الجمعة العظيمة
(يو19/17-30)
يختلف الإنجيلي يوحنا بسرده الآم المسيح عن كل من الإنجيليين متى ومرقس ولوقا. يريد يوحنا أن نتجاوز ظاهر الأحداث لنكتشف من ورائها قصداً إلهياً، ألا وهو اطلاعنا على مجد المسيح في الهوان. فالآلام بالنسبة ليوحنا هي ساعة المجد إذ يتعرّف فيها الإنسان على ذاك الإله الذي يبحث عنه منذ الفردوس المفقود.
لذا علينا أن نتتلمذ للتلميذ الذي أحبه يسوع ونقرأ معه رواية الالام فيكتشف كل منّا ذاك الإله الذي يهب حياته بحرية مطلقة دون أن ينتزعها منه أحد. هذا الملك الحقيقي الذي يجمع البشر في الحق ويحكم العالم بطريقة الله، طريقة الحب والعطاء بلا حدود. لذلك يبيّن لنا الإنجيلي يوحنا في هذا النص أربعة مشاهد من رواية الآلام وهي: اللوحة والقميص وعطيّة أمّه مريم ليوحنا وتسليم الروح.
“هناك عند صليب يسوع وقفت أمه” يبيّن لنا الإنجيلي يوحنا
ان يسوع الذي هو على الصليب هو حمل الفصح الجديد الذي بموته وقيامته تتحقّق الحياة. نرى في المشهد الأول: اللوحة اتلي كُتب عليها اسم المحكوم عليه وسبب عقابه:”يسوع الناصري ملك اليهود”. إنها طريقة تُظهر إعلان الهوان والمُلك في آن واحد. إنه من الناصرة وهو ملك الدهور وفي هذا يبرز طابع موته الشمولي. لقد اعترض رؤساء الأحبار على هذه الكتابة التي كُتبت”بالعبرية واللاتينية واليونانية” وهي لغات الدين والسياسة التي كانت مستعملة في تلك الحقبة من التاريخ ولكن دون جدوى. لقد اعترف الوثنيون بمُلك يسوع ورفضه اليهود. لذلك صرّح بيلاطس قائلاً:“ما كُتب قد كُتب”.
ثمّ نرى في المشهد الثاني: إقتسام الثياب والإقتراع على القميص المخيط الذي رأى فيها الإنجيلي يوحنا معنى خاصاً وهو إثبات وحدة البشر الذي يجمعهم يسوع في الكنيسة التي خرجت من جنبه المطعون بالحربةثم هناك التمزّق والإنقسام بسببه وإعادة اللحمة والوحدة في شخصه. لقد جاء يسوع ليعيد بناء وحدة كل الشعوب، لتصبح فيه الكنيسة واحدة.
فلا يمكن الإنتماء إلى يسوع إلاّ في وحدة الحب والغفران.
وفي المشهد الثالث تتجلّى الوحدة بين الأم والابن. حيث يُنظر إلى المرأة من خلال دعوتها الأساسية بوصفها أم المعلّم والتلميذ.
تلك التي تلد شعب المؤمنين الجديد. إنها الكنيسة في خصوبتها الشاملة التي لا تحلّ محلّ حواء أمّ الأحياء فقط، بل محلّ صهيون أُمّ الشعوب. ففيها وبها تتمّ الساعة التي تحدّث عنها يسوع في عرس قانا الجليل:“فقال يسوع لأمّه:” ما لي ولك يا امرآة؟ لم تأتِ ساعتي بعد”(يو2/4).
فهذه الساعة هي ساعة الزفاف الحقيقي، عرس الصليب، الذي أتمّ فيه يسوع الشريعة العاجزة عن إعطاء الحياة ووهب العالم خمرة الفرح الذي هو جسده ودمه لأجل حياة العالم أجمع. وبعد أن أعطته مريم جسده تشترك معه في هذه الولادة الجديدة بوقوفها أمام ابنها المسمّر على الصليب.
لقد قبلت مريم، أُمّ الكلمة المتجسّد، التي أعطت ذاتها لله أن تتبنّى أولئك الذين جاء يسوع في الجسد من أجلهم وأصبحوا تلاميذه. تمثّل مريم الزوجة والأم معاً الكنيسة، الشعب الجديد، التي تلد أبناءها في العالم كلّه. ان ظهور الكنيسة هذا في مريم هو الخلاص النهائي بإتمام الوعود جميعها وكل ما جاء في الكتب والأزمنة المشيحيّة. فبعد أن تمّ كل هذا لم يبق للإنسان بعد أن أصبح تلميذاً إلاّ أن يستقبل في بيته تلك التي أُعطيت له أمّ ينبوع الحياة الجديدة. وهو بإيمانه بالمسيح يستقبل كنيسة المؤمنين الذي يعيش بينهم.
