أحد الشعانين
يسوع محرر الأمم والشعوب
إنجيل القديس يوحنا 12/12-24
لدخول السيد المسيح الأخير والملوكي إلى أورشليم، قبل صلبه بخمسة أيام وقيامته، أبعاد لاهوتية وخلاصية. فقد تزامن مع عيد الفصح اليهودي، وبدأ معه العهد الجديد، عهد الفداء والخلاص بالمسيح، الذي اكتملت فيه كل أقوال العهد القديم ورموزه وصوره. في بيت لحم، بالميلاد، دخل الإله الكلمة يسوع المسيح تاريخ البشر متجسداً، ليكون نوراً وحياة لكل إنسان، ويجعل الذين يقبلونه أبناء لله (انظر يوحنا 1/4 و9 و12)؛ وفي أورشليم، بالموت والقيامة، أصبح مخلص العالم وفادي الإنسان. لفظة ” شعانين” مأخوذة من هتاف ” هوشعنا” الذي أطلقته الجماهير في استقباله، وهي لفظة عبرية تعني ” هلم خلصنا”، على ما جاء في المزمور 118/25: ” امنح الخلاص يا رب، امنح! امنح النصر يا رب، امنح!”.
أولاً، مبادرات نبوية
1- “في الغد لما سمع الجمع الكبير الذي جاء إلى العيد”
” الفد” هو اليوم التالي لمجيء يسوع إلى بيت عنيا، بعد أن اقام لعازر من الموت، وهو في طريقه إلى أورشليم، في مناسبة عيد الفصح اليهودي (يو12/1). ولهذا كان ” جمهور كبير” من اليهود الأتين من مختلف المناطق، ومن غير اليهود كاليونانيين (يو12/20). في بيت عنيا وهو على العشاء عند لعازر مع تلاميذه، قامت مريم بمبادرة نبوية: ” زرفت قارورة طيب من الناردين الخالص الغالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب” ( يو12/3). فعل نبوي له معانيه:
ليسوع الإله الفادي، نعطي أثمن ما عندنا، فهو أعطانا كل ذاته، عبر سرّ القربان وسائر الأسرار والكهنوت. استبقت مريم تطييب جسد يسوع، قبل موته، وهو بعد حي (يو12/7)، للدلالة أنه حي إلى الأبد، وبالتالي سيقوم من الموت؛ هكذا سبق وقال لأختها مريم: ” أنا القيامة والحياة” (يو11/25)، وأظهر ذلك في قيامة لعازر من الموت (يو11/43 و44). يسوع هو الحياة التي تتحدى الموت، فجعل المؤمنين به في حالة قيامة؛ الطيب الذي ملاء البيت هو نفحة المسيح والإنجيل الطيبة التي سيعبق أريجها في العالم كله كحضارة محبة. تتجلّى هذه النفحة في كل إنسان يعيش في حضارة الحقيقة والمحبة؛ كسر قارورة الطيب يعني أن قيمة الحياة تسمو في أفعال الحب لله والإنسان والكنيسة والمجتمع. هذه الأفعال هي ” الطيب ” الذي نزرفه قرابين روحية من تضحيات وعطاءات وأعمال رحمة، من مواقف بطولية مثل تكريس الذات لخدمة الإنسانية في العالم أو في الحياة المكرسة أو في الكهنوت؛ هذه مغامرة سرّ الحب.
