يونان النبي
قداسة البابا شنوده الثالث
ونحن علي أبواب صوم يونان, أو صوم نينوى, أود أن أحدثكم اليوم عن شخصية يونان ومشكلته.
إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله. ويونان النبي كان إنسانا تحت الآلام مثلنا. وكانت ذاته تتعبه.
ونود في هذا المقال أن نتأمل صراع ذاته مع الله… الذي يريد أن يسير في طريق الله, ينبغي أن ينكر ذاته يجحدها وينساها, ولا يضع أمامه سوى الله وحده.
ومشكلة يونان النبي أن ذاته كانت بارزة ومهمة في طريق كرازته. وكانت تقف حائلا بينه وبين وصية الله, ولعله كثيرا ما كان يفكر في نفسه هكذا: ما موقفي ك نبي, وكرامتي, وكلمتي, وفكرة الناس عني؟؟ وماذا أفعل إذا اصطدمت كرامتي بطريقة الله في العمل؟ ولم يستطع يونان أن ينتصر على ذاته…
كلفه الله بالذهاب إلي نينوي, والمناداة بهلاكها… وكانت نينوى عاصمة كبيرة فيها أكثر من 120000 نسمة.
ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاطئة جدا, وتستحق الهلاك فعلا.
ولكن يونان أخذ يفكر في الموضوع: سأنادي علي المدينة بالهلاك, ثم تتوب, ويتراءف الله عليها فلا تهلك.
ثم تسقط كلمتي, ويكون الله قد ضيع كرامتي علي مذبح رحمته ومغفرته. فالأفضل أن أبعد عن طريقه المضيع للكرامة!!
وهكذا وجد سفينة ذاهبة إلي ترشيش, فنزل فيها وهرب. لم يكن يونان من النوع الذي يطيع تلقائيا.
إنما كان يناقش أوامر الله الصادرة إليه, ويري هل توافق شخصيته وذاته أم لا.
ليس كذلك الملائكة. إنهم يطيعون بغير مناقشة, وبغير تردد. إن الله كلي الحكمة, وهم مجرد منفذين لمشيئته, وليسوا شركاء له في التدبير حتى يناقشوا أو يعترضوا…
سواء كان الأمر رحمة أو قصاصا, يطيع الملائكة بلا نقاش: يأمر الله أحدهم أن يذهب ليسد أفواه الأسود منقذا دانيال, فيطيع.
وبنفس الطاعة يذهب الملاك الذي يأمره الرب بقتل جميع أبكار مصر.
ملائكة يأمرهم الله بإنقاذ بطرس من السجن, أو بإنقاذ بولس, أو بإنقاذ لوط, أو بافتقاد هاجر, فيطيعون. وبنفس الطاعة ينفذ أمره الملائكة الذين يبوقون بالأبواق في سفر الرؤيا فتنزل الويلات على الأرض تحطمها تحطيما.
لا يقولون عفوا يارب, أشفق وأرحم, وأبعدنا عن هذه المهمة. وظيفتهم هي التنفيذ, وليس التدبير أو التفكير. إنهم متواضعون, لا يعتبرون أنفسهم أحن على الناس من الله خالقهم.
يذكرنا هذا بقوانين الأحوال الشخصية, ومنع الطلاق إلا لعلة الزنا وعبارات الحنو التي يدافع البعض عن زواج المطلقات, كأنهم أكثر حبا وعطفا وحنانا من المسيح الذي وضع الوصية.
أما نحن فوظيفتنا هي التنفيذ وليس المناقشة. لا نريد أن نعمل مثل يونان, الذي تلقي الأمر من الله, فناقشه ثم رأي الحكمة في مخالفته…
وهكذا استقل سفينة ليهرب من الرب! مسكين هذا الإنسان الذي يظن أنه يقدر على الهروب من الله! ترى إلى أين يهرب؟!
مهما هربت من الوصية ستجدها تطاردك حيثما كنت. ترن في أذنيك وتدور في عقلك, وتزعج ضميرك…
إن كلمة الرب قوية وفعالة, ومثل سيف ذي حدين, وتستطيع أن تخترق القلب والعقل, وتدوي في أرجاء الإنسان.
هرب يونان إلي ترشيش, ونسي أن الله موجود في ترشيش أيضا. وركب السفينة وهو يعلم أن الله هو إله البحر, كما أنه إله البر أيضا.
