أحد الشعانين
“لما سمعوا أن يسوع صاعد إلى أورشليم، خرجوا إلى ملاقاته”
1- الرب يسوع يصعد إلى أورشليم للمرة الأخيرة. لكن صعوده هذه المرة يحمل الكثير من المعاني، ويُنبئ بأحداث تحقّق تصميم الله الخلاصي، ويفتح صفحة جديدة في تاريخ البشر. فما معنى هذا الصعود الأخير إلى أورشليم؟ وماذا يقتضي منا؟ وأي أحداث خلاصية ينبئ عنها؟ نرجو ان نخرج نحن إلى ملاقاته، مثل جمهور المعيّدين الذين “لما سمعوا أنه صاعد إلى أورشليم، خرجوا إلى ملاقاته، حاملين أغصان النخل والزيتون”.
2- يسعدني أن أحيّيكم بعد عودتي من روما مع إخواني السادة المطارنة والرؤساء العامين والكهنة والآباء الذين رافقوني. وقد انضمّ إلينا، بمبادرة عفوية عدد كبير من الشخصيات اللبنانية، مسيحيين ومسلمين، وزراء ونوابا من مختلف الكتل النيابية والأحزاب والألوان السياسية، ورؤساء المؤسسات المارونية المدنية، وعلى رأسهم ممثل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. وكانت غاية هذه الزيارة الأولى الإعراب عن الشركة الكنسية بين البطريرك الجديد وقداسة البابا، وبين الكنيسة المارونية والكنيسة الجامعة. فإني ارفع صلاة الشكر لله، على يد امنا وسيدتنا مريم العذراء، سيدة بكركي وسيدة لبنان. وأعرب عن امتناني الكبير لكل الذين حقّقوا معي هذه الزيارة، ومثّلوا كنائسنا وطوائفنا ووطننا خير تمثيل، وعشنا معاً جمال “الشركة والمحبة” وفرحها. ولا بدّ من أن أذكر بالشكر كل الذين، من أفراد وجماعات ومؤسسات، نظّموا الزيارة وما رافقها من احتفالات ولقاءات، بكثير من السخاء والمحبة. كما نشكر كل وسائل الإعلام والإعلاميين والإعلاميات الذي رافقونا وغطّوا كل وقائع الزيارة. كافأ الله الجميع بفيض من نعمه وبركاته الروحية والزمنية.
3- أول ما يعني لنا صعود الرب يسوع الأخير إلى أورشليم، هو اتباعه في طريقه الصاعد. بعد أن فتح عيني الأعمى في أريحا التي هي على انخفاض 250 مترا تحت مستوى البحر، وأقام لعازر من القبر في بيت عنيا، صعد يسوع إلى المدينة المقدسة التي تعلو 780 مترا عن سطح البحر. إنها علامة حسيّة لمعنى روحي عميق. انحدر ابن الله إلينا متجسّدا من مريم البتول بقوة الروح القدس، لكي يصعد بالانسان، كل إنسان، إلى مراقي السموّ في الإنسانية والقيم حتى تكتمل صورة الله فيه، ويرسم لنا خريضة الطريق المؤدّي إلى الآب، وهو المسيح الطريق عينه الذي يقودنا إلى الحقيقة والحياة الأوفر. وهكذا الطريق الحسّي الخارجي يصبح طريقا داخليا لوجودنا الذي يكتمل بكل أبعاده على خطى يسوع.
4- هذا الطريق في اتباع يسوع يقتضي منا السير معه نحو الحياة في الحقيقة التي تحرّر وتجمع؛ نحو الشجاعة في الدفاع عمّا هو حق وعدل وصلاح؛ نحو الصبر الذي يحتمل ويسند الآخر؛ نحو الجهوزية الدائمة لخدمة المصابين بمرض أو إعاقة، وأولئك الذين في الحاجة والعوز؛ نحو الأمانة في الوقوف إلى جانب الآخر عندما يصبح في حالة صعبة؛ نحو الجودة التي لا تتراجع أمام نكران الجميل؛ نحو المحبة، فنحو الله الذي نسأله ان يجتذب إلى هذا الطريق كل الذين يتعاطون الشأن العام، ليصعدوا بلبنان وشعبه إلى قمم الاستقرار والتقدم والاكتفاء.
5- أما الاحداث الخلاصية فقد أنبأ عنها الرب يسوع أولئك اليونانيين، الذين سألوا أن يروه بصورة حبّة الحنطة التي، إذا وقعت في الأرض وماتت، أعطت ثمراً كثيرا”. لقد أنبأهم عن سرّ موته على الصليب، وقيامته من بين الاموات التي تولد منها البشرية الجديدة المتمثّلة بالكنيسة، وهي مملكته الجديدة، مملكة الشركة والمحبة. فبتجسّده اتّحد ابن الله وابن الإنسان، نوعا ما، بكل انسان، ودخل في شركة معه، ليمشي معه طريق الوجود، ضامنا له الوصول إلى ميناء الخلاص. وبموته فداء عن كل إنسان، بلغ ذروة المحبة، اذ “ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه”. وبقيامته من بين الأموات، أدخلنا في شركة مع الله وبالتالي مع بعضنا البعض. هذه هي “الشركة والمحبة” التي نعمل على تحقيقها في بعدها العمودي أعني الاتحاد بالله، بالصلاة والتأمل ونعمة الأسرار. وفي بعدها الأفقي أي الوحدة مع جميع الناس على أسس المحبة والحقيقة، العدالة والحرية. “شركة ومحبة” في العائلة والكنيسة، في المجتمع والوطن.
إن مملكة المسيح الجديدة قائمة على التواضع الذي ينتزع الخوف من القلوب. ولقد دلّ على ذلك دخوله راكبا على جحش ابن أتان، ومناديا شعبه : “لا تخافي يا ابنة صهيون”. إننا نلتمس اليوم من “المسيح الملك الجديد الآتي باسم الرب”، تواضع الدخول في “جماعة نحن” التي هي الكنيسة، وتواضع” أن أكون مع الآخر” و”من أجل الآخر”.
6- إننا نحتفل مع الأطفال والأجيال الطالعة برتبة تبريك الشموع وأغصان الزيتون، والشعانين عيدهم، راجين لهم ولنا، بفضل الشركة الروحية والاسرارية مع المسيح، أن نحمل ما ترمز إليه هذه العناصر: نور الحقيقة والمحبة المتفانية والسلام الدائم.
وفيما نتمنى أن نكون قد وصلنا إلى ميناء الخلاص، عبر مسيرة الصوم المقدس، نسأل الرب يسوع أن يدخلنا في سرّ آلامه، ويشرك كل آلام البشر في آلامه الخلاصية، ويعطينا ان نموت معه عن خطايانا وشرورنا، ويقيم قلوبنا ونفوسنا إلى الحياة الجديدة. ورجاؤنا أن نلبّي دعوة القديس بولس الرسول في رسالة اليوم :“إن تزداد محبتنا عمقا في المعرفة والفهم، فنختار الأفضل، ونصير أنقياء، لا لوم علينا، ممتلئين من ثمر البرّ بيسوع المسيح، لمجد الله وحمده” (فيل1:9- 11)، آمين.
Discussion about this post