وفي المشهد الرابع صرخ يسوع “أنا عطشان”. ففي حوار يسوع مع السامرية عند بئر يعقوب طلب يسوع منها شيئاً مماثلاًً قائلاً لها:”أعطني لأشرب”، وبعد ذلك يقول لها:“لوكنت تعرفين عطية الله ومن هو الذي يقول لكِ:أسقني، لسألته أنت فأعطاك ماءً حياً… الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدية”(يو4/10-14).
لقد تمّ هذا اللقاء بين يسوع والسامرية في الساعة السادسة، أي في تمام الساعة التي حُكم فيها على يسوع بالموت. على ضوء الحوار مع السامرية وعلى ضوء قوله لتلاميذه:“طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمّ عمله تصبح عبارة:“أنا عطشان” صرخة الشوق المتأجّج في قلب يسوع لتتميم مشيئة الآب حتى النهاية. وهكذا يصبح عطشه توقاً حارّاً للعودة إلى الآب والإتحاد به كما يردّد صاحب المزمور:“ظمئت نفسي إلى الله إلى الإله الحي متى آتي وأحضر أمام الله”(مز41/2).
يوجّهه يسوع هذا النداء الآن إلى كل إنسان قائلاً: “أسقني” ولكي يقوم الله الخالق بالعجائب المخصّصة للإنسان، فهو يطلب منه بأن ينقاد له ويلبّي دعوته له حيث ان عطش الله إلى الإنسان يقابله عطش الإنسان إلى الله الذي لم يفتأ يبحث طيلة حياته عن هذه الحقيقة المطلقة التي وحدها تستطيع أن تروي ظمأ الإنسانية المتعطشة إلى الله.
يردّد صاحب المزامير:“جعلوا في طعامي سمّاً وسقوني في عطشي خلاً” (مز29/22) . ينظر شرّاح الكتاب المقدس إلى الخل نظرة إيجابية. فلقد ورد في سفر راعوت:“ولما كان وقت الأكل، قال لها بوعز: هلمّي إلى ههنا وكلي من الخبز واغمسي لقمتك في الخلّ” (را2/14) . فالدعوة التي يوجهها بوعز إلى راعوت المؤابية“لتغمس لقمتها في الخلّ”هي دعوة إلى“مائدة إقامة عهد” ستتوج بزواج بوعز أحد أجداد السلالة الداودية من راعوت المؤابية. فيسوع الذي يتناول الإسفنجة المغمسة بالخل، يقيم العهد الأبدي بينه وبين أحبائه ويختمه بالموت على الصليب.
فبعد أن أطلق يسوع صرخته:“أنا عطشان” وضع الجنود“ إسفنجة مبتلّة بالخل على ساق وزوفى وأدنوها إلى فمه”. كانت الزوفى تُستعمل لأغراض طقسية تطهيرية كرش دم الحملان والعجول والماء الطاهر(لاوي 14/3) . إنطلاقاً من هذه المعطيات تضعنا كلمة زوفى في جو طقسي عند أقدام الصليب في حفل تكريس العهد الأبدي بين الله وشعبه الجديد يوم ذبح الحمل الفصحي، يسوع (خر12/22) . الذي طالما شهد له يوحنا المعمدان في بداية إنجيلي يوحنا الرسول يوحنا قائلاً: “هوذا حمل الله” (يو1/36) .
لقد تمّم يسوع مشيئة الآب على ما أنبأت به كل الكتب المقدسة وكانت ذروته الموت على الصليب.
لذا يشدّد الإنجيلي يوحنا على أن يسوع شرب كأس المرارة حتى النفس الأخير:” لقد تمّ كل شيئ”.ان الذين يرافقون المنازعين في اللحظات الأخيرة من حياتهم يعرفون حقّ المعرفة أن تسليم الروح يأتي قبل إنحناء الرأس. لكن الإنجيلي يوحنا يذكر ان يسوع:“حنى رأسه وأسلم الروح” وبهذا يشير إلى السيطرة على النفس التي يتميّز بها يسوع حتى النهاية في القيام برسالته الخلاصيّة. لذلك يؤكد لنا بأنه لا أحد يستطيع أن يأخذ حياته منه، بل هو يعطيها بملء حرّيته إذ صرّح قائلاً:“ما من أحد ينزعها منّي ولكنّي أبذلها برضاي” (يو10/18) .
