لأجلك تألم
القديس اغسطينوس
حين أتي الرب إلي العالم ، أتي متنكراً ، وظهر ضعيفاً بالجسد ، وهو القوي في ذاته. ولزم أن يكون منظوراً كيلا يعرفوه ، ومحتقراً لكي يقتلوه. سني مجده كامن في لاهوته ، ولاهوته محجوب في جسده: لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ (1كو 2: 8). وسار بين اليهود ، مجهولاً بين أعدائه ، يصنع العجائب ويحتمل الغرائب حتى علقّ على الخشبة.
يوم تألم المسيح ، لأجلك تألم. قال بطرس الرسول: فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاًلَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ (1بط 2: 21). لقد تألم فعلمك الألم وقلَّ ما يفعل الكلام بلا مثل.
شتمه اليهود وهو معلَّق على الصليب: بمسامير قاسية كان معلقاً دون أن يفقد عذوبته. واحتدموا غيظاً ضده وداروا حوله مجدفين كالمجانين ، حول طبيب ماهر. وكان يداوي على صليبه قائلاً: اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لو34:23). وكان يسأل وهو معلّق: ولم ينزل عن صليبه لأنه كان يداوي المجانين.
أسمع: أنت مسيحي وعضو للمسيح ـ فكرّ بمن أنت وبالثمن الذي به اشتريت. ابتلعت الحياة الأبدية الموت وشاءت أن تموت في ما هو لك ، لا في ما لها وأخذت منك إمكانية الموت عنك.
ومنك أخذت الجسد ولكن بخلاف ما يأخذه الناس لقد كنت حقاً فيها ساعة قالت :نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ. (مت 38:26). إن الذي جاء ليموت لم يخش الموت ، وقد كان بوسعه أن يبذل نفسه ويأخذها أيضاً . إن الأعضاء كانوا يتكلمون في الرأس والرأس يتكلم لأجل الأعضاء.
لقد جعلك المسيح جميلاً بفضل ما وصل إليه من القبح لو أنه رفض أن يكون قبيحاً لما كنت استعدت الجمال الذي فقدته. على الصليب لم يكن له شكل:
لكن قبحه كان لك جمالاً. تمسك في حياتك هذه بالمسيح ، الذي لا جمال له ؛ لأنه لم يرتفع على الصليب ليفدي نفسه من أرتفع على الصليب دون أن يكون عليه ذنب.
وليكن صليبه فداءّ لنفسك لتضع فوقه كل ما أتيت من شر وتتمكن من أن تتبرر بقيامته. كان ثمن فدائك مخفياً في جسد المسيح كما في محفظ فتمزقت المحفظة بالآلام.
علق المسيح ، فسرّ الكافر. وطعنه أحد جلاديه بحربته فأفاض الفادى ثمن فدائك. على المسيح الفادى أن ينشد نشيد الظفر ، وعلى يهوذا الخائن إن يكتئب وعلى اليهودي الذي أعطي ثلاثين قطعة من النقود أن يخجل. يهوذا باع واليهودي اشتري فأتيا شراً .
وبالحكم عليهما هلكا . بائعاً وشارياً. الواحد باع والآخر اشتري: يا للتجارة الخاسرة. لا هذا أخذ المال ولا ذاك المسيح. أما أنت أيها المسيحي فأفرح:
لقد ربحت من تجارة أعدائك فأخذت ما باع الأول وما أشتري الثاني.
نقرأ باحتفال قصة آلام من غفر بدمه ذنوبنا. فنتذكرها كلياً في تلك العبادة السنوية فينمو إيماننا نمواً واضحاً ساعة نمارسها على صعيد شعبي, تنازل ربنا وقدم لنا مثالاً في الصبر.
ما أحتمله من آلام لخلاصنا كي نفيد من هذه الحياة الحاضرة حتى إذا طلب منه شيئاً إكراماً لإنجيله فلا يحق لنا أن نرفض آلامه. وطال ما أنه لم يقبل شيئاً مكرهاً في جسده المائت بل قبله حراً ، وباختياره يحق لنا أن نعتقد بأنه شاء أن يعطينا درساً في كل مراحل آلامه التي وصلت إلينا مكتوبة.
وكأني به حين سيق للصلب حاملاً صليبه بنفسه يرمز إلي العفةّ التي يجب أن يتحلى بها كل من أراد أن يتبعه وأشار إلي هذا أيضاً بكلامه حين قال:
إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي(مت 16: 24). كل من ضبط نفسه حمل نوعاً ما صليبه ، ومن خلال صلبه وعذابه على الجلجثة أشار إلي مغفرة الخطايا التي قيل عنها في المزمور: لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. (مز 38: 4).
وباللصين اللذين صلبا عن يمينه ويساره أشار إلي العذابات التي يجب أن يتحملها القائمون عن يمينه. والقائمون عن يساره بحيث يقول للذين عن يمينه: طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ(مت 5: 10)
وللذين على يساره: إِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً.(1كو3:13).
ويشير بالكتابة التي تقول في أعلى الصليب: مَلِكُ الْيَهُودِ(مر 15: 26) إلى أن قاتليه لن يتمكنوا من الهرب من سلطة ذاك الذي أوضح لهم جلياً بأعماله ما له من سلطان يجب الاعتراف به.