2- “حملوا سعف النخل وخرجوا لاستقباله هاتفين: هوشعنا”
هذه العفوية التي قام بها الأطفال والتلاميذ وأهل المدينة والحجاج، ما عدا الفريسيين الذين استشاطوا غضباً وحقداً (يو12/19)، هي امتداد لكسر قارورة الطيب. أجل، ” كثيرون من الجمع فرشوا أرديتهم على الطريق وآخرون قطعوا أغصان الشجر وبسطوها على الطريق” ( متى21/8)؛ و” التلاميذ طرحوا أرديتهم على الجحش الذي ركبه يسوع” ( مر11/7) . إنها مبادرة نبوية أخرى:
أغصان النخل محفوظة لاستقبال الملوك المنتصرين. يسوع هو الملك السماوي الذي ينتصر بموته وقيامته على الخطيئة والشر والموت. فكانت ملوكيته علة موته مكتوبة على صليبه: ” يسوع الناصري ملك اليهود”. هذه الحركة في الذكرى السنوية لخلاص أورشليم على أيدي المكابيين ( 1 مكابيين13/50-52)، تدل اليوم على الخلاص والتحرير الحقيقيين لأورشليم، رمز كل مدينة وقرية، ورمز الكنيسة التي أصبحت أداة هذا الخلاص والتحرير؛ هتاف ” هوشعنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك اسرائيل” ترداد نبوي للمزمور 118/26-26، وتطبيق له. لقد رأوا في شخص يسوع ملكاً جديداً لاسرائيل، يجمع السلطتين الروحية والزمنية. ويحرر المدينة من الرومان، تماماً كما حصل في أيام المكابيين الذين استردوا المدينة وطهروا الهيكل وبنوا مذبحاً جديداً وقدمّوا الذبائح (1مك10/1-9). هنا النبوءة تتحقق في ملوكية يسوع الإلهية: إنه محرر الإنسان من الداخل، ومحرر المدينة الأرضية من الظلم والفساد. إنه الآتي من عند الآب ليمنح الخلاص للشعوب والأمم؛ جاءت مبادرة يسوع بركوبه جحشاً ابن أتان تطبيقاً لنبوءة زكريا النبي ( زكريا9/9)، وتصحيحاً لآمال الجمع الناظر اليه كـأنه ملك زمني، وإعلاناً لرسالته. هو ملك، لا كما يريده الشعب بل الله وفقاً لنبوءة زكريا: ليس فاتحاً يدخل المدينة عنوة على صهوة جواد، بل هو ” أمير السلام” الذي ينتزع كل خوف من القلوب، ويرسي اسس مملكته الجديدة على التواضع والحنان. انه ” المسيح” الذي اختاره الله ومسحه ملكاً على شعبه ومؤسساً للعهد الجديد، وقد أكّد لبيلاطس ” مملكتي ليست من هذا العالم” (يو18-36). ملوكيته ملوكية فداء وخلاص وانتصار على الخطيئة والشر، وحياة دائمة تكسر شوكة الموت. إن أبناء مملكته المؤمنين به يعملون على نشر ملكوته في التاريخ البشري بالصراع الروحي لتدمير سلطان الخطيئة فيهم (روم 6/12)، وبتكريس الذات لخدمته في المحبة والعدالة بشخص ” إخوته الصغار” ( متى25/40).
هذه كلها فهمها التلاميذ، ” بعد أن مُجّد” يسوع بموته وقيامته. كلنا مع كل شعب ننتظر قدوم المسيح- الملك ليحررنا مما نعاني من ظلم وجور واستبداد وقهر. المسؤولون السياسيون مدعوون لتحقيق هذا التحرر، من خلال التزامهم السياسي بالمشاركة في وظيفة المسيح الملوكية والكهنوتية والنبوية ( رجاء جديد للبنان،113).
3- “لأنهم سمعوا أنه اقام لعازر من القبر خرجوا إلى لقائه”.
الحدث التاريخي أساس الإيمان. تسمى المعجزة ” آية” لأنها علامة لحقيقة إيمانية لا نراها ولا يدركها العقل في جوهرها، بل يقبلها بالإيمان ويحاول فهمها في ضوء العلم. إن ما يحصل للجسد يحصل للنفس أيضاً، فقيامة لعازر من الموت علامة لقيامة الإنسان من موت الخطيئة؛ وكما تعود الروح إلى الجثة، هكذا تعود الحياة الإلهية إلى الخاطي التائب. وكما الماء ينظف الجسد وينعشه، هكذا النعمة الإلهية تطهر في سري المعمودية والتوبة من الخطايا وتعطي الحياة الجديدة. وكما الخبز يزيل الجوع ويغذي الجسد ويعطيه قوة ومناعة ونشاطاً، هكذا جسد الرب ودمه يفعلان في قلب الإنسان ونفسه. هذه الأسرار وغيرها أسسها السيد المسيح، في إطار الفصح، وهو العبور من الموت الى الحياة، ومن الخطيئة إلى النعمة، ومن القديم إلى الجديد. في ليلة آلامه وموته، المعروف بخميس الأسرار، أسس الكهنوت لخدمة هذه الأسرار، فكانت ولادة الكنيسة.