ولم يشأ الله أن يصل يونان إلى ترشيش, وإنما أمسكه في البحر, وهيج الأمواج عليه وعلى السفينة كلها…
والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا. لا أيقظه الموج, ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء, ولا صوت ضميره!! نام يونان, لم يهتم بمشيئة الله وأمره ولم يهتم بنينوى وهلاكها أو خلاصها, ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته… لكنه تمركز حول ذاته, وشعر أنه حافظ علي كرامته فنام نوما ثقيلا…
هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله: به ينقذ ركاب السفينة جسديا وروحيا, وينقذ مشيئته من جهة نينوى وخلاصها وينقذ نفس هذا النبي الهارب, ويعلمه الطاعة والحكمة.
مستبقيا أياه في خدمته بطول أناة عجيبة, علي الرغم من كل أخطائه ومخالفته ومن هم جنودك يارب الذين ستستخدمهم في عمليات الإنقاذ الكبرى هذه؟
يجيب الرب عمليا:
عندي الموج, والرياح, والبحر, والحوت, والشمس, والدودة, واليقظة… إن كانت خليقتي العاقلة لم تطعني, فسابكتها بالجمادات والحيوانات. وهكذا أمر الله الرياح, فهاج البحر, وهاجت أمواجه وصدمت السفينة حتي كادت تنقلب. وازداد هيجان البحر, لأن أمر الرب كان لابد أن ينفذ وبكل سرعة, وبكل دقة.
وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين… وبذلوا كل جهدهم الفني, وصلوا كل واحد إلي إلهه وألقوا قرعا ليعرفوا بسبب من كانت تلك البلية فأصابت القرعة يونان.
الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة, كان يونان. وحتى بعد أن نبهه أو وبخه رئيس النوتية, لم يلجأ إلى الصلاة.
كأن عناده أكبر من الخطر المحيط به…
حاول البحارة إنقاذ يونان بكافة الطرق فلم يستطعوا واعترف يونان أنه خائف من الله الذي صنع البحر والبر!!
إن كنت خائفا منه حقا, نفذ مشيئته. ما معني أن تخافه وتبقي مخالفا؟ ولكن كبرياء يونان كانت ما تزال تسيطر عليه.
إن الإنسان إذا تعلق بذاته وكرامته, يمكن أن يضحي في سبيل ذلك بكل شئ.
كان يونان يدرك الحق, ومع ذلك تمسك بالمخالفة, من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء فتحولت إلى عناد… قالوا له:
ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟. فأجابهم: خذوني واطرحوني في البحر وهنا أقف متعجبا!! على الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية, لم يرجع يونان.
لم يقل أخطأت يارب في هروبي, سأطيع وأذهب إلي نينوى..فضل أن يلقي في البحر, ولا يقول أخطأت..! لم يستعطف الله. لم يعتذر عن هروبه. لم يعد بالذهاب. لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله. إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته!! وهكذا القوة في البحر…
أما مشيئة الله فكانت لابد أن تنقذ. هل تظن يا يونان أنك ستعاند الله وتنجح؟!
هيهات, لابد أن تذهب مهما هربت, ومهما غضبت. أن الله سينفذ مشيئته سواء أطعت أم عصيت, ذهبت أم هربت… ألقي يونان في البحر, وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان.
يا يونان, صعب عليك أن ترفس مناخس. إن شئت فبقدميك تصل إلي نينوي. وإن لم تنشأ فستصل بالبحر والموج والحوت. بالأمر, إن لم يكن بالقلب. وفي جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة, ففكر في حاله.
إنه في وضع لا هو حياة, ولا هو موت. وعليه أن يتفاهم مع الله, فبدأ يصلي. إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها, وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقي في هذا الوضع.
فاتخذ موقف العتاب, وقال: دعوت من ضيقي الرب, فاستجابني… لأنك طرحتني في العمق… طردت من أمام عينيك.
من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق, ولم يطرحه في العمق ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب.
هو الذي أوقع نفسه في الضيقة, ثم شكا منها, ونسب تعبه إلي الله… ولكن النقطة البيضاء، هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت.
فآمن أن صلاته ستُستَجاب وقال للرب: أعود أنظر هيكل قدسك. آمن أنه حتى لو كان في جوف الحوت, فلابد سيخرج منه ويرى هيكل الرب.
أتت هذه القضية الكبري بمفعولها. ونجح الحوت في مهمته. والظاهر أن يونان نذر نذرا بأنه إن خرج من جوف الحوت, سيذهب نينوى لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك, وأوفي بما نذرته 2:9.
أي نذر تراه غير هذا؟! ثم إنه لما قذفه الحوت إلي البر, وصدر إليه زمر الرب ثانية, نفذ نذره ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرا, وليس بقلبه راضيا.
