مملكة يسوع
“سلام الله الفائق كلّ عقل يحفظ قلوبكم”
“أوصنّا” مبارك الآتي باسم الربّ، هكذا هتف الشعب يوم دخل الربّ يسوع إلى أورشليم، فاستقبلوه بالشعانين استقبال الملك الظافر والعائد إلى وطنه!
ولكن بعد أيّام سيصرخون لبيلاطس “اصلبْه اصلبْه”! لأنّ يسوع لم يجلب لرؤساء الكهنة والشعب “الغنائم” التي كانوا يشتهونها.
لقد كان ثمن تصريح يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم”، أن يرفعه اليهود على الصليب لأنّهم يريدون ملكاً مملكتُه في هذا العالم.
كان بيلاطس، الوالي الرومانيّ المستعمِر، متواجداً في أورشليم لحفظ الأمن أيّام العيد بسبب الجمهرة الكبيرة التي كانت تحصل في مثل هذه المواسم. وكان قد سمع كيف استقبل الشعب يسوع كملك.
لذلك عندما صلبه وضع علّته: “ملك اليهود”. لكن رؤساء الكهنة اعترضوا آنذاك على هذه الكلمات. بينما ألحّ بيلاطس هزءاً بهم وبيسوع أن يكتب هذه العبارة ليقرأها الجميع.
تحمل هذه الكلمة معنى عميقاً جدّاً لا ينحصر في تصوير الأحداث التاريخيّة التي جرت تلك الأيّام. لأنّه عند لحظة صلب يسوع، وكتابة هذه “العلّة” انفتح تاريخ جديد بالكليّة في زمن العبادة والأديان.
هناك طريقتان في العبادة، تلك التي قبل “ملك اليهود”، وهذه التي لـ “ملك اليهود”! تلك التي لمملكة هذا العالم، وهذه للملكة التي ليستْ من هذا العالم.كانت العلاقة بين الله الإنسان قبل الصلب تتمحور حول “الشريعة”.
فالشريعة كانت تحدّد لله دورَه وللانسان دورَه. فذاك يتعهّد بخلاص الإنسان وحمايته ورحمته وهذا الأخير يتعهّد بحفظ وصايا ومتطلّبات الشريعة الدينيّة الطقسيّة والأخلاقيّة الاجتماعيّة. ولطالما زاغ كلّ طرف عن دوره عندما لم يحقّق الطرف الآخر دوره أيضاً. ولم يكن حظّ الله أفضل مما جاء في شريعته “العين بالعين والسنّ بالسنّ”.
ولما كانت الشريعة تحدّد الواجبات لله وللإنسان من جهة، وكان الإنسان كسولاً في طبعه مرّات عديدة من جهة أخرى، وكانت العلاقة ذات طبيعة “مقايضة”،
تفنّن الإنسان في إيجاد الطرق الأربح له في هذه المقايضة. كانت الشريعة تحدّد الحدّ الأدنى من الواجبات التي على الإنسان حفظها ليبقى الله إلهاً له. وكان الناس يقايضون ويفتحون “بازاراً” على حدود هذه الواجبات، بحيث ينالوا الأكثر من النِعَم مقابل الأقلّ من التقدمات.
ووصل الشعب ورؤساء الكهنة لحدود يتلاعبون فيها على الأنظمة والشرائع جعلوا الله فيها خاسراً كبيراً وجعلوا أنفسهم الرابحين بامتياز. ولم تكن هذه حالة اليهود وحدهم آنذاك، بل إنّ هذه هي التجربة الأبديّة في كلّ دِين أساسه الشريعة ورباطه الناموس.
لننظرْ إذن كيف تحايل الناس على الشريعة فحقّقوا مآربهم الشخصيّة باسم الشريعة. لقد كان السبب الحقيقيّ الذي دفع رؤساء الكهنة اليهود إلى الحكم على يسوع بالموت هو أنّ يسوع قسمَ الشعب قسمَين، بين مؤمنين به ومشكِّكين. فوقف “قيافا” وأعلن أنّه من الأفضل أن يموت واحد عن الشعب.
لأنّه إنْ تفكَّكت الأمّة كان قيافا يخشى أن يأتي الرومان ويقضون عليهم. ولكن رؤساء الكهنة حرّضوا الشعب وطلبوا من بيلاطس في محاكمة يسوع
أن يصلبه لأنّه مستوجِب الموت “حسب الشريعة”. فاستخدموا الشريعة التي لم يكن بيلاطس على اطلاع بها، ولم تكن هذه الشريعة قادرة على إدانة يسوع.