نحن في الشعانين نخرج مع أطفالنا وشبيبتنا وكبارنا للقاء ملكنا ومخلصنا يسوع المسيح بأغصان النخل والزيتون والشموع المزينة: النخل علامة الملوكية، الزيتون علامة السلام، الشموع المزينة، علامة الإيمان بالمسيح الحي المزدان بأعمالنا الصالحة. ونهتف ” هوشعنا مبارك الآتي باسم الرب” ونلتنزم برسالتنا الملوكية. هذا هو معنى التطواف الشعبي، وتبريك الأغصان والشموع، وتوزيعها على المؤمنين وحفظها بركة في بيوتهم، ثم حرق الأغصان والتبخر بدخانها ورش رمادها على الزروع والمواسم لحمايتها من مختلف الآفات. وفي الكنائس تحفظ أغصان الزيتون لتحرق في العام اللاحق ويستعمل رمادها في رتبة تبريك الرماد في بدء الصوم الكبير. وكانوا في الماضي يأتون بشجرة كبيرة من الزيتون، فيباركها الكاهن، وعند بدء التطواف تعرض للبيع بالمزاد، ويقدم الثمن إحساناً للكنيسة من أجل سدّ حاجاتها. هذه العادة محفوظة جزئياً بشقها الأول في بعض الرعايا من دون بيعها. وبعض المؤمنين لا يذوقون في الشعنينة الطيبات والحلوى والطعام الفاخر، احتراماً للصوم ولأسبوع الآلام الذي يلي العيد.
تطواف الشعانين وما يحمل من حقائق إيمانية يرتكز على ثلاثة أحداث تاريخية: قيامة لعازر، ودخول الرب يسوع إلى أورشليم، وقيامته من بين الأموات.
4. بعض اليونانيين طلبوا إلى فيليبس: نريد أن نرى يسوع
هؤلاء اليونانيين ليسوا يهوداً بل من الراغبين في عبادة الإله الحقيقي والمشاركين في عيد الفصح، وبالتالي تمنوا أن يروا يسوع. إنهم يمثلون العالم المعروف بالوثني أي غير اليهود، أو الأمم، بل البشرية التي تبحث عن يسوع. طلبوا وساطة فيليبس، وهذا وساطة اندراوس. إنهما يمثلان الكنيسة التي تعرّف الناس إلى شخص يسوع المسيح، موضوع رسالتها: ” تكونون لي شهوداً إلى أقاصي الأرض” ( اعمال 1/8).
كشف لهم يسوع هويته: إنه فادي الإنسان الذي يتمم إرادة الآب الخلاصية، فيتمجد الآب بذبيحة الابن التي تصالحه مع الجنس البشري في حدث الجمعة العظيمة، ويتمجد الابن بقيامته من الموت وفيض الحياة الإلهية بالروح القدس على البشر أجمعين في حدث أحد القيامة. هذه الحقيقة المزدوجة المعروفة بالسّر الفصحي أو سرّ الفداء والتبرير، شبهها يسوع بحبة الحنطة التي تموت وتعطي ثمراً كثيراً
( يو12/24). هذا السّر الفصحي استبقه السيد المسيح اسرارياً وجعله حدثاً يتجدد كل يوم بتأسيس سرّ الافخارستيا والكهنوت، يوم خميس الأسرار، ليلة آلامه وموته. وهكذا يستطيع كل إنسان ” أن يرى يسوع” هذا الكنز الروحي الذي تحتويه الأفخارستيا”، ويرى أفعال الله: الخلق والفداء والتقديس (القرار المجمعي في خدمة الكهنة،5).
هكذا سلّم الكنيسة تذكار موته وقيامته، ليواصل بواسطة خدمتها الكهنوتية ذبيحة الصليب مدى الدهور، إلى أن يأتي، ويوزّع، في الوليمة الفصحية الجديدة، غذاء تمتلىء منه النفس نعمة، ويعطى المؤمنون عربون المجد الأبدي (الدستور المجمعي: في الليتورجيا، 47).
***
ثانياً، الخطة الراعوية
دخول الرب يسوع إلى اورشليم، لتكون مدينة السلام حقاً، انما هو إعلان انجيل السلام القائم على الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة. كون الشعانين عيد الشباب، فلا بدّ من أن تتناولهم الخطة الراعوية، في ضوء النص الحادي عشر الخاص بهم، بما فيه من تعليم أخلاقي وقواعد ثقافية ومدنية، من شأنها تنظيم حياتهم لينخرطوا في الشعب الذي اختاره الله ليكون شاهداً بين الأمم. أما شريعة الله الأساسية فهي ” محبة الله فوق كل شيء” ( تثنية الاشتراع 6/5)، و ” محبة القريب كالنفس” ( احبار19/18). وهذا هو الموضوع الذي اختاره قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لرسالته العامة الأولى “الله محبة” الصادرة في 25 كانون الأول 2005.
