الصليب
الصليب من صِلْب حياتنا هنا والآن. مزروع في حياتنا طالما نحن مصلوبون على الموت. مزروع في صحّتنا طالما نحن مصلوبون على المرض. مزروع في أفراحنا طالما نحن مصلوبون على الشقاء.
شبح الصليب لا يفارقنا في صعودنا ونزولنا، في جيئنا وذهابنا. الناس للناس صليب مهما تآنسنا.
لكنْ إذا كان ثمّة صليب يقع علينا رغم كل شيء، فثمّة صليب نأخذه نحن على عواتقنا، عن إرادة منا، وليس أحدٌ ولا شيء يفرضه علينا: صليب المحبّة!
لم تعد المحبّة ممكنة من دون صليب. بخلاف ما يظن الكثيرون لا تأتي المحبّة عفواً. لا تأتي إلاّ بالمشاق. أن يولد الآخر من حشاك لا يأتي إلاّ بعد مخاض. كأنما كل نفس امرأة والسيّد يقول لها: “تكثيراً أكثّر أتعاب حَبَلِك. بالوجع تلدين...” (تك 3: 16). ما يأتي عفواً هو أن تحبّ نفسك وما لك.
هكذا قَلْب الإنسان شرّير منذ حداثته. الخروج من النفس مكلف. ليس أيسر من أن تبتلع الناس. البطولة الحقّ أن تقدّم نفسك للآخَرين خبزاً، أن تبذل. “خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منه كلّكم، هذا هو دمي”.
لأنّ الإنسان مفطور على المحبّة هكذا برأه الربّ إلهه فإنّه إن لم يضمّ الصليب أولاً إلى صدره، إن لم يحبب التعب من أجل الإخوة فلا سبيل لمعرفته لهم بالمحبّة.
يبقى الآخر على الضفّة الأخرى حتى تأتيه أنت على معبر جسدك وأتعابك ودمك. الجسد في منظور ما بعد السقوط لأن تُهلكه من أجل الإخوة. ليس أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، فإنّنا إن عشنا فللربّ نعيش وإن متنا فللربّ نموت، فإن عشنا وإن متنا فللربّ نحن.
كل الذين يريدون أن يُبعدوا الصليب من أفقهم يطلبون الموت للاشيء. بالصليب تكون المحبّة وبالمحبّة الحياة. بغير ذلك يكون الإنسان ملعوناً يهرب من شبح الموت إلى الموت. كل حياة العالمين بغير صليب المحبّة هروب. المال هروب. الملذّات هروب.
السلطة هروب. الألعاب والاحتفالات والمآدب هروب. المخدّرات والمسكرات هروب. حقيقة حياتنا هنا والآن الصليب أو نُصلَب على الأوهام والخيالات. ليس كالصليب يُعين على صيرورة الإنسان إنساناً. بغير ذلك إنسانيتنا يصيبها الضمور، تتألّل (من آلة)، تَتَحَيوَن (من حيوان)، تتشيطن (من شيطان).
كل الذين يحسبون الصليب من أجل الآخَرين ضعفاً ممجوجاً يخطئون الهدف. كذلك كل الذين يحسبون الصليب مذلة. حاشا أن يكون الصليب من غير كرامة ابن الله. كرامة يسوع صليبُه.
“هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3: 16). القائلون بالصليب ليسوع أنّه ما شُبِّه به للناس لا يعرفون الله المحبّة. يعرفونه الشّداي (القوي). لا زال عنهم بعيداً ولا زال يخاطبهم عن بُعد، بالشريعة والعصا.
الله، أخيراً، حمل العصا وجاءنا راعياً “ليبذل نفسه عن خرافه“.
“لأنّه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع…” (1 تيمو 2: 5 – 6). لم يعد الله هناك. صار هنا.
“الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا“ (يو 1: 14). تسمّر على صليب أجسادنا لمّا تجسّد، شبيهاً بإخوته في كل شيء، إلاّ في الخطيئة، ليكون لنا إذا ما تسمّرنا، عن إرادة، على صليب الإيمان به أن نصير أبناءً لله على مثاله. “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 1: 12 – 13).
ما كان يسوع لينجح بين الناس لو لم يكن قد قدّم نفسه لهم مسمَّراً على الصليب. يسوع، حياتُنا، عاينّاه، أمامنا، معلَّقاً على الصليب. لذا لما اعتُلنت القيامة بتنا نقول “بالصليب أتى الفرح إلى كل العالم“، أي بالحبّ الكبير، المبذول إلى المنتهى. بات الصليب مفخرتنا. “حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح”. بات الصليب طريقنا إلى الحياة الجديدة، إلى حياةٍ من حياة يسوع المسيح، ربّ المجد حيث “الحياة لي هي المسيح والموت ربح“.
الموت ربح لا خسارة. أجل الموت الذي كان الخسارة العظمى بات، لمَن يموتون من أجل محبّة يسوع والإخوة، صفقة العمر. هذا هو السرّ المكنون في صدر الله منذ الأزل الذي أُعلن الآن للذين يؤمنون. فيه جهّل الربّ الإله حكمة هذا الدهر. “كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله” (1 كو 1: 18).
لذا انبرى الرسول المصطفى ليعلن: “إنّي لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوباً” (1 كو 2: 2).
يبقى أن نكون ليسوع ما كان إيّاه يسوع لأبيه السماوي، فيما بيننا. “أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد“. لا حقّ لنا، بعد يوم يسوع، أن نعرف صليباً غير صليب المسيح. يتهافتون في الدنيا على القتل، نتهافت على البذل. يتهافتون على المال، نتهافت على الفقر. يتهافتون على قضاء كل شهوة، نتهافت على العفّة.
يتهافتون على الحياة المائتة، نتهافت على الموت المحيي. هكذا نحيا ونحيي ونمدّ المسيح ونشهد ونكرز بمَن أمرنا حبّاً بالعالمين: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به“ (مت 28: 19- 20).
هذه محبّتنا للعالمين. مبذولون من أجل الذين يتناحرون. لسنا نحبّ الناس إن ماثلناهم ومالقناهم وجعلناهم في ما هم فيه مطمئنين. عملنا أن نزعج لا أن نحابي، أن نهدم قبل أن نبني. “لا تخف من وجوههم لأنّي أنا معك لأنقذك يقول الربّ وتتكلّم بكل ما آمرك به… ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر. قد وكّلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” (إر 1: 8 – 10).
يوم نعقد العزم على أن نموت في المسيح نصير “رائحة المسيح الذكيّة لله في الذين يَخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 15 – 16)
No Result
View All Result
Discussion about this post