شفاء الأعمى
المسيح نور العقول والقلوب
2 قورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
بلغنا مع هذا الأحد الأسبوع السادس والأخير من زمن الصوم الكبير، آملين في ختام هذه المسيرة من الصلاة والصوم والتصدق أن نلتقي يسوع المسيح، وندرك أنه يشفينا من العمى الروحي، كما شفى أعمى أريحا، وأنه يعطينا رؤية جديدة للوجود والحياة والتاريخ، تهدم الأفكار الخاطئة وتحدّ من المسلك المنحرف، على ما يقول بولس الرسول في رسالة هذا الأحد.
أولاً، القراءات البيبلية
إنجيل القديس مرقس 10: 46-52
بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ابْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق. فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: “يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!”. فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: “يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!”.فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: “أُدْعُوه!”. فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: “ثِقْ وانْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك”. فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع. فقَالَ لَهُ يَسُوع: “مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟”. قالَ لَهُ الأَعْمَى: “رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!”. فقَالَ لَهُ يَسُوع: “أبصِره! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ”.
ما يميّز أعمى أريحا عن الجمع الغفير المرافق ليسوع، إيمانه بشخص يسوع، وثقته به، ومعرفته على حقيقته. فعندما سأل الأعمى عن الشخص الماّر وسبب هذه الجمهرة، أجابوا أنه ” يسوع الناصري”، الذي هو بالنسبة إليهم رجل غير عادي، لكنه مجرد ” رجل” لا غير. أما الأعمى ” المبصر” بإيمانه فناداه بلقب من صلب جوهره: “يا ابن داود، ارحمني”، أي أيها المسيح المرسل من الله إشفني. لكن الناس الجاهلين ليسوع، غضبوا على الأعمى وألزموه بالسكوت لازدرائهم به واحتقاره. أما هو فازداد صياحاً: ” يا ابن داود ارحمني”.
“توقف” يسوع لأن صراخ الأعمى المؤمن والواثق والعارف مسّه في الصميم، وأمر الذين أرغموه على السكوت بدعوته إليه. ففعلوا بكلمة لطيفة: ” تشجّع، قم، إنه يدعوك”. وكان الحوار بين يسوع والأعمى، أراده الرب كشفاً وامتداحاً لإيمان الأعمى. سأله يسوع: ” ماذا تريد أن أصنع لك؟” فأجاب جواب الثقة والإيمان والمعرفة الصامدة: ” ربّي، أن أبصر”. فشفاه يسوع بكلمة: ” أبصر”. وأعلن سرّ هذا الشفاء: ” إيمانك أحياك”. فكانت له رؤية جديدة ومسلك جديد عبّر عنهما مرقس الإنجيلي في ختام هذه الآية: : ولساعته أبصر، وانطلق معه في الطريق”.
العمى الحقيقي، الذي يريد الرب يسوع أن يشفي منه، هو عمى البصيرة والقلب الذي يُصاب به كل واحد منا، بل كل إنسان بالمطلق. ما نحتاج إليه هو عين الإيمان. يعطى لنا في المعمودية المسمّاة “بالاستنارة”. فالمعمدون يقال عنهم ” المستنيرون”.
الإيمان هو أن أؤمن بشخص يسوع المسيح، إيماناً كاملاً وناضجاً بانه ابن الله، مخلص العالم وفادي الإنسان.
في آية شفاء أعمى آخر في أورشليم على بركة شيلوحا بمبادرة من يسوع (يوحنا 9: 6-7)، تتبيّن لنا المراحل الثلاث لمسيرة الإيمان بالمسيح الذي يبلغ كماله ونضجه. عندما سأله الناس الذين كانوا يعرفون الأعمى عن كيفية انفتاح عينيه، أجاب: ” رجل” اسمه يسوع جبل وحلاً…” (يو9: 11). إنه بالنسبة إليه رجل ولا شيء آخر. وعندما سأله الفريسيون ماذا يقول عن هذا الرجل، أجاب: ” أنا أقول إنه نبي” (يو9:17). وعندما التقاه يسوع ثانية، وكشف له انه ” ابن الله”، ” سجد له الأعمى وقال: أنا أؤمن يا رب” (يو9: 27-28).
