خذوا … واصنعوا هذا لذكري
في ليلة خميس الأسرار المقدسة، تدعونا الكنيسة إلى أن ندخل “العليّة” بقلوب طاهرة ومؤمنة لنشارك المسيح والرسل هذه الليلة السماوية. فتعالوا نستجلي ما حدث في تلك الليلة عن قرب. قال يوحنا الإنجيلي عن تلك الليلة:“كان يسوع يعلم، وقد اقترب عيد االفصح، أنَّ ساعة انتقاله إلى أبيه عن هذا العالم، قد حانت، وقد أحبَّ أصحابه الذين هم في العالم، فبلغ به الحب إلى أقصى حدوده”. وفي ختام الليلة (يو 13: 1-2).
في ليلة الوداع هذه، نرى أن كل ما فيها يدلّ على أن يسوع قد جعلنا محور اهتمامه وشغله وتفكيره وقلبه. فكل العواطف والذكريات والكلمات والحركات والأحداث والأسرار التي فاضت في هذه الليلة هي دليل على أنه لنا الأولوية لدى يسوع، وبأن همّه الوحيد هو أن يكون معنا وأن نكون معه دائماً. لذا، فقبل أن يقدّم حياته ذبيحة على الصليب، قدّم حياته لتلاميذه وخلّد حُضوره بيننا بأجمل وأروع ذكرى حيّة: القربان والكهنوت والمحبة.
يسوع لم يقدّم حياته بمعنى أنه قبل أن يموت على الصليب فقط، بل أعطى الحياة لنا بأن أشركنا في حياته. بالطريقة نفسها، فهو عندما يدعونا أن نعمل مثله، فهو لا يدعونا أن نبذل حياتنا من أجله فقط (فهذه احتمالية قليلة الحدوث)، ولكن أن نعطي الحياة لإخوتنا ولأخواتنا وبخاصة من يحتاجها. هنالك منظمات عالمية من أجل الحياة (Pro-Life)، وهي تكرّس أعمالها وجهودها لأهداف وقوانين سامية وتناهض ضد تشريعات مخالفة لوصايا الله والكنيسة ( الإجهاض القتل الرحيم- الإعدام… ). ولكن لكي تكون هذه المعركة الحياتية أكثر مصداقية يجب أن تمتد لرفض كافة أنواع الحروب والعنف والإرهاب والتمييز والتعصّب والفقر والجوع والبطالة وكل سبب ينتقص من كرامة الحياة الإنسانية لأنه ينتقص من شروطها.
في إحدى الصلوات الإفخارستية يقول الكاهن قبل تقديس الخبز والخمر مُعيداً تذكار ما صنع يسوع في ليلة الخميس المقدس:” ولكنه قبل أن يمد ذراعيه بين الأرض والسماء ، أخذ خبزاً …”. نعم فذراعي يسوع، قبل أن يمدّها على خشبتي الصليب، وقبل أن يغسل بهما أقدام تلاميذه، وقبل أن يكسر لهم الخبز ويناولهم الكأس، كان قدّ مدهما بدون تعب أو تردد لشفاء المرضى ولإطعام الجياع، ولإظهار محبته وعاطفته للأطفال الذين أتوا إليه. ومدهما أيضاً لغفران خطايا الخاطئين…. وبعد سويعات قليلة، سيمدهما ليصافح يدي يهوذا الخائن. أن تُعطي الحياة بالنسبة لك اليوم، هو أن تمدّ ذراعيك بكل الحركات والمواقف اليومية التي تبذل فيها حياتك ووقتك ومحبتك ومغفرتك وكرمك … وهذه هي سماد الحياة.
روى أحد المراسلين الصحفيين قصة عن راهبة شابة كانت تعمل في إرسالية لمعالجة مرضى البرص في أفريقيا. فبينما كان يقوم بزيارة للمستشفى هنالكن وقف مندهشاً أمام منظر شدّه جداً. إذ رأى الراهبة الشابة تقوم بتغسيل وحمام أحد البرُص. فقال للراهبة:” قسماً، لو أعطوني 100.0000 دولار لما قمت بهذا العمل أبداً”. فقالت الراهبة:” ولا أنا أيضاً أقبل بذلك. ولكنني اقوم بهذا العمل من أجل المحبة”.
ما نقوم به اليوم، ليس لأن يسوع عمله، بل لأنه طلب منا أن نُظهر المحبة التي أعطانا إياها.
اليوم تتوجه أنظارنا إلى سر القربان… سر المحبة. …( الإرشاد الرسولي الجديد).
“اصنعوا هذا لذكري”:
يروى عن ألفرد نوبل (Alfred Nobel) مخترع البارود، أنه بينما كان يقرأ الجريدة في صباح أحد الأيام، رأى نعياً له في صفحة الوفيات. ومن الواضح طبعاً أنه كان نعياً بالخطأ. والشيء الوحيد الذي كُتب عنه في النعي أنه كان: “ملك الديناميت”. أتعبت هذه الكلمات السيد نوبل، وراح يُفكّر هل هذا هو فقط ما سيتذكّره الناس عني بعد موتي؟ هذه ليست بالذكرى الجميلة بالفعل! فقرّر أن يعمل على تغيير إرثه وذكراه في العالم، ولكي يقرأ الناس في نعيه شيئاً آخر ومُهمّاً. وبأن يكون زارعاً للحياة وليس للموت والدمار. واليوم لا أحد يتذكّر نوبل من أجل الديناميت، بل من أجل جوائزه العالمية في حقول الحياة من أجل العالم. واليوم يعمل الكثيرون بجد من أجل السلام والطب والعلم والأدب في العالم وجوائزه.
اصنعوا هذا لذكري تعني أعيدوا القداس … اغسلوا أقدام بعض علامة المحبة والخدمة… قدموا حياتكم من أجل الخير والسلام والحقيقة…. وتعني كونوا دائماً مستعدّين لأن تتبعوني في طريق بذل الذات طريق الصليب.
في هذه الليلة، التي نذكر فيها ما صنع يسوع لأجلنا، فلنتحلّى بالشجاعة ولنسأل أنفسنا:
ماذا أصنع لأجعل ذكرى الرب حيّة في حياتي وأسرتي وبيتي ورعيتي؟
فكّر بأمر واحد يُحيي ذكرى الرب؟
وفكّر بالأمر الذي تتمنى أن يبقى بعدك ويدوم … ماهو؟
وهل سبق أن فكرت بالأمر؟
يبدو أن يسوع قد فكّر بالأمر، وأنت كَيفَ تُريدُ أَنْ تُذكر؟
Discussion about this post