ولهذا ينشد المزمور: فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي(مز6:2) ويستدل من اقتراح رؤساء اليهود على بيلاطس بالاّ يكتب(ملك اليهود) بل يزعم بأنه ملك اليهود أن بيلاطس الذي رفض اقتراحهم هذا رمز للزيتونة. البرية المغروسة محل الأغصان المنكسرة لكونه وثنياً .
ويعتبر كلامه هذا بمثابة اعتراف الشعوب الذين قال عنهم الرب بحق: إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ (مت43:21).
ومع ذلك فليس ملكاً لليهود: الجذع ، هو الذي يحمل الزيتونة وليست الزيتونة هي التي تحمل الجذع. ومع أن تلك الأغصان قد تكسرّت في الكفر فلم يرذل الله شعبه الذي عرفه سابقاً. ومع أن أبناء الملكوت الذين رفضوا ابن الله ملكاً عليهم يذهبون إلي الظلمات الخارجية فكثيرون يأتون من المشرق والمغرب ويستريحون ، لا مع أفلاطون وشيشرون بل مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات.
كتب بيلاطوس: مَلِكُ الْيَهُودِ (مر 15: 26) لا ملك اليونان والرومان وإن يكن مزمعاً أن يملك عليهم. وما كتب قد كتب . ولم يغّير طلبُ الكفرة ما تنبأت به المزامير منذ القديم لا تفسد لداود كتابه.
إن الشعوب بأسرها آمنت بملك اليهود ومع أنه ملك اليهود فإنه يملك على جميع الشعوب لقد كان بإمكان ذلك الجذع ساعة طعمتّ فيه الزيتونة أن يحولها إليه إنما لم يكن بوسعه أن ينزع عنها اسم الزيتونة.
وإن الجنود الذين اقتسموا ثيابه يمثلون قارات العالم الخمس حيث يجب أن تنشر تعاليمه. والقميص ذو النسج الواحد ، الذي اقترعوا عليه ولم يقتسموة ، يشير بوضوح إلي أن الأسرار المنظورة .
وإن تكن على مثال ثياب المسيح جديرة بأن يقبلها الجميع أبراراً كانوا أم أشراراً أما الإيمان الصادق الذي يعمل بالمحبة ونقاوة الوحدة .
طال ما أن محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه فليس من نصيب الكل بل تمنحه النعمة الخفية بقرار خاص.
ولذلك قال بطرس لسيمون الذي قبل العماد دون النعمة: لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِي هَذَا الأَمْرِ (أع21:8). وكإنسان محب أوصي ، وهو على صليبه ، بأمه تلميذه الحبيب. وقبل أن تأتي ساعته حوّل الماء خمراً وقال لتك الأم بالذات: مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ (يو 2: 4)
لم يأخذ من مريم ما له كإله كما أخذ منها ما علّق على الصليب.
وإذا قال: أَنَا عَطْشَانُ (يو 19: 28) ، كان يبحث عن الإيمان لدي خاصته. وإذا جاء إلي خاصته ولم تقبله خاصته قدّموا له مرارة الخل على اسفنجة بدلاً من عذوبة الإيمان.
لا يجوز لنا أن نشبه الأقوياء بالأسفنجة بل المنتفخين كبراً ؛ ولا يجوز أن نشبه بها المستسلمين إلي إيمان مستقيم بل المغفلين على أنفسهم تحت وطأة مداخلات الشرير ومكائده.
أكيد بأن ذاك الشراب كان يحتوي على الحنظل ، تلك النبته الوضيعة التي تلتصق بالصخر بواسطة جذر لها قوي .
وأتخذ ذاك الإثم في ذلك الشعب ترويضاً للنفس بالندامة وحفظاً لها بعيداً عنه. إن الذي شرب المم ممزوجاً بالخل كان يميزّ بينهما حين صلي من أجلهم على الصليب بشهادة الإنجيلي قائلاً: يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لو 23: 34).
وحين قال: لقد تم كل شيء وأحنى رأسه وأسلم الروح وأشار إلي أنه لا يموت بقوة حتمية بل بقدرته الذاتية تحقيقاً للنبوءات عنه. وهذا أيضاً قد كتب فيه: وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ (مز 69: 21) كمن له سلطان أن يبذل نفسه وفقاً لما أكده هو ذاته
(يو 6 : 51) (يو 10 : 18) لقد اسلم الروح وحنى رأسه ليشهد للتواضع لأن قيامته سوف تتم مرفوع الرأس. وأعلن ذاك الإنجيل أيضاً إنهم لما رأوه مات لم يكسروا بل كسروا سوق المصلوبين الآخرين لتتحقق نبوءات الفصح اليهودي القائلة بالاّ يكسر عظم من حمل الفصح.
وذاك الجنب المفتوح بالحربة وقد جري منه دم وماء كان رمزاً للأسرار التي تكونت الكنيسة منها كما استلت حواء من جنب أدم أصل الجنس البشري كله وهو نائم.
وليوسف ونيقوديموس اللذين دفناه كما لكثيرين سواهما من الناس معان ورموز: فيوسف يعني التقدم ونيقوديموس لفظة يونانية مركبة من شقين: نصر وشعب.
وأي شعب أخصب من موت القائل: إن حبة الحنطة إن لم تمت تبقي مفردة وإن ماتت تأتي بثمار كثيرة. ومن الذي ينتصر بالموت على مضطهديه سوي ذاك الذي سوف يدينهم بقيامته؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ عن كتاب -خواطر فيلسوف في الحياة الروحية
المصدر مدونة كتابات الاباء القديسين