نرجو نحن، عبر مسيرة الصوم التي دامت إلى الآن خمسة اأسابيع، أن نحقق “وثبة” أعمى أريحا، وأعمى أورشليم، فنصبح مسيحيين حقيقيين، بالمعنى الحقيقي، عندما نعلن أن يسوع هو الرب، ونعبده كإله.
أكون مسيحاً حقاً لا عندما اعترف بأن يسوع رجل غير عادي، وأنه نبي بامتياز قد فتح للعالم آفاقاً جديدة روحية وأخلاقية؛ هذا يقرّ به جميع الناس، من مسيحيين وغير مسيحيين، بل عندما أبحث عنه مثل أعمى أريحا طالباً شفائي الشخصي من عماي الروحي والأخلاقي والاجتماعي بنور الإنجيل وتعلم الكنيسة ونعمة غفران الخطايا والحياة الجديدة بالروح القدس، بواسطة خدمة الكنيسة في الأسرار المقدسة؛ وعندما أعبده بالروح والحق والممارسة الدينية، مثل أعمى بركة شيلوحا؛ وعندما أسلك طريقاً جديداً غير الطريق القديم المنحرف، كما سلك الأعميان.
ليست المسيحية فقط إيماناً بمجموعة حقائق موحاة علّمتها الكنيسة، بل هي قبل كل شيء إيمان بشخص المسيح الذي قال: ” أمنوا بالله، وآمنوا بي” (يو14: 1). فالمؤمن الحقيقي بالمسيح يحبه، ويحفظ تعليمه، ويؤمن بما تعلّم كنيسته، ويحب الكنيسة.
هذا الإيمان بالمسيح وبما تعلّم الكنيسة هو أساس العلم الذي يساعد على فهم ما نؤمن به، لا العكس. فالعلم لا يولّد الإيمان، بل الوحي الإلهي يولّد الإيمان، والإيمان ينير العلم. الإيمان والعقل هما الجناحان اللذان يطير بهما الإنسان إلى معرفة حقيقة الله والإنسان والتاريخ.
يدعونا بولس الرسول في رسالته الى المسلك الجديد بفضل رؤية الإيمان: ” إن كنا نسعى بحسب الجسد، لسنا نعمل بحسب الجسد، لأن سلاح علمنا قوّة الله، به نهدم الحصون المنيعة، وننقض الأفكار، وكل علوّ يرتفع ضد معرفة الله، ونعيد كل ضمير إلى طاعة المسيح” (2كور10: 3-5).
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح
نتأمل يسوع فوق الصليب وأمامه أمه والتلميذ الحبيب.
ورأى يسوع من على صليبه مريم أمه وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لأمه: ” يا امرأة، هذا ابنك”. ثم قال للتمليذ: ” ها هي أمك”. وللوقت أخذها التلميذ إلى بيته (يو19: 25-27).
جال في خاطر مريم ام يسوع كل ما كانت تحفظه في قلبها من أقوال: نبوءة سمعان الشيخ والطفل يسوع ابن أربعين يوماً: ” أما أنتِ فيجوز بنفسك رمح، لتنجلي مضمرات قلوب الكثيرين” ( لو2: 35)؛ وكلمة الصبي يسوع في الهيكل لها ولأبيه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة: “لماذا تبحثان عني؟ ألا تعلمان أنه يجب عليّ أن أكون في بيت أبي؟” (لو 2: 49).
وأدرك أن الساعة أتت لتحقيق هذه الكلمات. فكما قالت : نعم، يوم البشارة لإرادة الله، قالت أيضاً على اقدام الصليب ” نعم” للإرادة الإلهية عينها، بإيمان ورجاء ومحبة. وعلى مثال ابنها، قبلت آلام الفداء بحب كبير، وتمزّق في القلب مرير، وحدها الأم تعرفه، ولا يستطيع أحدٌ وصفه. وبهذا استحقت أن تدعوها الكنيسة ” شريكة الفداء”.
