أحد الشعانين
ملوكية المسيح ومشاركتنا فيها
من إنجيل القديس يوحنا الرسول 12/12-22
لَمَّا سَمِعَ الـجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم، حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصْرُخُون: “هُوشَعْنَا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل”. ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: “لا تَخَافِي، يَا ابْنَةَ صِهْيُون، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكِبًا عَلى جَحْشٍ ابْنِ أَتَان”. ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذـلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولـكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوع، أَنَّ ذـلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعُوهُ لَهُ. والـجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا لاقَاهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: “أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!”. وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين. فَدَنَا هـؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الـجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:”يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع”. َجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وأَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.
يسوع يدخل مدينة أورشليم في مناسبة عيد تحريرها على يد المكابيين واسترداد الهيكل وتطهيره، وإقامة مذبح آخر وتقديم الذبيحة (1 مكابيين10/1-9). يتزامن العيد مع بداية أيام الفصح اليهودي، فكانت شعوب كثيرة، من مواطنين وأجانب، قد توافدت إلى أورشليم للعيد، ومن بينهم يسوع وتلاميذه.
الاستقبال الملوكي العفوي ليسوع والهتافات كانت علامة أنه هو الملك الحقيقي، محرر المدينة والعالم بموته وقيامته، ومطهّر الهيكل وصانع ذبيحة الفداء الجديدة. بهذا وضع الأساس لممارسة السلطة والعمل السياسي
أولاً، شرح نص الإنجيل
1- يسوع الملك فادي الإنسان
” مبارك الآتي باسم الرب ملك اسرائيل”. هكذا هتف الشبان عندما رأوا يسوع داخلاً المدينة، راكباً جحشاً. فحملوا أغصان النخل، علامة النصر والتحرير ( 1 مكابيين13/50-53)، وأغصان الزيتون، علامة السلام، وطرحوها على الأرض مع أردية الكثيرين حيث مرّ يسوع ( متى21/8). وكانوا يرددون ” هوشعنا” أي خلصنا، يا رب خلّص، يا رب أنجح (مز117/25). وكصدى لنشيد الملائكة ليلة الميلاد، راحوا يهتفون: “السلام في الأرض والمجد في العلى” (لوقا19/38). ثم حيّوا المملكة الجديدة التي ينشئها يسوع: ” مباركة المملكة الآتية من أبينا داود، هوشعنا في الأعالي” ( مرقس11/10). ملوكية يسوع ومملكته تتصفان بأربع مزايا:
التواضع: لم يدخل يسوع فاتحاً منتصراً بقوة السلاح والعنف، بل بالتواضع راكباً جحشاً، وهو مطية أصحاب سلطة منذ عهد بلعلم (عدد22/12). فجعل من نفسه قدوة: ” تعالوا إليّ وتعلموا مني، إني وديع ومتواضع القلب: فتجدوا راحة لنفوسكم” (متى11/29).
المحبة: يحمل الخلاص والتحرير ويبذل ذاته فدى عن الكثيرين بالموت على الصليب.
السلام الحقيقي: يتنزع به الخوف من القلوب: “لا تخافي يا ابنة صهيون”. سلامه ليس سلام الأقوياء على الضعفاء، بل سلام المحبة والحنان واحترام الإنسان والمدينة. سلامه سلام القلب بكلمته منيرة العقول، ونعمته شافية النفوس، ومحبته الغافرة والمعينة.
إرسال من الله: ” مبارك الآتي باسم الرب” ( مز117/26). هو المسيح الآتي بإرسال من الله وبسلطان منه: ” لقد أعطيت كل سلطان في السماء والأرض” ( متى28/18). هذا السلطان سيعطيه للكنيسة، المملكة الجديدة، القائمة على الكلمة والمعمودية والأفخارستيا ( متى28/18-20).
لقد رأى فيه الشعب ” ملك اسرائيل”، الشخص الذي يجمع السلطة الروحية والسلطة الزمنية، والذي يحقق تحرير المدينة. لكن يسوع أصلح آمال الشعب الخاطئة، بتحقيقه نبؤة زكريا: ” هوذا ملككِ آتٍ، راكباً على جحش ابن أتان” ( زكريا9/9). ليس المسيح فاتحاً محارباً على جواد، بل هو أمير السلام الذي ينهي كل حرب، ويؤسس مملكة السلم. لم يقبل يسوع ملوكيته من الناس، بل من الآب: ” قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك الأمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك. ترعاهم بعصا من حديد وكإناء من خزف تحطمهم” (مز2/7). وسيؤكد امام بيلاطس: ” مملكتي ليست من هذا العالم” (بو18/36).
1- الأساس اللاهوتي لممارسة السلطة والعمل السياسي
دخول يسوع إلى أورشليم، وما رافقه من إعلان ومعانٍ يشكلّ الأساس اللاهوتي لممارسة السلطة والعمل السياسي. فالإرشاد الرسولي ” رجاء جديد للبنان” يدعو العلمانيين المؤمنين بالمسيح للالتزام والمشاركة في السياسة أي في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشسريعي والإداري والثقافي المتنوع الأشكال. فالسياسة تهدف إلى تعزيز الخير العام، وإحلال العدالة والمحبة، وصيانة الحقيقة والحرية. هذه الأربع تضع اسس السلام بين الناس والأمم.