لا بل اكتشف بيلاطس دون هذه الشريعة براءة يسوع. وأسلمه إليهم خوفاً من فوضى تدبّ في الشعب آنذاك. يؤكّد الكتاب المقدّس أنّ :
رؤساء الكهنة “كانوا يبحثون عن علّة” ليحكموا عليه، ولم يجدوا.
ولكن كان على يسوع أن يموت عن الشعب. هكذا خفى رؤساء الكهنة مصالحهم السياسيّة وراء استخدام كلمة “شريعة” أمام بيلاطس. فلم يكونوا بذلك يطيعون الله بواسطة الشريعة بل كانوا يستخدمون شريعة الله لتحقيق مآربهم،
ويطوّعون الشريعة لأهدافهم. فأفسدوا هكذا عمق العلاقة مع الله وهي الطاعة له.
كان يسوع ابناً لله وعابداً حقيقيّاً، أطاع حتّى الموت موت الصليب. وصرخ على الجبل “إنْ أمكن أبعد عنّي هذه الكأس، ولكن لا تكنْ مشيئتي لكن مشيئتك”. “هذا هو الإنسان” والعابد الحقيقيّ، لهذا به “سُرَّ الله الآب”.
يسوع افتتح الشكل الجديد والثاني للعبادة والعلاقة بالله. لقد كان “البكر” في كلّ شيء. العلاقة التي يؤسِّسها يسوعُ اليوم على الصليب لا تبتغي الحدّ الأدنى من التقدمات لله، ولكن تقدِّم الحدّ الأقصى. فالدِّين هنا ليس الواجبات التي نتفنّن في تخفيفها بل هو الحبّ الذي نتفنَن في تعظيمه. كلمة يسوع “ليس حبٌّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه فدية عن أحبّائه”
تشرح سرّ العلاقة الجديدة، والدِّين الجديد. في العبادة الجديدة نعمل بطريقة الحدّ الأعظم وليس الحدّ الأدنى. وهذا الحدّ الأعظم لا تطلبه الشريعة ولا تفرضه الوصايا الإلهيّة؛ لكن يقدّمه القلب البشريّ المحبّ.
لم يُنـزل يسوع وصايا من السماء ليفرض على البشر طاعتها. إنّما رفع يسوع ذاته على الصليب فاجتذب البشر إليه. ما ينـزل هو شريعة يقابلها الناس بالرّياء والحدود الدنيا من الواجبات.
لكن مَن ارتفع جذب الجميع إلى بذل الحدود القصوى. وتمتاز الطرق الجديدة في العبادة بأمرَين أساسيَّين الأوّل هو الحريّة والثاني هو العزّة والمجد.
هكذا تقدّم يسوع إلى آلامه بحريّته. ولطالما صرّح يسوع أن له سلطاناً أن يبذل نفسه وله سلطان أن يستردّها. وروايات الآلام تكرّر كثيراً “كان يسوع يعلم أنّ كلّ شيء قد تمّ” في العشاء وقبل القبض عليه وعلى الصليب. كما أنّه أنبأ تلاميذه ثلاث مرّات عن تفاصيل “ساعته”.
لقد كان بمستطاع يسوع ألاّ يأتي هذا العيد إلى أورشليم كما نصحه تلاميذه. لكنّه كان ماضٍ إلى أبيه ويعرف تماماً ما سيجري لهذا قال للتلاميذ “مَن يسير في النور لا يعثر”.
أراد اليهود مرّةً أن يرجموا يسوع فللوقت اختفى عنهم، لأنّ ساعته لم تكنْ قد حضرت، وذلك بقدرته الإلهيّة. وهنا في ساعات المحاكمة والصلب كان بالطبع بمقدوره أن يتجنّب ذلك، لكنّه يريد كلّ ما تمّ لأنّه سيقدّم بذلك “الحبّ الأعظم”. هذا الحبّ الأعظم يبدّل المعايير.
لذلك لا يتكلّم الكتاب المقدّس عن القبض على يسوع بقدر ما يتكلّم عن تسليم يسوع ذاته. فقساوة ووحشيّة القابضين على يسوع في الإنجيل لا تغطي وجه الحريّة المطلقة التي كانت ليسوع حين أسلم ذاته إليهم. “لقد شرب الكأس التي كانت له” بحريّته.
لم يدافع عن نفسه ولم يهرب ولم يتردّد لأنّ الساعة كانت قد حضرت وكلّ شيءٍ قد تمّ. لم يصلْ مكرُ اليهود بيسوع إلى الصلب وإنّما قادته حريّته إلى ذلك لأنّها كانت مشبَعة بحبّه الأعظم.