لقد غدت الجلجلة إذاً مكاناً لتمجيد الآب لا بل مكاناً لعودة الابن إلى حضن الآب والإتحاد المطلق به” (يو1/18) .إننا نرى هذا الإتحاد المطلق بين الآب والابن متجلياً طيلة حياة يسوع العلنية. وقد وصل إلى كماله على الصليب حيث تجلّت ساعة المجد وساعة العودة إلى حضن الآب بعد تتميم مشيئته حتى النهاية. فالجلجة بحسب يوحنا ليست إنحداراً إلى الأعماق إنما إرتفاعاً نحو المجد، هي مكان عودة الابن وخاصته إلى حضن الآب:“وأنا إذا ما رُفعت من الأرض جذبت إليّ الناس أجمعين”(يو12/32) .
“معنى الصليب اليوم والثبات وسط الآلام في حياتنا اليوميّة ” تتلاقى جميع الروحانيّات عند أقدام الصليب الذي كثيراً ما نخشى بأن نحمله. لقد شُقّت طرق عديدة على مر القرون لهداية الإنسان إلى الإتحاد بالله على أكمل وجه ممكن. فمنهم من يسير على الطريق التي سلكها الكثير من القديسين وهي طريق الصليب المقدّسة وهناك طرق أخرى تقود إلى اليأس والضياع والموت. فالمقياس الصائب والوحيد للأصالة الروحيّة في الحياة المسيحيّة هو طريق الصليب دون غيرها من الطرق. لذلك ان كل ما يهدي إلى الصليب هو مسيحي وكل ما يُزيل الصليب أو يدور حوله هو مزيّف ومُنتحل ويكون بعيداً كلّ البعد عن الإله الإنسان المتألم وعن وجوهر الحياة الروحيّة.
لا ترتكز الحياة المسيحيّة على الألم بل على الفرح الذي نعيشه حتى في وسط الآلام. فنحن مدعوون اليوم على مثال ما عمله يسوع، بألاّ نختار الألم وألاّ نقع في المازوشية، بل أن نختار الحبّ ومن يختار الحب يصيبه الألم في الصميم. يقول الفيلسوف الإلماني كيرككارد:”أنّ كلّ امرىء يبتغي الإتصال بالله ومعاشرته حقيقةً فأمامه عمل وحيد لا ثاني له، هو أن يظلّ فرحاً دائماً أبداً”.
فمع الصليب نصل إلى قمّة الإختبار الروحي، إلى حيث وصل القديسون. وفي هذا المجال لقد ردّدت سيمون قايل:” ينبغي أن نسعى لا إلى عدم التألم ولا إلى التخفيف من الألم، بل إلى عدم فقدان سلامنا بسبب الألم”. فالحب دون الصليب هو فارغ من جوهره والصليب بدون الحب هو مؤلم وثقيل جداً.
فمن على صليب يسوع المتألم تجلّى مجد الله وفي يسوع الطريق نستدلّ على الطريق المؤدّية إلى الآب. فلا طريق أخرى غير التي اتّبعها يسوع، إنها طريق التخلّي الجذري عن الذات، إنها الطريق الصعبة التي تبدو لنا شاقة ومتعرجّة ونيرة بالوقت نفسه، لكنها تقودنا حتماً إلى سّر الحب وملء الحياة. فبتجسد يسوع وموته وقيامته لم يتبدّل ولم يتغير أي شيئ في العالم. فالأحداث المختلفة التي نعيشها في تاريخ حياتنا اليومي من غيرة وسخرية ومعاملة سيئة وكل ما نعانيه من الناس أو بسببهم من آلام عديدة واضطهاد وموت ذلك كلّه سوف يستمر إلى مالا نهاية ولكن سيتغير معناه مع الصليب ويؤول بنا إلى طريق الخلاص والقداسة. ففي الصليب يـتحوّل الشر إلى خير ويصبح وسيلةً نعلن عنها إلى من ننتمي والموت والألم اللذين نكرههما مسائر الناس لأنهما يبدوان وكأنهما يبيداننا من الوجود يصبحان مع المسيح أداة خلاص حيث يفتحان نفوسنا على ملء الحياة وسر الوجود. فشخص يسوع المتألم والمصلوب هو الذي يُعطي جميع ممارساتنا الروحيّة والمسيحيّة معنىً جديداً وخلاصيّاً.
يقول الفريد دي موسيه:”الإنسان تلميذ والألم معلّمه ولا أحد يعرف نفسه ما لم يتألم”. فمن على الصليب نفرّغ ذواتنا من التصلّب والكبرياء والإدّعاء ونلتحق بمريم ويوحنا وندخل في جماعة التلاميذ حيت يتجلّى الحبّ الإلهي ونستقي من ينابيع الروح القدس الذي يكشف لنا نهاية كل حياة ومجانيّة الحبّ الحقيقي:“إذا أحبني أحد، حفظ كلامي فأحبّه أبي. ونأتي إليه فنجعل لنا عنده مقاماً” (يو14/23) .