المسيحيون ملتزمون بهذا العمل السياسي بحكم معموديتهم التي تشركهم في وظيفة المسيح المثلثة الأبعاد:
بالعبد الكهنوتي يجعلون من نشاطهم في خدمة الخير العام تسبيحاً للخالق، وإكمالاً لعمل الخلق.
بالبعد النبوي يجسّدون جدّة الإنجيل وفعاليته تجسيداً يتألق في حياتهم اليومية والعائلية والاجتماعية. ويعبّرون بجرأة وشجاعة، وسط مشقات الزمن الحاضر، عن رجائهم بالمجد الآتي. ويسهمون في إجراء تحوّلات لا بدّ منها من أجل مستقبل أفضل.
بالبعد الملوكي يتغلبون على مصالحهم الخاصة وحساباتهم الرخيصة، ويلتزمون سبيل الزهد والتجرد، ويعملون من أجل الخدمة العامة بتفانٍ وسخاء، من أجل العدالة والحقيقة والحرية والسلام (الارشاد الرسولي، 113).
يذكرنا الإرشاد الرسولي “بالممارسة المسيحية لإدارة الشؤون الزمنية. فشخص المسيح والإنجيل ينيران هذه الشؤون المعدّة لخير الأسرة البشرية وسعادتها الأبدية”. ويضيف: ” لا يمكن، أن يكون للمسيحيين حياتان متوازيتان: إحداهما الحياة الروحية ولها قيمها ومقتضياتها، والأخرى الحياة العلمانية التي لها قيمها المختلفة عن الأولى او المضادة لها” (عدد112). بل يجب ان تكون حياة الإنسان واحدة ببعديها الإنساني والروحي، بحيث الروح يرفع الجسد إلى القيم العليا. يخشى أن يقصد من العبارة التي تتكرر على مسامعنا من المسؤولين السياسيين “الدين لله والوطن للجميع” الفصل بين الحياتين. المطلوب هو إنعاش النظام الزمني بالروح التي حملها المسيح للعالم، بحيث يكون النظام الزمني في خدمة الشخص والمجتمع، وفقاً للقواعد الخلقية والقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية.
2- الشباب قوة تجددية
عيد الشعانين، يوم دخل يسوع إلى أورشليم واستقبله الشبان أصبح في أيامنا احتفلاً بيوم الشبيبة العالمي. فهم حرّكوا المدينة بهتافاتهم وحملوا أغصان النخل والزيتون، وأعلنوا ملوكية يسوع. يومها طهّر المسيح الهيكل إذ طرد منه الباعة وقلب موائد الصيارفة وقال: ” بيتي بيت الصلاة يُدعى” ( متى21/12-13). وأعلن ذاته ذبيحة الفداء الجديدة: ” حبة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمار كثيرة” (يو12/24). واستبق ملوكيته الأبدية على العالم التي ستتم يوم قيامته.
الإرشاد الرسولي ” رجاء جديد للببنان” يسمّي الشبيبة ” قوة تجددية في الكنيسة ولبنان”. منهم تنتظر الكنيسة أن يعطوا الحياة الكنسية والحياة الاجتماعية انطلاقة جديدة ( فقرة 51).
***
ثانياً، الرجاء المسيحي
في ضوء دخول المسيح مدينة الأرض أورشليم ملكاً سماوياً زارعاً الرجاء في القلوب، نواصل التفكير في مقومات الرجاء المسيحي انطلاقاً من رسالة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ” بالرجاء خُلصنا”.
1- الرجاء هو الفداء بالمسيح الذي أجرى لنا اللقاء الحقيقي بالله الحي، إله يسوع المسيح. “فعند”المسيح ابن الله الحي كلام الحياة الأبدية” ( يو6/68). الفداء يعني محبة الله النهائية لكل إنسان. فمهما حصل له تبقى محبة الله تنتظره، وهو بدوره يعرف إنه ابن الله المفتدى بدم مسيحه، ابنه الأزلي الوحيد. فإذا عاش رجاء الفداء واختبره، سعى جاهداً إلى إشراك غيره فيه. الرجاء لا يقف عند حدود الفرد وخلاصه بل يتصف بالطابع الجماعي الذي هو طابع الخلاص أيضاً: ” لقد اقتربتم من مدينة الله الحي” (عبرانيين12/22). وفيما الخطيئة تهدم وحدة الجنس البشري بالتجزئة والتفرقة، الفداء يرمم روابط الوحدة، ويدعو إلى الخروج الدائم من الانطواء على الذات نحو الآخر (بالرجاء خُلصنا،3).
2- يعتبر العالم المعاصر، منذ الثورة الفرنسية وعصر التنوير في أوروبا، إن الرجاء هو ثمرة الترقي وانتصار العقل والحرية على المستوى السياسي. فالعقل والحرية هما بمثابة نجمين يجب اتباعهما على طريق الرجاء. وجاءت الماركسية لتحصر الرجاء الترقي ضمن حدود العلم والتقنية من دون أي علاقة بالله (المرجع نفسه، 18-19).