ذهب من أجل الطاعة, وليس عن اقتناع بلغ الرسالة إلى الناس. ونجحت الرسالة روحيا… وتاب أهل نينوي وتذللوا أمام الرب, وصاموا, وصلوا. وقبل الرب توبتهم, ولم يهلك المدينة. ورأى النبي أن كلمته قد سقطت, ولم تهلك المدينة فاغتاظ.
وكان غيظ يونان دليلا علي الذاتية التي لم يتخلص منها. ما كان يجوز إطلاقا إن يغتاظ النبي لخلاص أكثر من 120000 نسمة
قد رجعوا إلي الله بالتوبة وقلب منسحق
لأن الكتاب يقول: يكون هناك فرحا في السماء بخاطئ واحد يتوب.
لا شك إذن أنه قد كان هناك فرحا عظيما جدا في السماء بخلاص أهل نينوى ولكن يونان لم يشارك في هذا الفرح من أجل ذاتيته.
كما أن الابن الأكبر لم يشارك في الفرح برجوع أخيه الصغير وفي الحفل الذي أقيم له لأجل ذاتيته أيضا لو 15.
في كل هذا لم تكن مشيئة يونان موافقة لمشيئة الله. ولم يكتف يونان بهذا, بل عاتب الله, وبرر ذاته, وظن أن الحق في جانبه.
فصلى إلى الله وقال: آه يارب, أليس هذا كلامي إذا كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت بالهرب إلي ترشيش, لإني علمت أنك إله رؤوف ورحيم 4:2.
كيف صلى وهو في تلك الحالة القلبية الخاطئة المغتاظة؟
وكيف تكلم كما لو كان مجنياً عليه وقال: آه يارب؟ وكيف ظن الحق في جانبه قائلا: أليس هذا كلامي وكيف برر هروبه قائلا:
لذلك بادرت بالهرب….
لم يقل ذلك في شعور بالندم أو الانسحاق, بل شعور من له حق, وقد رضي بالتعب صابرا!
عجيب هو الإنسان حينما يجامل نفسه علي حساب الحق! ويرفض الاعتراف بالخطأ مهما كانت أخطاؤه واضحة!!
علي أن الله استخدم في علاجه أربعة أمثلة من مخلوقاته غير العاقلة التي كلفت بمهام صعبة, وأدتها علي أكمل وجه, دون نقاش:
1- الأمواج التي لطمت السفينة حتي كادت تغرق
2- الحوت الذي بلع يونان
-3الشمس التي ضربت رأسه فذبل
4- الدودة التي أكلت اليقطينة…
أما يونان فجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها. كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة يونان؟!!
وأعطاه الله درسا من كل تلك الكائنات غير العاقلة التي كانت أكثر تنفيذا لمشيئته من هذا النبي العظيم, الذي لم يتركه الرب بل هداه إلي طريقه, بركة صلواته فلتكن مع جميعنا.
إن قصة يونان النبي وتوبة أهل نينوي, إنما تقدم لنا تأملات كثيرة…
لقد دخل شعب نينوي في التاريخ, ولم تكن لهم مظاهر عظمة تدعو إلى ذلك على الإطلاق…
كانوا شعبا أمميا لا يعرف الله. وكانوا في حالة من الجهل لا يعرفون يمينهم من شمالهم يون 4:11.
وكانوا أيضا خطاة تلزمهم التوبة… ولكن الذي سجل اسمهم, وخلد قصتهم في الكتاب المقدس, هو إنهم تابوا…
وقال عنهم السيد المسيح إنهم سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل, لأنهم تابوا بمناداة يونان متى 12:41.
ومما أعطي لتوبة أهل نينوى أهمة في التاريخ, إنها كانت توبة جادة وسريعة وقوية. كما انها شملت الشعب كله من الملك إلى عامة الناس. واستطاعت هذه التوبة أن تكسب رضا الله, بل ودفاعه عن هؤلاء التائبين…
كثيرون سجل التاريخ أسماءهم بسبب أعمال عظيمة قاموا بها, أو بسبب نبوغ أو ذكاء خاص, أو ارتفاع في حياة الروح, أو قدرة على إتيان المعجزات, أو ما منحهم الله إياه من مواهب…
أما نينوى فنالت شهرتها بالتوبة…
وكلما نذكر نينويى, نذكر هذه التوبة, لكي ما نقتدي بها في حياتنا…
هناك نوعيات من التوبة لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها, بخاصة إذا كانت تلك التوبة نقطة تحول في الحياة, ولا رجعة فيها. وما بعدها يختلف تماما عن حياة الخطية الأولى
Discussion about this post