وفي هذا الصدّد يردّد القديس بولس:“أتمُ في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” (قول1/24) . لذا فكل ما يمر به المؤمن من آلام وعذابات يحوّله الروح القدس إلى قوة خلاصية، إذ يوحّد المسيحي المؤمن بيسوع المسيح المتألم والمصلوب والقائم من الموت. لذلك فالآلام هي لنا فرصة خلاصيّة مدعوون إلى ننتهزها ليشترك كلّ منّا في فداء نفسه والكنيسة والعالم.
فإذا كانت الآلام ترافق الإنسان في تلك الطريق التي تمرّ في وسط الحياة، إلاّ ان هذه الطريق تسير بنا نحو مسيرة النضج النفسي والروحي، إنها الولادة إلى حياة روحيّة حقيقية. ولا بدّ من أن يرافق الولادة ألم لا يبرح أن يتبدّد ليحلّ مكانه فرح في حياة تنمو لأنها تختبر دائماً الحبّ المجاني الذي يتجلىّ بموت يسوع على الصليب.
فالأب الذي يرى ابنه يؤذي ذاته لا بدّ من أنه يتألم لآلام ابنه الذي يجلب لذاته الآلام. وهكذا عندما ينظر الله إلينا ونحن نقترف الخطيئة فلا يصيبه الألم، ولكن بما أننا بالخطيئة نؤذي ذواتنا ويصيبنا الألم في صميمنا فيتألم الله لألامنا لأنه هو الحبّ المطلق. ان كل أب لا ينال منه الألم هو أب لا رأفة فيه ولا حنان. لذلك يتألم الله معنا ويعاني همومنا لأنه هو المحبة بالذات ويحبّنا وهذا ما يظهر لنا من خلال الكتب المقدسة وهذا ما تقرّه خبرة المتصوفين. ولكن كيف نؤمن بأن الله محبة إن كنّا نظن أنّ ألمنا لا يصيبه في صميم كيانه الأزلي؟ فالحب الحقيقي تصيبه الجراح وإلاّ لما كان الله محبة. إن صورة الإله الذي لا ينتابه الألم وينظر مطمئناً هادئاً من علياء سمائه إلى شرور الناس وتعاستهم هذا الإله ليس إله الحب وليس حقاً إله المسيحيين.
لذا نقرأ في مثل الإبن الضال أنه لما عاد هذا الابن إلى بيته الوالدي”تحرّكت أحشاء أبيه” هذا ما يشير إلى انقلاب الكيان رأسا على عقب، إنه صوت اللحم والدم. ففرح هذا الأب لا ينبعث من اللامبالاة كأن رجوع ابنه إلى البيت حدث عابر، بل ينبع من حقيقة خوف قتّال أصاب قبله بالتفتّت فصرخ قائلاً:“إبني هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوُجد”.
هناك آلام بدون عظمة، ولكن لا عظمة بدون آلام. ففي نظام الوجود البشري الألم هو نقصٌ في الكمال، أمّا في نظام الحبّ فهو خاتمة الكمال. قالت سيمون قايل:” الفرح والألم لا يتناقضان، بل المناقضة في أنواعهما: فهناك فرح وألم لا يطاقان كأنهما من صنع جهنّم، وهناك فرح وألم يشفيان فهما من صنع السماء”.
ويقول في هذا الصدّد بولس الرسول: “أرى أنّ آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا” (رو8/18) . نرغب كلّنا في حياتنا المسيحية أن نسلك طريق القداسة، ولكن كثيراً ما نخشى بأن نحمل الصليب، لأننا نريد بأن نقدّس نفوسنا بدون أن نتألم. لذا ردّد كتاب الإقتداء بالمسيح:”كثيرون يتبعون يسوع إلى كسر الخبز، أمّا تابعوه إلى شُرب كأس الآلام فقليلون”. فحمل الصليب بصبر ومحبة وفرح يؤول بنا وحده إلى القداسة.
نأتي كلّنا يوم الجمعة العظيمة إلى الكنيسة لنحتفل بدفن المسيح وكثيراً ما نذرف الدموع، وبسبب جهلنا للكتب المقدسة ولجوهر حياتنا الروحية، نشارك في رتبة دفن المسيح دون أن نحتفل بقيامته يوم أحد القيامة. يتبادر إلى ذهننا كأن يسوع هو بحاجة إلى من يذرف عليه الدموع، دون أن ندرك عظمة الذبيحة الإلهية التي يتمحمور حولها جوهر الحياة المسيحية. فإذا كنا نحتفل يوم الجمعة العظيمة برتبة دفن المسيح، فالبذبيحة الإلهية أي بكّل قداس نشارك فيه فعلياً نحتفل بيسوع المائت والقائم من القبر.