لكن الكنيسة تعتبر أن الترقي يكون رجاء، عندما يشمل البعد الأخلاقي في الإنسان، ونموّه الداخلي، على ما يقول بولس الرسول: ” بحلول المسيح في إنسانكم الباطن بالإيمان، وفي قلوبكم بالمحبة، تعرفون محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، وتمتلئون بكل ملء الله” ( افسس3/17-19). والترقي يكون رجاء، عندما يقوم على ” تجدد الإنسان الباطن يوماً فيوماً، فيما إنساننا الظاهر آخذ بالفساد” ( 2كور4/16).
وتعتبر الكنيسة أن العقل يشكل مصدراً للرجاء، بمقدار ما يرتبط بالإيمان، الذي هو مثله عطية من الله، فينتصر المنطق على اللامنطق، ويصمد الإنسان في خياراته المرتكزة على الحقيقة المطلقة.
وتعتبر الحرية مصدراً للرجاء، عندما ترتبط الحرية بالله الذي هو أساسها وغايتها. فالإنسان بحاجة الى الله، وإلاّ ظل من دون رجاء (افسس2/12).
*****
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية التفكير معاً في النص المجمعي السابع ” الكهنة في الكنيسة المارونية”، وتحديداً صيغة الاختيار والدعوة والتنشئة في الممارسة.
بعد أن استعرض النص الصيغة المتبعة في الماضي (الفقرات 36-43)، نتناول نحن ما جاء فيه عن الصيغة المعتمدة في الزمن الحاضر.
1- الدعوة والاختيار (الفقرات 44-47).
الدعوة نداء من الله، الخفي الصامت والقوي في أعماق النفس البشرية، وتعبير عن صوت الله بطريقة بشرية حسّية بواسطة السلطة الكنسية. ولكن في النداء والتعبير، الله هو الذي يدعو. يبقى على المدعو أن يفهم ذلك الصوت، ويميّزه من خلال العلاقات التي تظهر فيها إرادة الله.
الدعوة الكهنوتية تدخل في إطار الدعوة المسيحية، ولا تعطى خارج الكنيسة وبمعزل عنها، فهي عطية مجانية وموهبة من دون مقابل. إنها حوار بين محبة الله وحرية الإنسان المدعو التي تنشّطها النعمة.
والاختيار اليوم في عهدة المدرسة الاكليريكية التي يعيش فيها المدعو ويتنشأ، ويتم التثّبت من مؤهلاته. فتقدمة الاكليريكية إلى الأسقف الذي يعود اليه وحده قرار القبول ومنح سرّ الكهنوت وايكال الخدمة الراعوية الملائمة لحاجات الأبرشية.
2. التنشئة الكهنوتية (الفقرات 48-50)
للكنيسة المارونية أربع مدارس اكليريكية يتنشأ فيها طلاب الكهنوت، هي: الاكليريكية البطريركية في غزير، واكليريكية مار انطونيوس البادواني في كرمسده التابعة لأبرشية طرابلس، واكليريكية مار اغسطينوس في كفرا التابعة لأبرشية بيروت، واكليريكية سيدة لبنان في واشنطن التابعة للأبرشيتين المارونيتين في الولايات المتحدة الاميركية.
من واجب الأساقفة انتداب كهنة يتمتعون بقداسة السيرة والنضج الإنساني والروحي والخبرة الراعوية والجدارة التربوية، لتحمّل مسؤولية تنشئة الاكليريكيين.
وتقتضي الحاجة بأن تتعاون المدارس الاكليريكية وتعمل بالتسيق في ما بينها على وضع رؤية واحدة ومنهاج عام للتنشئة الكهنوتية وفقاً للقوانين والتوجيهات الكنسية، على أن تتلاءم مع الأوضاع الزمانية والمكانية.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، بدخولك مدينة أورشليم لخلاصها وإعلان ملوكيتك في الأرض بواسطة الكنيسة، ادخل إلى كل مدينة في الأرض، وإلى وطننا، لكي يستقر ملكوت الحق والعدالة والقداسة والمحبة، فيه وفي كل مجتمع بشري. اعطِ أبناء الكنيسة وبناتها ان يدركوا أنها زرع ملكوت الله في العالم وبدايته لكي يجعلوها خميرة في عجين البشر، وملحاً في ثقافاتهم. قوِّ بروحك القدوس الشبيبة لتكون القوة التجددية في الكنيسة والمجتمع. أعطنا أن نعيش بالرجاء، الناتج عن عمل الفداء الذي أتممته، وأن نجعل ترقي الشخص البشري والمجتمع، القائم على الحرية والعقل، مصدراً للرجاء المسيحي.
نشكرك على الذين اخترتهم لخدمة الكهنوت. ثبّتهم، أيها الكاهن الأزلي، في تلبية الدعوة التي توجهها إليهم كل يوم من خلال نداءات المجتمع وحاجات الكنيسة. لك المجد والتسبيح أيها المسيح الإله، ولأبيك المبارك، وروحك الحي القدوس، الآن وإلى الأبد. آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post