1- يطلب من الجماعات في الرعية، من المجالس واللجان والمنظمات والهيئات، أن يعطوا الشبيبة ما يتوقون اليه، وفقاً لانتظاراتهم المنصوص عليها في النص 11 المذكور: اإهم يطلبون من المسؤولين في الكنيسة أن يوفروا لهم فرصة اللقاء الشخصي مع المسيح، وفهماً أعمق لسرّ الكنيسة، وإلا استمروا في حالة التشكيك والتشكي، إذ تظهر لهم الكنيسة بوجهها المؤسساتي، وتغيب عنهم بوجهها اللاهوتي والسري، كجماعة تعكس وجه المسيح، وحاملة سرّ المسيح الخلاصي (النص 11، الشبيبة،21).
2- ويتوق الشباب إلى دور وعمل فاعل في البنى الكنسية.هذا يقتضي التزاماً في تثقيف الشبيبة على هذا الدور، واكتشاف مواهبهم، والإفساح في المجال إمامهم للمشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها (المرجع نفسه،22). لقد بيّن الاختبار إن للشبيبة تطلعات ومبادرات لا يتوقعها الكبار. فلا خوف من شبيبة تبحث عن مكانها في حياة الكنيسة ورسالتها، بل الخوف الخوف عندما يتخلى الشباب عن المطالبة بهذا التوق، وعندما يهمشون الكنيسة ويسقطونها من برنامج حياتهم.
3- ويتوق الشباب إلى شفافية في المؤسسات الكنسية التربوية والتنموية والاستشفائية. إن عندهم عنها نظرة ترى تغليب الطابع الإداري والتجاري على الطابع الروحي والإنساني (النص11، الشبيبة 23-24). ينبغي أن تتناول الخطة الراعوية هذا الموضوع معهم بكثير من الموضوعية، بحيث تقال لهم الحقيقة في ما هو صحيح في نظرتهم، وفي ما هو خطأ؛ في ما هو أوهام وما هو وقائع. لا يجوز الخوف من سماع الانتقاد ولو كان لاذعاً، فالمجال واسع لتصحيح ما يجب تصحيحه، والاعتراف بما هو حق. أما الصمت والكبت والهروب من الحوار فيؤدي الى مزيد من الانتقاد الذي غالباً ما يتجاوز حدود الواقع ، فالإنسان عدو ما يجهل.
ولا بدّ للخطة الرعوية من أن تبلغ إلى الالتزام الشامل في تقليص الهوة بين القول والفعل، وبين التعليم وشهادة الحياة، وبين المبادىء والواقع. وينبغي للخطة الراعوية أن تصل إلى إرادة الإصلاح حباً بالكنيسة المدعوة لتكون نوراً للأمم. فلا يجوز بعد اليوم الوقوف عند الشكليات فقط، بل يجب التجدد في العمق، حتى الأصالة والصدقية في شهادة الحياة (النص11، الشبيبة، 25-26).
صلاة
يا يسوع ملك الشعوب والدهور، اقبل فعل عبادتنا والمديح الذي نقدمه لك مع الفتيان والشبان، مع الأطفال والأهل، في يوم الشعانين. أنت الخبز النازل من السماء الذي يعطي حياة للعالم، أنت الكاهن الأعظم والذبيحة المقدمة على الصليب للآب فداءً عن الجنس البشري، وما زلت تقدمها يومياً على يد خدمة أسرارك، لكي توطد في كل قلب ملكوت الحقيقة والحياة، القداسة والنعمة، العدالة والمحبة والسلام.
املك في قلوب الأطفال لكي يحفظوا براءة المعمودية. املك في قلوب الشبيبة لكي ينموا سالمين وأطهاراً، مطواعيين لصوت ممثليك في العائلة والمدرسة والكنيسة. املك في عائلاتنا لكي يعيش الأهل والأولاد في الاتفاق وحفظ شريعتك المقدسة. املك على الوطن لكي يعيش أبناؤه في نظام وتناغم. ومعاً نرفع لك المجد ولأبيك المبارك روحك الحي القدوس إلى الأبد، آمين.
(صلاةالطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين).
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post