لذا لا يريدنا يسوع بأن نذرف الدموع على جسامة آلامه بل على جسامة خطايانا.هذا ما ردّده عندما كان يسوع حاملاً صليبه:” وتبعه جمعٌ كثير من الشعب، ومن نساءٍ كُنّ يضربن الصدور ويُنحن عليه. فالتفت يسوع إليهنّ فقال: يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكُنّ وعلى أولادكنّ” (لو23/27-28) . هذا ما يريد أن يدعوون إليه يسوع اليوم بأن نذرف الدموع على خطيئتنا ونسلك طريق التوبة والصليب والفرح.
فمن خلال كلّ ما تقدّم نحن مدعوون اليوم إلى أن نقف مثل مريم التي استطاعت بأن تقف أمام صليب ابنها دون أن ترزح تحت وطأته. نحن مدعوون إلى أن نصمد أمام كل شكّ وريبة ونصبر حتى النهاية في كل ما ينتابنا من عذاب واضطهاد والآم. نحن مدعوون إلى أن ننظر إلى المسيح المسمّر على الصليب ونتحد به عبر آلامنا. ففيه وحده نجد كل الأجوبة التي تشفي غليلنا وتقودنا إلى معرفة سّر وجودنا. إذ هو الإله الإنسان الذي به نُحرز الغلبة على سّر الألم ومعضلة الشر ولغز الموت.
أسئلة للتأمل والتفكير:
1- ماذا يعني لنا اليوم هذا القول:” وخرج حاملاً صليبه؟” هل ندرك بأن الألم وحده يجعلنا أكثر إتحاداً وأكثر تشبّها بيسوع المتالّم والمائت على الصليب؟ وهو يبقى الوسيلة الأنجع التي تحرّرنا من كبريائنا؟ هل نعي بأن الألم يجعلنا أكثر تواضعاً وأكثر هدوءاً وفهماً لسّر المسيح وللحياة المسيحيّة الحقّة؟
2- هل نؤمن بأن الله يتألم لالآمنا لأنه هو الحب ومن يحبّ لا يستطيع إلاّ أن يتألم مع من يحبّه؟هل نجنح نحو التذمّر والشكّ والقنوط عندما تنتابنا الآلام؟هل نؤمن بأننا عندما نتألم نشارك في عملية الفداء؟هل نسعى دوماً لنحافظ على صبرنا في وسط الآلامنا التي وحدها تمكّننا من أن نكون مسيحييّن أصيلين؟
3- ما هي نظرتنا الإيمانية إلى الألم؟هل نعي أنّ من لا يتألم لا يستطيع أن يعرف ذاته؟ وان الألم الذي يخلو من الحب يصبح صليباً لا يُطاق حمله ويضحي طريق انحدار إلى أعماق اليأس والضياع؟ هل نؤمن بأنه عندما نتحد بيسوع المتألم نستطيع أن نقف مثل مريم أمام كل تجربة دون أن نستسلم لها؟
صلاة:
نتأمّل صلبك وألامك ونصلّي إليك أيها الإله المُحبّ والحمل المذبوح الذي افتديتنا بذبحك. مِن على صليبك تنساب إلينا قوةّ الحبّ غير المحدود حيث يجتمع فيك كلّ الدفء والتحدّي والغفران.اجعل الآمنا تمتزج بالآمك التي وحدها تقودنا إلى العظمة والسلام والفرح. لا تجعلنا نرزح في حمل صليبنا بل أن نقف أمامه كما مريم أمّك ونثبت معك حتى النهاية لكي لا تذهب آلامنا سُداً. في اللحظات التي نشعر فيها بعمق ضعفنا وخطيئتنا غالباً ما نسألك بأن تتباعد عنّا ولكن حبّك غير المشروط لا يتباعد أبداً.
هبنا نعمة روحك القدوس لكي نذرف الدموع لا على جسامة الآمك بل على جسامة خطيئتنا. دعنا نلقي ذواتنا بين يديك، فنقدّم لك كلّ ما سنحرزه من نجاح وما سينتابنا من فشل وما سنسعد به من فرح وما سنتكبّده من متاعب والآم. لك المجد إلى الأبد أمين.
أ. نبيل حبشي ر.م.م.
Discussion about this post