وكما بألم المخاض الذي تحمّله يسوع ابنها، فوَلدت الكنيسة، البشرية الجديدة، مثل السنبلة من حبة القمح المائتة في الأرض (يو12: 24)، كذلك مريم بألم المخاض، أصبحت أم جسده السرّي، الكنيسة، وأم كل إنسان، بشخص يوحنا التلميذ الحبيب.
من هذا المشهد تصبح آلام كل إنسان، أعابرة كانت أم مزمنة، آلآم مخاض، إذ لا بدّ من أن يولد منها شيء جديد. لقد أعطت مريم لكل أم معنى عندما تفقد ابناً لها او ابنة. فتفتح قلبها على أمومة شاملة. وجاءت مريم تعزي كل ابن أو ابنة بفقد أمه، بأن له بشخص مريم مؤكّدة أن في السماء تسهر على رحلته على وجه الأرض، إلى أن يبلغ ميناء الخلاص.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم أسرار الكنيسة الخلاصية
الكاهن، خادم أسرار الخلاص، هو حارس الكنيسة بيت الله، التي يجد فيها مكان إقامته المميّزة. ففي بيت الله هذا يجتمع المؤمنون، ويؤلفون الكنيسة المنظورة التي يسكن فيها الله مع الناس العائشين المصالحة والوحدة بالمسيح.
إن الكاهن، عبر هذه المهمة، يساعد المؤمنين ليؤلفوا هيكل الله الروحي. بحيث يكونون ” حجارة حيّة” يتكون منها ” البيت الروحي” (1 بطرس 2: 4-5)، ويؤدون العبادة لله ” بالروح والحق” (يو4: 24). ويعتني ” ببيت الله”، ليكون مكاناً لائقاً للصلاة والرتب المقدسة، ولائقاً بالقربان المقدس، حيث يجتمع المؤمنون ويحتفلون بحضور ابن الله مخلصاً، والمقدّم من أجلنا على المذبح لمصالحتنا وعزائنا[8]. عناصر بيت الله هي التالية:
المذبح هو صليب ربنا الذي تجري منه أسرار الخلاص. عليه تتم ذبيحة الصليب وتحضر تحت العلامات الاسرارية. وهو مائدة الرب المدعو إليها شعب الله. وهو كذلك رمز قبر المسيح الذي مات حقاً وقام حقاً.
بيت القربان يحتل المكان الأوفر كرامة ولياقة في الكنيسة، حيث يُحفظ فيه جسد الرب، وأمامه تتم عبادة المؤمنين.
الميرون المقدس يحفظ أيضاً في مكان لائق، لأنه العلامة الاسرارية لطابع الروح القدس وفعله، ويحفظ معه زيت العماد ومسحة المرضى.
المنبر او البيما هو الكرسي الذي يمارس منه الكاهن خدمته في قيادة الجماعة المصلية وإدارة الصلاة.
القرّايات هي المكان الملائم لإعلان الكلمة، والمنظور من جميع المؤمنين بسهولة.
حوض المعمودية يحتل مكانه على مدخل الكنيسة، لأن فيه تتم الولادة الثانية من الماء والروح، ويبدأ أول تجمع للمؤمنين، والدخول الى الكنيسة جماعة المعمدين.
كرسي الاعتراف والتوبة يحتل أيضاً مكاناً لائقاً في الكنيسة لأنه يكمّل سرّ المعمودية. فإن مواعيدها تتجدد في سرّ التوبة والمصالحة.[9]
صلاة
أيها الرب يسوع، أنت نور العقول والقلوب، فاشفنا من عمى البصيرة والقلب لنعرفك ونسير على طريقك، طريق الحق والخير والجمال. نوّرنا بأنوار صليبك الخلاصي، لكي على مثال مريم أمك نشارك في آلآم الفداء من خلال صليب المرض والفقر والهموم، ونجد في قلب أمك وأمنا العزاء والرجاء بولادة جديدة. في هذه السنة الكهنوتية، اعضد الكهنة لكي يساعدوا جميع الناس ليصبحوا هيكلاً روحياً لله. فنرفع جميعنا المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post