التي تشكل مدرسة إيمان وصلاة، وتنقل غنى تراثنا الروحي والكنسي والليتورجي. ولا بدّ من الإشارة الى البرامج الدينية في الغذاعات والتلفزيونات المدنية ( فقرة 25).
6. المستشفيات
هي المكان المهمّ لتثقيف المرضى وأهلهم عن مفهوم الألم وأهمية الإيمان بالله، طبيب الأرواح والاجساد، ولتعليم اخلاقيات الطب والحياة للاطباء والجسم التمريضي، ولحماية الحياة البشرية، والدخول في عمق سرّ الوجود النابع من الله (الفقرة 26).
7. السجون
هي المكان الأمثل للحضور المسيحي والإنساني، وللوقوف امام الذات بحضور الله وعدله وعنايته. إن العمل الروحي والتثقيفي الإيماني للمساجين كفيل بتغيير مجرى حياتهم ( فقرة 26).
8. المؤسسات المدنية على تنوعها
تشكل فسحات مهمة للغاية حيث يستطيع المسيحيون أن يشهدوا للمسيح في كيفية تعاطيهم الوظيفية بروح الخدمة المتجردة والسخية، وأن يكونوا في هذه المؤسسات بمثابة الملح في الطعام والخميرة في العجين ( الفقرة 27).
***
الصلاة
أيها الرب يسوع، أنت النور الذي ينير كل إنسان آتٍ إلى العالم، أنرنا بنور شخصك وكلامك وآياتك، لنحظى بالرؤية الجديدة. اقبل صومنا وصلاتنا وأعمال محبتنا، وأهلنا بها لنهدم كل الأفكار الخاطئة ونعيش في طاعة الإنجيل، بعقل واعٍ وإرادة حرّة. ألهم رجال العلم وأهل الطب على احترام الجنين البشري المولود من هبة الزوجين المتبادلة في سرّ اتحادهما العميق روحاً وجسداً. ولتكن تقنيات الطب في خدمة الحياة البشرية وحمايتها والمحافظة عليها ونموها. وليبق تعليم الغنجيل والكنيسة مزدهراً في العائلة والمدرسة والرعية ووسائل الإعلام، لكي يصل النور الإلهي إلى جميع الناس ويهتدوا به نحو كل حق وخير وجمال. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين
Discussion about this post