لهذا، هذه الحريّة في تبني المسؤوليّات، الصغار والعظام، تحافظ للإنسان وللعابد عموماً على كرامته ومجده أمام الله. وإنْ بدا يسوع في الأناجيل رجل الآلام، رجلاً مشرّداً متروكاً وضعيفاً، إلاّ أنّ الأناجيل تفوح في كلّ عباراتها عن مجده وعظمته وسيادته. وهذه العبارة “ملك اليهود” وإن استخدمت حيناً للهزء به إلاّ أنّها كانت في قلب بيلاطس الذي لم يتجرّأ على الحكم عليه وإنّما اكتفى بتسليمه إلى أعدائه.
جرت العادة في كنيستنا أن تستبدل “العلّة” على الصليب من “ملك اليهود” إلى “ملك المجد”. لقد أغمض يسوع عينَيه وأمال رأسه وأسلم الروح ليس كمقهور وإنّما في عنفوان مجده.
لا تعني عبارة “قد تمّ”: قد انتهى! بل تعني هذه العبارة لقد أنهيتُ كلَّ ما جئتُ إليه ونجحتُ في كلِّ ما أردتُه وأتممتُ كلّ ما أعطانيه الآب لأعمله، لقد أطعتُ الطاعة الكاملة! هذه عبادة يسوع الطاعة حتّى الموت.
وهي عكس طاعة الشرائع التي وصلت إلى تمجيد الذات وصلب الله. منذ دخل يسوع أورشليم وعندما رُفع على الصليب وسُمِّي “ملك اليهود” دشّن مملكة جديدة، وافتتح علاقة جديدة في الدِّين.
مملكة يسوع شريعتها ليست من هذا العالم. منذ صلب يسوع لا نقدّم واجبات بل نحقّق شهوة القلب الذي أحبّ يسوع ولا يرتاح إلى أن يقدّم “الأعظم”.
هذا ما يخلق السلام الذي يفوق كلّ عقل، أن تُبنى علاقة الحبّ البنويّ عندنا مع الله الأب، أن نعلن ملكنا للملأ وسلامنا معه بالحبّ والعشق الإلهيّ الذي فينا نحوه.
هذه هي طبيعة حياتنا الكنسيّة عربون هذه المملكة. نحن لا نحيا فيها مجبَرين على تقديم بعض الواجبات أو الممارسات أو الإحسان أو الخدمة. نحن نحيا فيها بمعنى أنّنا نحيا منها. نحيا فيها إذن بحريّة وكرامة.
لا مكان للخائفين والذليلين في المسيحيّة.
نحن لا نخاف الله لأنّنا نحبّه (أنطونيوس الكبير). “التقوى” لدينا لا تعني أبداً أن “نُعبّس” ونستغفر ونحيا في الخوف. على العكس، تعني التقوى والفرح والخدمة، لأنّها تأتي من الحريّة وتتّصف بالمجد. مَن يعيش في هذه المملكة (الكنيسة) متردّداً بين واجب وبين تهرّب لا يعيش حياة الكنيسة.
مَن لا يبذل ويعطي ذاته بالكليّة لا يذوق الحريّة ولا يعرف طعم هذا المجد، وإنّما يبقى في الخوف ويصاب بسرعة بالرياء. نحن لا نحب الخدمة في الكنيسة قليلاً أو كثيراً. نحن لا نحب إلاّ الخدمة في الكنيسة.
لأنّ حبّ هذه الحياة هو في درجته العظمى وليس الدنيا. لن نعطي “البعض” بل سنفرح ببذل “الكلّ”. وهذا يضعنا في الحريّة والمجد.
لا للناموسيّة التي تصرخ اليوم هوشعنا وغداً اصلبْه! لا للمقايضات التي تستقبل الآن وتفرش الثياب ولما لن تجد غنائم من هذا العالم ستعلن حكم الموت على “ملك اليهود”! هوشعنا مبارك الآتي ليأخذ كلّ القلب، هوشعنا مبارك الآتي ليأخذنا كلّنا معه، فحيث هو سنكون نحن، وكما هو سنكون.
هوشعنا أيّها الآتي سنصرخها ليس في الشعانين وحسب بل وسنتابع الهتاف حتّى الصليب مع المريَمات ويوحنّا الحبيب. هوشعنا لمن مملكته لهذا العالم ولكنّها ليست من هذا العالم.
هوشعنا للداخل إلى حياتنا ولكن لن يخرج منها، هوشعنا لملك المجد الذي علّمنا الحبّ الأعظم، هوشعنا لمؤسِّس الدِّين الجديد، هوشعنا لمن وهبنا الحياة بالحريّة والمجد، هوشعنا لإله السلام الذي معنا، آمـين.
Discussion about this post